في الوقت الذي تعيش فيه المنطقة أجواء ما قبل حرب إقليمية، يواصل الأردن مساعيه لتحقيق هدفين اثنين: تجنيب المملكة أي تصعيد مُحتمل قادم، ومحاولة نزع فتيل حرائق شاملة بالمحيط، من الصعب اتخاذ موقف حيادي تجاهها.
بعد أيام من زيارة أجراها وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، إلى عمان، حط وزير الخارجية الأردني رحاله في دمشق، والتقى كلًا من نظيره السوري، بسام صباغ، ورئيس النظام، بشار الأسد.
وفي بيان بروتوكولي بحت، قالت وكالة “سانا” السورية الرسمية، إن اللقاء بين الأسد والصفدي تضمن بحث “العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تعزيزها، وملف عودة اللاجئين السوريين”، كما ناقش فيها الأسد “التطورات الراهنة والخطيرة في المنطقة”.
وقالت الوكالة نفسها، إن الصفدي نقل “رسالة شفوية من الملك عبد الله الثاني ملك المملكة الأردنية الهاشمية حول مجموعة من الملفات الثنائية والإقليمية، إضافة لملف الأزمة في سوريا”.
وفق التصريحات التي يتم تقديمها عادةً للتداول الإعلامي، شكل ملف عودة اللاجئين السوريين محورًا رئيسيًا للنقاش بين الصفدي والأسد، حيث أكد الأخير “أن تأمين متطلبات العودة الآمنة للاجئين السوريين أولوية للدولة السورية”، مشددًا على أن سوريا قطعت شوطًا مهمًا في الإجراءات المساعدة على العودة، ولا سيما لناحية البيئة القانونية والتشريعية المطلوبة.
فيما نقلت وكالة الأنباء الأردنية، أن النقاشات تضمنت كذلك الحديث عن “خطر تهريب المخدرات”، و”حل الأزمة السورية بما يضمن وحدة سوريا وتماسكها وسيادتها ويحقق طموحات شعبها ويعيد لها أمنها وعافيتها واستقرارها ويهيئ ظروف العودة الطوعية للاجئين ضرورة إقليمية يعمل الأردن بشكل متواصل من أجل تحقيقها”، وأن الرسالة تناولت “التصعيد الخطير الذي تشهده المنطقة وجهود إنهائه، ووقف العدوان على غزة ولبنان والإجراءات الإسرائيلية اللاشرعية التصعيدية في الضفة الغربية يشكل خطوته الأولى”.
استقبل فخامة رئيس الجمهورية العربية السورية الشقيقة بشار الأسد، اليوم، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي@AymanHsafadi ، الذي نقل له رسالة شفوية من جلالة الملك عبدالله الثاني تناولت عددًا من القضايا الثنائية، وجهود حل الأزمة السورية ومعالجة كل تبعاتها،… pic.twitter.com/JOetIeyxwG
— وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية (@ForeignMinistry) October 20, 2024
من نافلة القول، إن التصريحات الرسمية الواردة من كلا الجانبين لا تخرج عن نطاق الاستهلاك الإعلامي والبروتوكولات المتبعة، فيما تُخفي الزيارة رسائل “أكثر سخونة”، بعضها حمله وزير الخارجية الأردني من دولته بشكل مباشر، والآخر “كُلف بنقله” من أطراف أخرى، كما تخفي النقاشات في دمشق معلومات أراد الصفدي إيصالها للأسد بشكل مباشر.
هواجس أردنية
تأتي زيادة وزير الخارجية الأردني إلى دمشق في توقيت تواجه فيه المملكة عدة هواجس، إذ من الممكن أن تصبح فيه -دون إرادتها- طرفًا في أي تصعيد إقليمي قادم.
ويبدو هاجس التصعيد بين إيران و”إسرائيل” أحد أكبر التهديدات التي تواجه عمان، مع اقتراب موعد “الرد الإسرائيلي” على الهجوم الإيراني الأخير، والتوقعات بـ”رد على الرد” من طهران.
