تتغير الموازين في عالم البحوث بشكل جنوني، كما في كل شيء من حولنا، تسير الصين بسرعة لا تصدق، وتتصدر كل يوم مجالات الأبحاث كافة من العلوم إلى التكنولوجيا والهندسة، فالأرقام الموثقة تتحدث عن زيادة إنتاجها ومضاعفته 5 مرات خلال الفترة ما بين 2003 و2016، ويتخوف العالم مع هذه الأرقام المثيرة للحسد من أمريكا التي لا تفعل شيئًا حاليًّا، إلا السعي لعرقلة الصين، بما قد يدفع البلدين إلى الوقوع في “مصيدة توكيديدس جديدة“، على شاكلة الصراع القديم بين أسبرطة وأثينا، وأنهت من خلالها الأولى على الثانية في حرب استباقية، ولكنها دمرت البلدين في النهاية، وصعدت مكانهما قوى أخرى، لم تسمح لهم بالصعود حتى اليوم.
هيمنة البحوث بين الصين وأمريكا
كانت الأرقام في العام الماضي تمثل صدمة للمجتمع الأمريكي، بل والمجتمع العالمي، فمجلس العلوم القومي بالولايات المتحدة أكد في تقرير له، أن عدد أوراق البحوث الصينية بالعلوم والتكنولوجيا وحدها، بلغت 426 ألف ورقة، في مقابل 409 آلاف ورقة لأمريكا، وهو أمر لن يكون مستغربًا، إذا علمنا أن التنين الصيني، يخطط لهذه المكانة منذ عام 2012، ووضع آنذاك خطة لتخطي أمريكا، بداية من الإنفاق بنسبة 34% من حجم إنفاق أمريكا، ثم تقفز النسبة إلى 88% قبل عامين، وقبل أن يضع ميزانية تتفوق على المارد الأمريكي العام الماضي، كان قد تخطاها بالفعل.
استغلت الصين، هرولة أمريكا واهتمامها البالغ بالبحوث والإنقاق على تطوير منظومة السلاح، بجانب سياسة الحرب التجارية التي يتبعها ترامب مع العلوم، لتشن ضربة مزدوجة
خصصت الصين للبحوث العلمية 14 مليار دولار عام 2016، بزيادة بلغت 19% مقارنة بعام 2015، والأرقام وحدها توضح أهمية البحوث لدى دولة تسير بأعلى سرعة لاكتساح الجميع، حتى زاد عدد الباحثين المعتمدين لديها، ما جعلهم في المرتبة الثانية بعد أوروبا في العالم، بينما تراجعت الولايات المتحدة إلى المرتبة الثالثة، وهي مؤشرات تسبب حالة من الرعب لأوروبا نفسها وليس أمريكا فقط، لا سيما أن نموًا بهذا الشكل، يتجاوز معدلات النمو الأوروبية بسبعة أضعاف بحسب مجلس العلوم القومي بالولايات المتحدة.
كيف تفوقت الصين على أمريكا؟
استغلت الصين هرولة أمريكا واهتمامها البالغ بالبحوث والإنفاق على تطوير منظومة السلاح، بجانب سياسة الحرب التجارية التي يتبعها ترامب مع العلوم، لتشن ضربة مزدوجة، تتخطى بها مرحلة اقتصاد التصنيع إلى عالم الابتكارات، وحتى تحصل على هذه المكانة، لجأت لمشاركة دول صاحبة باع في مجالات الابتكارات والاختراعات، مثل “إسرائيل” وروسيا ودول الوحدة الأوروبية وكندا وأستراليا، بما دفعها إلى احتلال المرتبة الـ17 هذا العام، بعد أن كانت تشغل حيز الـ29 خلال عام 2015.
تسير الصين بقواعد محكمة إلى تنفيذ خطتها لعام 2025 المعروفة بـ”صنع في الصين” وتطمح من خلالها للمنافسة بأهم ميادين الابتكار في التكنولوجيا، مثل رقائق الكمبيوتر والسيارات ذاتية القيادة، وهي أهداف تسير إليها قطاعات الشباب من رواد الأعمال الذين يمارسون الأعمال الحرة في هذه المجالات، بما يعني أنها سياسة شعبية نحو الريادة وليست فقط خطة الدولة وحدها.
