تتواصل الاحتجاجات الشعبية، لليوم الثالث على التوالي، في مناطق مختلفة من السودان، منها العاصمة الخرطوم، مسجلة سقوط قتلى وجرحى، تزامنا مع ارتفاع سقف المطالب والوصول إلى المطالبة بإسقاط نظام عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ عقود عدة، ما دفع السلطات إلى اعلان حالة الطوارئ في بعض المدن لتطويق الاحتجاجات والحدّ من انتشارها.
قتلى وجرحى
وصل عدد قتل الاحتجاجات على ارتفاع أسعار الخبز في السودان إلى ثمانية أشخاص، ستة منهم قتلوا في مدينة القضارف (شرق)، فيما قتل شخصين في مدينة عطبرة التابعة لولاية نهر النيل (شمال)، في المقابل تضاربت أرقام وسائل الإعلام المحلية في إحصاء عدد الجرحى، نتيجة صعوبة الأوضاع في الميدان وغياب المعلومة الكاملة.
وقال معتمد القضارف، الطيب الأمين طه، لمحطة تلفزيون “سودانية 24” المستقلة “سقط ستة قتلى وعدد من الجرحى” من دون أن يوضح ظروف سقوط القتلى والجرحى”. كما قال المتحدث باسم حكومة ولاية نهر النيل (شمال) إبراهيم مختار إن اثنين من المحتجين قتلا الخميس في عطبرة، من دون أن يقدم تفاصيل إضافية.
وأمس أعلن معتمد القضارف أن السلطات أعلنت حالة الطوارئ في المدينة وحظرت التجول من السادسة مساء إلى السادسة صباحا. وكانت السلطات قد أعلنت حالة الطوارئ وحظر التجول في مدينة عطبرة عقب تطور الاحتجاجات، لتعممه بعد ذلك في كامل محافظة نهر النيل بعد اتساع الاحتجاجات في مدينة بربر -القريبة من عطبرة- ومدينتي الباوقة والزيداب.
انتشار سريع
رغم محاولات السلطات السودانية الحدّ من هذه التظاهرات، فقد عرفت انتشارا كبيرا، وامتدت الاحتجاجات إلى العاصمة الخرطوم حيث أغلق طلاب ثلاث جامعات شوارع رئيسية في أم درمان المدينة التوأم للخرطوم والجزء الغربي من العاصمة. كما أطلقت الشرطة السودانية الغاز المسيل للدموع لتفريق محتجين على مقربة من القصر الرئاسي في الخرطوم.
وكانت مدن عطبرة والنهود وبورتسودان والدامر ومناطق أخرى قد شهدت يوم الاربعاء والخميس، مظاهرات انخرط فيها المئات من المواطنين بينهم طلاب مدارس احتجاجا على غلاء المعيشة وندرة السلع الأساسية، واجهتها الشرطة بالغازات المسيلة للدموع.
شرارة هذه الاحتجاجات انطلقت من مدينة عطبرة المدينة الثانية في محافظة نهر النيل بعد عاصمتها الدامر، وتمّ ذلك يوم الاربعاء، عندما خرج طلاب المدارس وعمال السكة الحديد لتناول وجبة الإفطار بالمطاعم وسط المدينة غير أنهم فوجئوا بانعدام الخبز، فقاموا بإغلاق الشارع المؤدي إلى مبنى التلفزيون.
تعتبر هذه الاحتجاجات، الأقوى من نوعها التي تشهدها مدن السودان في السنوات الأخيرة
لحظات قليلة حتى تدخّلت قوات الأمن لمحاولة تفريقهم، فتحركوا نحو حديقة البلدية واتجهت التظاهرة شرقا نحو السينما الوطنية، وعَبَر المتظاهرون جسر الحرية حيث وصلوا إلى مبنى العموم (رئاسة السكة الحديد) وهتفوا قائلين: “السكة حديد تهز وترز″، ومن ثم توجهوا إلى كلية التربية التابعة لجامعة وادي النيل، التي يخضع طلابها للامتحانات سنوية ومنها إلى ورش السكة الحديد.