أما علاقة الأردن بالرد الإسرائيلي المتوقع، فتبدو من خلال التصريحات التي أدلى بها الملك عبد الله الثاني خلال استقباله وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إذ أكد العاهل الأردني أن بلاده “لن تكون ساحة للصراعات الإقليمية”، مشددًا على ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة، في إشارة إلى ما ذكرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية قبل أيام، بشأن تحذيرات وجهتها طهران لعدة دول عربية حليفة لواشنطن – بينها الأردن – بإمكانية ضرب بناها التحتية في حال سمحت لـ”إسرائيل” باستخدام أجوائها لضرب مواقع إيرانية.
وهو ما شدد عليه وزير الخارجية الإيراني بشكل غير مباشر خلال زيارته للكويت، إذ صرح من هناك، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الكويتي، أن “دول الجوار لن تسمح باستخدام مجالها الجوي في أي هجوم ضد طهران”، مشيرًا إلى أن احتمالات اندلاع حرب شاملة في المنطقة “واردة” في ظل التطورات الأخيرة.
غير أن التهديدات الإيرانية “غير المباشرة” للأردن، لا تتعلق فقط بمطالبة عمان بعدم فتح أجوائها أمام “إسرائيل” لضرب مواقع إيرانية، إنما تتعلق أيضًا بمطالبة عمان بـ”موقف حيادي” في حال قررت طهران “الرد على الرد الإسرائيلي”، إذ كان الأردن خلال الهجومين السابقين لإيران على “إسرائيل”، ميدانًا لمرور صواريخ باليستية ومسيرات إيرانية، سقط بعضها بالفعل في الأراضي الأردنية، وهنا تتوقع طهران من المملكة ألا تساعد في التصدي للهجوم المُحتمل.
وفي هذا الصدد، لا تخرج زيارة وزير الخارجية الأردني عن مساعٍ حثيثة تبذلها عمان، بشكل ذاتي وبتكليف من واشنطن، لدى دول “المحور الإيراني”، وعلى رأسها سوريا، من أجل بحث سبل التهدئة من جهة، وتحذير دمشق بأنها ستكون “الجهة الأكثر هشاشة” في حال اندلاع المواجهة الإقليمية، مع مخاوف عالية المستوى لدى عمان من أن سوريا ستشكل مسرحًا عسكريًا مفتوحًا في حال قررت إيران استخدامها للمواجهة، وهو ما يجعل الحدود الشمالية للمملكة، مفتوحة على خيارات خطيرة.
أخطار عالية المستوى من سوريا
ربما كانت المخاوف من الخاصرة الشمالية للأردن – بحدود تمتد لنحو 370 كيلومترًا مع سوريا – ليست وليدة اليوم، فالتطبيع الذي اختارته المملكة مع الأسد منذ العام 2018، لم يفلح في منع تهريب المخدرات والأسلحة والأشخاص من الحدود السورية، غير أن الحديث عن تهريب مخدرات وأسلحة يبدو مجرد “تهديد خفيف الوزن”، بالمقارنة مع سيناريوهات أكثر سخونة ومخاوف أكثر خطورة من جهة الحدود مع سوريا.
خلال الأسابيع الثلاث الماضية، زادت ما تسمى “فصائل المقاومة الإسلامية بالعراق”، مستوى هجماتها بالطائرات المسيرة نحو أهداف داخل حدود “إسرائيل”، انطلاقًا من الجولان السوري المحتل، وأدى هجوم لتلك الفصائل – التي لم تصرح بتبعيتها لإيران رغم وضوح ذلك – على قاعدة عسكرية إسرائيلية بالجولان، في 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إلى مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة أكثر من 20 آخرين، وقبل ذلك في 23 سبتمبر/أيلول هاجمت أهدافًا في غور الأردن المحتل.