هذا الزخم الشعبي قبل الحكومي، كان واضحًا بشدة للعالم أجمع، وظهر لامعًا في المؤتمر السنوي للذكاء الاصطناعي بولاية نيو أورليانز الذي أقيم خلال فبراير الماضي من العام الحاليّ، وتفوقت الصين من جديد في الأوراق العلمية المقدمة عن نظيرتها الأمريكية بنحو 25% نحو “1242ورقة صينية مقابل 943 أمريكية”، بما مثل انقلابًا في نتائج هذا المؤتمر، منذ انطلاقه لأول مرة عام 1980، وكانت الولايات المتحدة وحدها تتفوق على الجميع.
لجأ ترامب لإحكام القبضة الأمريكية بالقوة، خوفًا من صعود الصين التكنولوجي، وتفوقها في معطيات الجيل الخامس، وعطل بقرار منه صفقة استحواذ شركة برودكوم السنغافورية على شركة كوالكوم لصناعة المعالجات الدقيقة
الصدمة جعلت أمريكا تتحدث عن إجراء تحقيقات واسعة، للنظر في سرقة الصين الملكية الفكرية للعديد من الصناعات، بما كبد الشركات الأمريكية نحو تريليون دولار، وكان ذلك مدخلاً مقنعًا للكونغرس للتحرك هذا العام، وتقديم مشروع قانون يجبر الحكومة الأمريكية على وقف التعامل مع أكبر شركات الاتصالات الصينية “هاواوي ــ وZTE”.
كما لجأ ترامب لإحكام القبضة الأمريكية بالقوة، خوفًا من صعود الصين التكنولوجي، وتفوقها في معطيات الجيل الخامس، وعطل بقرار منه صفقة استحواذ شركة برودكوم السنغافورية على شركة كوالكوم لصناعة المعالجات الدقيقة، بالمخالفة لمعطيات السوق الحرة التي أرست قوانينها أمريكا، إلا أنها حاليًّا أصبحت تمثل أشرس الأخطار ضررًا على الأمن القومي للولايات المتحدة.
الإجراءات الأمريكية العقابية، ضاعفت مخاوف خبراء التكنولوجيا، وعلى رأسهم أريك شميدت الرئيس السابق لشركة “الفابت” وهي الشركة الأم لجوجل، حيث اعتبر الرجل أن مواجهة الصين لا تكون بإجراءات تعجيزية لعرقلتها فقط، خاصة أن كل المؤشرات تؤكد اكتساح التنين الصيني في غضون سنوات قليلة والتفوق على الولايات المتحدة تحديدًا بحلول عام 2025، وخاصة في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
يتابع أريك: “هيمنة أمريكا على تكنولوجيا المعلومات، أساس صناعة القوة المدمرة لأي نظام تسلح متقدم، بما يعني ضرورة إنتاج نظام أكثر تطورًا من الصين التي تدعم شركات التكنولوجيا الصينية من القطاع الخاص أكثر من القطاع العام، وتضع جميع إمكانات الدولة في خدمتها للريادة وتصدر الساحة، بما انعكس على تطور الشركات الصينية في السوق العالمية حاليًّا مثل “تينسنت وبايدو وعلي بابا”، وجميعهم أصبحوا مؤسسات عالمية عملاقة من حيث عدد المستخدمين والقيمة السوقية، ويستثمرون مبالغ طائلة في الذكاء الاصطناعي”.
قصة التفوق.. الصين وسلاح أمريكا القديم مع الاتحاد السوفيتي
يمكن القول إن ظهور الصين بقوة في الاقتصاد العالمي، وصعودها السريع لمنافسة المارد الأمريكي، لم يكن صدفة مطلقًا، بل كانت خطط مرتبة وفق مراحل زمنية، سبق وأشرنا في “نون بوست” لمراحلها، وكيف تمت.
الإستراتيجية الأمريكية الدخيلة على مبادئها، جعلتها تخفض إنفاقها على نشاط البحث والتطوير، من مجمل ناتجها المحلى، ليبلغ عام 2015 نحو 0.6% (ثلث ما كانت عليه عام 1964)
اتبعت الصين خطة مطورة، من تلك التي اتبعتها مع الولايات المتحدة، خلال صراعها مع الاتحاد السوفيتى، حيث كان سلاحها الأساسي آنذاك، للتفوق عليه في مجال التسلح والفضاء خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، الإنفاق ببذخ على التعليم والأبحاث والتكنولوجيا، بالإضافة إلى نظام الهجرة الجاذب للعقول الواعدة من جميع أنحاء العالم، وهو ما تراجعت الولايات المتحدة فيه حاليًّا، بسبب سياسات العنصرية الكريهة والتضييق على الأجانب، وغلق كل منفذ يمكن أن يصل منه أبناء الدول الأخرى إلى عاصمة الرأسمالية والسوق المفتوحة.