وتشهد المدن السودانية منذ ثلاثة أسابيع شحا في الخبز، اضطُر المواطنين للانتظار لساعات أمام المخابز. ويستهلك السودان 2.5 مليون طن من القمح سنويا ينتج منها 40% وفق أرقام حكومية. وفي الفترة الأخيرة زاد سعر رغيف الخبز من جنيه إلى خمسة جنيهات.
ويمثّل شح إمدادات الدقيق وندرة الوقود، وارتفاع سعر رغيف الخبز من جنيه واحد إلى خمسة جنيهات، على الرغم من عدم وجود قرار حكومي رسمي يقضي برفع سعر الخبز في الأسواق، أبرز أسباب اندلاع هذه الاحتجاجات.
ويأتي هذه الاحتجاجات في الوقت الذي تتطلع فيه الخرطوم لخفض الإنفاق من أجل معالجة النقص الشديد في العملة الصعبة والتراجع الاقتصادي. ويواجه اقتصاد السودان صعوبات منذ انفصال الجنوب في عام 2011 مستحوذا على ثلاثة أرباع إنتاج النفط ليحرم الخرطوم من مصدر حيوي للعملة الصعبة.
اسقاط النظام
لم يتوقفّ المحتجون في مختلف مدن السودان عن المطالبة بتوفير الخبز والوقود فقط، بل طالبوا أيضا بإسقاط نظام عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ يونيو/حزيران 1989 إثر انقلاب عسكري على الحكومة برئاسة رئيس الوزراء المنتخب في تلك الفترة الصادق المهدي.
وردد المحتجون في المظاهرات التي شهدتها مدن البلاد الهتاف الذي بدأ في احتجاجات عطبرة “شرقت شرقت.. عطبرة مرقت” مع تخصيص المتظاهرين أسماء مدنهم. كما هتفوا بشعارات “الشعب يريد تغيير النظام”، و”حرية سلام وعدالة.. الثورة خيار الشعب”، و”نحن مرقنا ضد الناس الأكلو عرقنا.. ضد الناس القتلوا ولدنا”.
وتزامن رفع المحتجين شعارات تنادي بإسقاط النظام، مع اقدام بعضهم على حرق مقرات لحزب المؤتمر الوطني الحاكم مثلما حصل في مدينتي دنقلا والقضارف في شمال وشرق البلاد، ما يؤشّر لارتفاع منسوب الغضب من سياسات الحزب الحاكم.
ارتفاع حدّة التظاهرات في مختلف المدن
بالرجوع إلى للشعارات التي ترفع في المظاهرات، فإن النظام الحاكم هو المسؤول عمّا بلغ إليه الوضع في السودان. وهو ما تردده أيضا المعارضة، التي تتهم البشير بالفشل في التعاطي مع الأزمة السياسية الضاغطة وتدبير الموارد وبملاحقة المعارضين، إضافة إلى الفشل في التعاطي مع الحروب الثلاث، التي تديرها القوات السودانية مع المتمردين في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ويشدّد عديد السودانيين على ضرورة التغيير السلمي للسلطة في بلادهم، نتيجة فشل سياسات البشير، وفي سبتمبر/أيلول الماضي حلّ الرئيس عمر الحكومة وأعلن عن خفض عدد الوزارات إلى 21 من 31 وزارة، وذلك “لمعالجة الأوضاع الاقتصادية التي واجهتها البلاد خلال الفترة الماضية”.
نظام الرئيس عمر البشير يهتز
تعتبر هذه الاحتجاجات، الأقوى من نوعها التي تشهدها مدن السودان في السنوات الأخيرة، ما جعل السلطات الحاكمة أكثر خشية منها، ما دفعها لاستعمال العنف لتفريق المحتجين واحتواء التظاهرات حتى لا تتسع رقعتها أكثر.
ويقول الإعلامي السوداني خالد أحمد في هذا الشأن، “الحكومة تخشى الاحتجاجات ونظام الرئيس عمر البشير يهتز الأن.” ويبرّر أحمد ما ذهب إليه في حديثه لنون بوست بالقول إن” هذه الاحتجاجات يمكن أن تتحول في أي وقت لثورة شعبية تهدد عرش البشير ومن حوله.”
