في فيلم “السفارة في العمارة”، كان شريف خيري يتأرجح بين الخائن ورمز الصمود، بناءً على مواقفه المتغيرة من القضية الفلسطينية. وفي السودان، يبدو أن الجنرال أبو عاقلة كيكل يعيش نفس الحالة من التقلب، حيث يتم تقييمه بين البطل والخائن وفقًا لموقفه من طرفي الصراع.
في خطوة يبدو أن لها ما بعدها، أعلن الجيش السوداني، الأحد الماضي، أن قائد مليشيا الدعم السريع بولاية الجزيرة، الجنرال أبو عاقلة كيكل، سلّم نفسه مع كامل قواته، إيذانًا بمغادرته لمحطة التمرد، والانضمام للقتال في صفوف القوات المسلحة، ما يعكس تحولًا مهمًا في معادلة الصراع المحتدم بين الطرفين.
وكان كيكل وجه ضربة موجعة للجيش، نهايات العام 2023، بقيادته المليشيا عبر طرق غير مأهولة ارتبطت بأنشطة التهريب غير القانوني، لبسط نفوذها على معظم أراضي ولاية الجزيرة، جنوبيِّ العاصمة الخرطوم، بما في ذلك، حاضرة الولاية، ود مدني.
وباحتلالها لولاية الجزيرة، استطاعت ميليشيا الدعم السريع تعزيز موقفها الميداني في ولايات وسط البلاد، ما أتاح لها تأمين خطوط الإمداد بالمقاتلين والسلاح، وإمكانية الانفتاح شرقًا واحتلال أجزاء واسعة من ولاية سنار، وهو ما وضع ثلاث ولايات أخرى في خطر الاجتياح، وهي: القضارف والنيل الأزرق والنيل الأبيض.
أهمية كيكل
لا تكمن أهمية كيكل في كونه مرشدًا لمن يريد عبور الفيافي وحسب، لكن لأنه مؤسس ميليشيا “درع السودان” التي تكونت عام 2022 من أبناء قبائل الوسط والشمال، لتكون مكافئًا للحركات المسلحة التي نالت نصيبًا من كعكة السلطة، بموجب اتفاق بين الحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين، وفصيل الجبهة الثورية المتمرد على سلطات الرئيس المعزول عمر البشير.
وانتقد كيكل اتفاق جوبا بشكل علني، معبرًا عن قلقه من تمكين أبناء المناطق المتضررة من الحرب، مثل دارفور والنيل الأزرق، وفتح المجال أمامهم لترتيبات أمنية تؤدي إلى إدماجهم في الجيش الوطني، في مقابل ما يراه تهميشًا لمكونات الوسط والشريط النيلي.
وفي ظل الفوضى الناجمة عن انتشار السلاح والفصائل المسلحة بعد سقوط البشير، لقيت تحركات كيكل دعمًا كبيرًا، لا سيما في منطقة البطانة (مسقط رأسه)، ومن ثم تواترت أنباء عن تأييد الجيش والدعم السريع لهذه القوات. يُستدل على ذلك من تجاهلهم لتحركاته وحشده للشباب وتسليحهم، وغض الطرف عن ارتدائه زيًا عسكريًا مزينًا برتبة اللواء، دون أن يكون قد تلقى تدريبًا نظاميًا في الكلية الحربية.
بعد اندلاع حرب 15 أبريل/نيسان التي أسفرت عن مقتل أكثر من 16 ألف شخص، وتشريد نحو 11 مليون سوداني، أعلن كيكل بشكل مفاجئ انضمامه للدعم السريع في يوليو/تموز 2023. وتمكنت قواته التي تقدر بأكثر من 10 آلاف مقاتل بحسب إحصائية غير رسمية، من تعزيز نفوذ الميليشيا في مناطق واسعة شرق الخرطوم، فيما يظل الظهور الأبرز له في قيادته الدعم السريع لاجتياح ولاية الجزيرة في ديسمبر/كانون الأول 2023.
روايتان حول التسليم
توجد روايتان حول تسليم كيكل نفسه للجيش. الرواية الأولى، التي تحظى بتأييد واسع، تشير إلى أن تسليمه لنفسه جاء إثر مفاوضات مكثفة استمرت لشهرين، بمشاركة بعض أفراد أسرته، وانتهت هذه المفاوضات بتقديم ضمانات كافية له من قبل الجيش، ليسلم نفسه لقائد منطقة البطانة العسكرية، العميد أحمد شاع الدين، في منطقة جبال الأبايتور، الواقعة على بعد 65 كيلومترًا شرق مدينة رفاعة بولاية الجزيرة.
أما الرواية الثانية، فتشير إلى أنه انضم للجيش بعد أن أصبح مقتنعًا بأن هزيمة المليشيا باتت مسألة وقت، خاصة مع تقدم الجيش وفرضه حصارًا محكمًا على ولاية الجزيرة بهدف استعادة السيطرة عليها، وإن كان هذا التقدم بطيئًا.
سارع الجيش بالترحيب بانضمام كيكل إلى صفوفه، واعتبر في بيان رسمي أن هذه الخطوة تُعد “شجاعة”، معلنًا إصدار عفو عام عنه، وفقًا لأوامر القائد العام، الجنرال عبد الفتاح البرهان.
وأوضح البيان أن أبواب الجيش “مشرعة لكل من ينحاز إلى صف الوطن وقواته المسلحة”، مشيرًا إلى أن العفو يشمل أي متمرد ينضم إلى جانب الوطن ويبلغ أقرب قيادة عسكرية في مناطق السودان.