الإستراتيجية الأمريكية الدخيلة على مبادئها، جعلتها تخفض إنفاقها على نشاط البحث والتطوير، من مجمل ناتجها المحلي، ليبلغ عام 2015 نحو 0.6% (ثلث ما كان عليه عام 1964)، بما أضر بشدة بالقوة التنافسية لأمريكا، خاصة على صعيد التكنولوجيا، وحتى الآن لا يعي ترامب على ما يبدو هذا الفارق الذي يهدد كيان الدولة الأمريكية وسيادتها للعالم، لا سيما بعد إعلان ملامح ميزانية 2019 وخفض الإنفاق غير الدفاعى بنسبة 42.3% وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الخفض في الإنفاق على البحوث العلمية، بجانب التضييق أكثر على نظام الهجرة الجديد الذي يعوق إمداد بلاده بعقول جديدة تمنح الريادة الأمريكية مزايا أخرى.
تخوفات المجتمع العلمي الأمريكي من استمرار ترامب، تتجسد في استهانته بأهمية الصرف على البحوث العلمية بوجه عام، وهي سياسة عرفت عنه بوضوح من خلال انسحابه من اتفاق باريس المناخي، بزعم الشكوك في قضية الاحتباس الحراري، بجانب التخوفات الكبرى من انزلاق أمريكا في مستنقع تاريخي معروف “مصيدة توكيديدس” التي جرت بين أسبرطة وأثينا قديمًا.
“مصيدة توكيديدس” التي أصبحت حقيقة واضحة في نظر المعنيين بالصراع بين الولايات المتحدة والصين، وإن كانت القدرات ونوعية الصراع تختلف اليوم عما كان عليه العالم القديم، إلا أن الخوف المتجسد في كل تصريح، وكل قرار يخرج من الولايات المتحدة تجاه عرقلة تنامي قوة جديدة في مجال مختلف للصينن يؤكد رعب القوة التقليدية في العالم
هذه المصيدة جسدت كيف سار الصراع قديمًا بين أسبرطة الدولة المتقدمة صاحبة النفوذ الكبير في العالم، وأثينا الدولة الضعيفة صاحبة الطموح الأثيني الذي لا حدود له، مما جعلها تجتاز صعوبات كبرى، وتحقق تقدمًا كبيرًا على الأصعدة كافة، لا سيما الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لتنافس بشكل متدرج النفوذ الأسبرطي، ولم تشغل إسبرطة نفسها في المقابل إلا بالتفنن في إنتاج طغيان يعيق أثينا، فشنت حرب استباقية قضت من خلالها على أثينا.
“مصيدة توكيديدس” التي أصبحت حقيقة واضحة في نظر المعنيين بالصراع بين الولايات المتحدة والصين، وإن كانت القدرات ونوعية الصراع تختلف اليوم عما كان عليه العالم القديم، إلا أن الخوف المتجسد في كل تصريح، وكل قرار يخرج من الولايات المتحدة تجاه عرقلة تنامي قوة جديدة في مجال مختلف للصينن يؤكد رعب القوة التقليدية في العالم، من قيام قوة بديلة تقضي على النظام العالمي المستقر منذ تسعينيات القرن الماضي.
كلتا الدولتين لديهما إدراك كامل بهذه الحقيقة، وعبر عنها بوضوح تسوي تيان كاي السفير الصيني لدى الولايات المتحدة عام 2016، وأشار إلى مخاوف متزايدة من بلدان العالم من خطورة التنافس العدائي بين الصين وأمريكا، بما يدفعهما إلى الانزلاق من جديد، في مستنقع “مصيدة توكيديدس جديدة”، ولكنه تحدث بثقة عن إجراءات صارمة من بلاده لتجنب الصدام مع الولايات المتحدة، ودفعها بأفضل وأمهر دبوماسييها وخبرائها، لقيادة العلاقات إلى مستويات أقل حدة، دون أن تتنازل الصين بالطبع عن أحلامها في الريادة والتقدم.