ويضيف خالد أحمد، “حتى الأن الاحتجاجات تأخذ طابعا شعبيا ولم تنزل القوى السياسية الشارع لتنظيمها وقياداتها وإذا حدث ذلك يمكن أن يتطور الأمر لإسقاط النظام خاصة وأنه من الناحية السياسية قد سقط فقد أحرقت الجماهير أغلب مقاره وتم طرد منسوبيه.”
وعلى غرار ما حدث عام 2013 لا يوجد تيار سياسي يقود هذه الاحتجاجات التي تبدو عفوية، ما يصعب التنبؤ بالاتجاه الذي ستسلكه هذه المظاهرات والطريقة التي ستتعامل الحكومة معها باستثناء اعتماد الحل الأمني.
ويؤكّد الإعلامي السوداني في معرض حديثه لنون أن “الحكومة السودانية ليس لديها أي حلول للأزمة التي تشهدها البلاد منذ سنوات، لذلك خرج المواطنين بشكل عفوي للتعبير عن رفضهم لهذا الوضع، ما دفع قوات الأمن لقمعهم وقتل بعضهم واعتقال أخرين.”
أقدمت السلطات السودانية إلى حظر مواقع التواصل الاجتماعي
يزيد الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد، من مخاوف نظام عمر البشير، ويعدّ السودان من أفقر الدول في العالم، فهو يحتل المرتبة 167 في مؤشر التنمية البشرية الصادر عام 2018، وذلك من مجموع 188 دولة حول العالم.
أما معدل التضخم فقد بلغ 63,86 في يونيو/ حزيران الماضي، وفقا لتقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء، نقلته وكالة أنباء السودان الرسمية. وبلغ معدل البطالة بين السودانيين 20%، بحسب بيانات رسمية، مع تنبؤات بأن مؤشر النمو لن يزداد هذا العام بأكثر من 0.5 % عن العام الذين سبقه، حين سُجلت نسبة 3.2 %.
ويعاني البنك المركزي السوداني من نقص في العملات الأجنبية الأمر الذي جعله يخفض قيمة الجنيه السوداني خلال 2018 أربع مرات، ما جعل أسعار عديد السلع الأساسية ترتفع بشكل كبير، الأمر الذي أثر سلبا على القدرة الشرائية للسودانيين.
رغم الحظر مواقع التواصل الاجتماعي تنتفض
إلى جانب الحلّ الأمني، أقدمت السلطات السودانية إلى حظر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث توقَّف مساء الخميس، كل من تطبيق واتساب وموقع فيسبوك عن العمل لدى مستخدميه في السودان وذلك بحسب إفادات عدد من السودانيين لنون بوست.
وقد أدى هذا العطل المفاجئ إلى توقف إجراء أي عملية بتطبيق واتساب، كما تعثر الدخول تماماً لموقع فيسبوك أو المسنجر، وأرجع الإعلامي السوداني خالد أحمد سبب هذا الاجراء إلى سعي السلطات الحاكمة لتعطيل تنسيق الاحتجاجات، فضلا عن رغبتها في وقف تبادل الاخبار، والكشف عن حجم القمع الذي يتعرض له المواطنين.”
غير أن هذا الحظر لم يمنع مدونين ونشطاء سودانيين من تدشين حملات مساندة للحراك الشعبي، حيث عرفت مواقع التواصل الاجتماعي تدشين حملة تحت وسم مدن السودان تنتفض. وتحت هذا الوسم نشر الناشط السياسي السوداني أسعد علي حسان مقطع فيديو يظهر خروج مئات المحتجين عقب صلاة الجمعة في إحدى مدن البلاد.
ونشرت صفحة تعنى بالشأن السوداني مقطع فيديو يوثق للحظة إطلاق قوات الأمن الرصاص الحي في وجه المحتجين، ولقى هذا الفيديو انتشارا كبيرا، حيث شاهده أكثر من 60 ألف متابع، ووثقت نفس الصفحة الاحتجاجات لحظة بلحظة.