وتبدو معضلة انتشار الميليشيات المرتبطة بإيران، أكبر بكثير من مشكلة تهريب الأسلحة والمخدرات، لا سيما أن تلك الفصائل هددت الأردن جديًا في أوقات سابقة، ففي أبريل/نيسان الماضي، قالت كتائب حزب الله العراقية إنها جهزت أسلحة وقاذفات مضادة للدروع وصواريخ تكتيكية لمقاتلين في الأردن، تحت اسم “المقاومة الإسلامية في الأردن”، وأشار المسؤول الأمني للكتائب، أبو علي العسكري، إلى أن “المقاومة الإسلامية في العراق أعدت عدتها لتجهيز المقاومة الإسلامية في الأردن بما يسد حاجة 12 ألف مقاتل من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقاذفات ضد الدروع والصواريخ التكتيكية وملايين الذخائر وأطنان من المتفجرات، لنكون يدًا واحدة للدفاع عن أخوتنا الفلسطينيين”.
وفي أبريل/نيسان أبريل الماضي، نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين وإيرانيين، أن طهران تدير طرق تهريب سرية عبر الشرق الأوسط، وتوظف عملاء استخبارات ومسلحين بهدف توصيل أسلحة إلى الضفة الغربية، وقال المسؤولون للصحيفة إن العديد من الأسلحة المهربة إلى الضفة الغربية تنتقل من إيران، عبر العراق وسوريا ولبنان والأردن، لتصل إلى أفراد عصابات إجرامية منظمة ومسلحين متشددين وجنود وعملاء استخبارات.
رسالتان مباشرتان
بعد 4 شهور، وتحديدًا في نهاية أغسطس/آب الماضي، اتهم وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إيران بتهريب الأسلحة إلى الأردن ومن بعدها إلى الضفة الغربية، مؤكدًا أن طهران تعمل على إنشاء “جبهة شرقية” ضد إسرائيل، ومطالبًا بإجراء “احتياطات دفاعية” على الحدود الأردنية، وهو ما رفع مخاوف المملكة من اشتعال الضفة الغربية، التي تعني فعليًا دخول الأردن في أتون الحرب بعد أكثر من عامٍ على اندلاع الحرب في غزة.
“تشكل المملكة الأردنية طرفًا هشًا وسط تأثير الدومينو الذي يعصف بالشرق الأوسط”، وفقًا لتعبير صحيفة معاريف العبرية، التي أوضحت أن إشعال النيران بالمملكة يُعد من ضمن الأهداف الاستراتيجية لإيران، إذ يبدو أن “صغر المملكة، وضعف النظام، وضائقته السياسية – الاقتصادية، وأساسًا موقعه الجغرافي بين سوريا والعراق و”إسرائيل” والسعودية، يجعله هدفًا جذابًا لإيران. فهذه تسعى إلى ضرب نسيجه الاجتماعي، مثلما تضرب أيضًا أمنه وسيادته ووحدته الإقليمية”.
وفقًا لذلك، فإن الأردن الذي يحاول السيطرة على حدوده مع العراق (نحو 178 كليومترًا)، وتفصل بين الدولتين مساحات شاسعة من الصحاري، يجد أن أي تهديد إيراني تجاهه لن يمر عبر حدوده الشمالية مع سوريا، ولعل هذه تبدو الرسالة المباشرة والصارخة من ملك الأردن تجاه بشار الأسد في هذه المرحلة الحرجة: “لا تسمح للنار أن تأتي من حدودنا المشتركة”.
وإذا كان الأمن القومي الأردني ومحاولة تأمين الحدود الشمالية مع سوريا هو الرسالة الأبرز، فإن العاهل الأردني أراد في الوقت نفسه إيصال رسالة ثانية “غير شخصية” للأسد، إما من باب النصح وإما من باب التحذير، تتعلق بتصعيد قادم محتمل ضد الفصائل الإيرانية في سوريا.
وتشير عبارة “غير شخصية” إلى أن الأردن كُلف من قبل محوره العربي، بتحذير دمشق من أي تصرفات غير محسوبة في منطقة الجولان المحتل، التي تقوم فيها “إسرائيل” حاليًا بإنشاء ممر أمني يعزل المنطقة عن حدود لبنان ويحاصر “حزب الله” في منطقة البقاع، بالتوازي مع زيادة حدة الضربات ضد الحزب وفصائل تابعة للحرس الثوري الإيراني داخل سوريا. تقول الرسالة الثانية للأسد – وبمنتهى الوضوح أيضًا -: المرحلة لا تحتمل أي مغامرات قد تطيح بكرسيك ونظامك.