من جانبها، قللت الدعم السريع من تأثير انسلاخ قائدها بولاية الجزيرة، مؤكدة في بيان رسمي أن كيكل تم “شراؤه” عبر مساومة مع حزب المؤتمر الوطني، الذي كان يقوده المعزول البشير. وشددت على أن هذا الأمر لن يؤثر على موقفهم الميداني، ولن يهز معنويات عناصرهم أو مساعيهم للإطاحة بسلطة الجيش، التي وصفوها بأنها مختطفة من الإسلاميين.
تأثير ميداني
في أول ردود الفعل العسكرية، شهدت منطقة شرق ولاية الجزيرة، حيث كان يقيم كيكل، عمليات عسكرية نشطة منذ الأحد، تضمنت استخدام الطيران الحربي. وأفاد شهود عيان لـ”نون بوست” بأن الجيش عزز حصاره وتقدمه في الولاية، مع تحركات عسكرية تهدف إلى قطع طرق الإمداد للمليشيا بين ولايتي الخرطوم والجزيرة.
من جهتها، أعلنت الميليشيا أنها صدت محاولة للجيش للسيطرة على مدينة تمبول الاستراتيجية بولاية الجزيرة، مؤكدة أنها قتلت أكثر من 200 عنصر من الجيش ومتمردي كيكل، واستولت على 45 مركبة كاملة العتاد.
وتوقع الخبير العسكري، العقيد علي يوسف، أن تشهد ولاية الجزيرة صدامات عسكرية واسعة في الفترة المقبلة، نتيجة محاولات الجيش لتحرير الولاية، في مواجهة استماتة الدعم السريع للإبقاء على سلطتها المركزية.
وقال يوسف لـ”نون بوست” إن انضمام كيكل لصفوف الجيش أمده بقوة إضافية، حيث ساهم في تعزيز قواته بقوات كبيرة مدربة، ذات خبرة في مجاهيل منطقة البطانة، مشيرًا إلى أن ذلك سيساهم في تحييد أهالي كيكل في شرق الجزيرة، التي يعدها كثيرون بمثابة الحاضنة الاجتماعية لمليشيا الدعم السريع، ما يؤثر معنويًا على مقاتليها، حيث بدأ بعضهم يفكر في إلقاء سلاحه، والانسحاب من الولاية.
وفي سياق متصل، طالب يوسف أهالي الجزيرة باتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر، خصوصًا خلال أوقات الاشتباكات، والابتعاد عن المناطق العسكرية، وأعرب عن قلقه من احتمال سعي عناصر المليشيا لتحويل الضغوط العسكرية إلى أعمال انتقامية ضد السكان، مثل الاعتقالات التعسفية بتهمة التخابر لصالح الجيش، أو التجنيد الإجباري للقتال في صفوف المليشيا.
من جانبه، أشاد الصحفي أحمد بركة بتعامل الدعم السريع مع انسلاخ كيكل، مستدلًا على ذلك بما وصفه “سرعة استعادة السيطرة على المناطق التي كانت موكلة له”.
وفي تصريحات لـ”نون بوست”، قال بركة إن كيكل هرب من الجزيرة مخافة اتهامه بالتخابر لصالح الجيش، خاصة بعد خضوعه للتحقيق بشأن مشاركته في مقتل قادة بارزين في قصف جوي من بينهم ابن عمه وقائد قوات الدعم السريع في إقليم النيل الأزرق، عبد الرحمن البيشي.
وأضاف بركة “الدعم السريع نجحت في بتر العضو المريض، ومنعت تحول خيانة كيكل إلى نصر عسكري للجيش أو تصفية قادة جدد من الدعم السريع”.
مواقف متباينة
تباينت مواقف السودانيين من انسلاخ كيكل، والترحيب به في صفوف الجيش، حيث تبنى البعض موقفًا مرحبًا به، معتبرين أنه يمثل سببًا جديدًا لإلحاق الهزيمة بالمليشيا ودحر قواتها من ولاية الجزيرة.
ورأى البعض أن انضمام كيكل يُعد فتحًا ونصرًا للجيش، نظرًا لما يتمتع به من ثقل قبلي وقوات تحولت بنادقها من الجيش إلى داعم له، وراجت مقولة أن: “كيكل مثل أبو سفيان، بطل في الجاهلية، وبطل في الإسلام”.
في المقابل، دعت أصوات أخرى إلى ضرورة اتخاذ موقف صارم ضد كيكل، واعتباره خائنًا مسؤولًا عن المعاناة والمجازر التي شهدتها الجزيرة. فيما ذهبت آراء أخرى، إلى أهمية تغليب صوت العقل، مشيرة إلى أن المعاملة الجيدة التي وجدها كيكل قد تشجع المزيد من القادة على الانسلاخ عن المليشيا، بينما قد تؤدي مساءلته عن الجرائم إلى زيادة توحش عناصر المليشيا.
أما أنصار وقادة الدعم السريع، فقد اعتبروه خائنًا، مؤكدين أن من يريد القتال لقضية معينة يجب أن يدرك أن القضية باقية.
من جانبهم، اعتبر مؤيدو القوى المدنية ترحيب الجيش بكيكل دليلًا إضافيًا على أن الحرب الحالية هي حرب على الثورة السودانية. وكتب القيادي في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، طه عثمان، متسائلًا عن موقف الجيش في حال قبول حميدتي بشروط من أشعلوا حرب 15 أبريل/نيسان، وهل سيعتبر خائنًا أم بطلًا عاد إلى الوطن؟
وخلص عثمان إلى أن المجرم الحقيقي في نظر العسكريين هو قوى الحرية والتغيير وقوى تقدم، بسبب ثورة ديسمبر/كانون الأول التي أطاحت بالبشير وتطالب بالحكم المدني وإصلاح المؤسسة العسكرية.