ونشر ناشط يدعى أشرف علي تغريدة، تضمّنت ميزانيات نفقات رئاسة الجمهورية والدفاع والأمن والبرلمان وقارنها بالميزانية المخصّصة للصحة والدعم والتعليم، وقال “قوموا لثورتكم يرحمكم الله”، وذلك لدفع الناس للخروج في المظاهرات ضد نظام البشير.
ميزانيه ٢٠١٩ شوفو البشير خاتي لي نفسو قروش قدر شنو
814.6 مليون نفقات رئاسة الجمهورية
351.3 مليون للتأمين الرئاسي
14.1 مليون للدفاع
10.2 مليون للأمن
8.7 مليون للدعم السريع
900 مليون للبرلمان
و للأسف 2.8 للصحة | ٥.٧ للتعليم
قومو لثورتكم يرحمكم الله… pic.twitter.com/GyurXCgZnk
— Ashraf Ali (@ashraf3600) December 21, 2018
بدورها نشرت السودانية أمنة القاسم، صورة على حسابها الخاص بموقع التواصل الاجتماعي توتير تظهر عدد من المتظاهرين رافعين شعار النصر، وكتبت فوق الصورة معلقة، “مشينا خطوة الى الامام ومافي تراجع”.
#مدن_السودان_تنتفض
مشينا خطوة الى الامام ومافي تراجع pic.twitter.com/MBAnyfQlOP
— كِنز 🌼 (@ransyadrys) December 21, 2018
التفاعل مع ما يحدث في السودان لم يكن من السودانيين فقط، فقد كتب الإعلامي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي تغريدة جاء فيها، “شعب السودان هو الشعب الوحيد من بين الشعوب العربية الذي أطاح بحاكمه العسكري مرتين، لكن البشير لم يتعلم من سقوط عبُّود والنميري، ولا من زهد سوار الذهب وكرامته.”
شعب #السودان هو الشعب الوحيد من بين الشعوب العربية الذي أطاح بحاكمه العسكري مرتين، لكن #البشير لم يتعلم من سقوط عبُّود والنميري، ولا من زهد سوار الذهب وكرامته. لا أحد سيأسف على البشير، لكن يا أسفا على الحركة الإسلامية التي اتخذها مطية، وأهدر رصيدها الأخلاقي#مدن_السودان_تنتفض
— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) December 19, 2018
من جهته كتب، مقدّم البرنامج السياسي الساخر جو شو يوسف حسين، تغريدة جاء فيها، “أحداث السودان وكل تحرك شبابي في أي دولة يطالب بالحرية والعدالة والمساواة بشكل سلمي هو دليل علي إنه مازال فيه ناس بتحمل تعيش نضيفه رغم كل محاولات التزييف.”
أحداث #السودان وكل تحرك شبابي في أي دولة يطالب بالحرية والعدالة والمساواه بشكل سلمي هو دليل علي إنه مازال فيه ناس بتحلم تعيش نضيفة رغم كل محاولات التزييف .
#مدن_السـودان_تنتفض
— Joe (@youssef_hussen) December 20, 2018
في نفس الإطار كتب الشاعر المصري عبد الرحمن يوسف تدوينة على حسابه الخاص في موقع التواصل الاجتماعي توتير، للتعبير عن دعمه لما يحصل في مدن السودان المختلفة، وجاء في التغريدة، “قلوبنا مع إخوتنا في السودان… قلوبنا مع كل شعب ضد كل مستبد محلي أو أجنبي.”
قلوبنا مع إخوتنا في #السودان… قلوبنا مع كل شعب ضد كل مستبد محلي أو أجنبي !#يسقط_عمر_البشير#مدن_السودان_تنتفض pic.twitter.com/yqsUhLPj0u
— الشاعر عبدالرحمن يوسف (@arahmanyusuf) December 20, 2018
مع مرور الوقت واتساع رقعة الاحتجاجات ووصولها العاصمة الخرطوم وتغيرّ مطالبها من مجرد مطالب اجتماعية واقتصادية إلى مطالب سياسية تنادي بسقوط النظام، يجد الرئيس السوداني عمر البشير نفسه في مأزق كبير يهدّد عرشه المتهالك، فهل يمكن للمقاربة الأمنية التي اعتمدها أن تنجيه من رياح هذه الاحتجاجات؟