لليوم الرابع على التوالي تتواصل الاحتجاجات الشعبية في السودان اعتراضًا على تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وسط مناوشات مع قوات الأمن، خلفت وراءها – حتى كتابة هذه السطور – قرابة ثمانية قتلى، ستة منهم في مدينة القضارف (شرق)، وشخصين في مدينة عطبرة (شمال)، بينما أكد رئيس حزب الأمة السوداني صادق المهدي أن العدد وصل صباح اليوم إلى 22 قتيلاً منذ بدء الاحتجاجات، فيما تضاربت الأرقام بشأن عدد الجرحى والمصابين.
تصعيد الاحتجاجات دفع السلطات السودانية إلى إعلان حالة الطوارئ في عدد من الولايات، فضلاً عن تعليق الدراسة في جامعات ولاية الخرطوم كافة، وكذلك ببعض المدارس في ولايات القضارف والنيل الأبيض ونهر النيل، فيما تم حجب مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة لغلق منافذ الاتصال بين المحتجين بعدما تجاوزت رقعة التظاهر السقف المتوقع.
المؤشرات التي ساقتها الأيام الثلاث الأولى للتظاهرات تذهب إلى أن الباب مفتوح على الاحتمالات كافة، في ظل إصرار المحتجين على مواصلة انتفاضتهم وتصعيدهم لسقف المطالب التي طرقت أبواب إسقاط النظام، ففي اليوم الأول اقتصرت على 3 مدن فقط (عطبرة وبروتسودان والنهود)، لكن سرعان ما زادت رقعتها لتشمل 4 مدن جديدة (بربر وكريمة ومروي والخرطوم والقضارف)، وسط تقديرات تذهب إلى انضمام أحياء جديدة ومناطق أخرى في العاصمة الخرطوم وهو ما يعني الوصول إلى المرحلة الحرجة.
قد تكون تلك الاحتجاجات ليست الأولى في تاريخ نظام البشير غير أنها تتمتع بخصوصية لم تشهدها التجارب السابقة التي منيت معظمها بالفشل، ومن ثم فإن سوء قراءة الحكومة للمشهد منذ يومه الأول والفشل في احتواء غضب المواطنين، أثار الكثير من التساؤلات عن الخيارات والبدائل التي قد تلجأ إليها السلطات الحاكمة في السودان في التعامل مع تلك الأزمة بعدما وصلت إلى هذا الحد.
“مهما تكن نتيجة المظاهرات التي انطلقت شرارتها الأربعاء (19/12/2018) من مدينة عطبرة في شمال السودان، فإن البلد قد دخل، بتلك الانطلاقة، عصرًا جديدًا قد لا تتضح ملامحه إلا بعد فترة” عبد الوهاب الأفندي
اتهام الموساد
امتدت التظاهرات صباح اليوم السبت 22 من ديسمبر/كانون الأول، إلى مدينة الرهد (غرب) وأضرم المحتجون النار في مقر جديد لحزب المؤتمر الحاكم، فيما تصاعدت الدعوات المطالبة بالاستمرار في الاحتجاجات والنزول إلى الشوارع والميادين.
يأتي هذا التصعيد في وقت يتهم فيه مدير جهاز الأمن والمخابرات السودانية صلاح قوش، الموساد الإسرائيلي بتجنيد عناصر من حركة “عبد الواحد نور”، كانوا في “إسرائيل” لإثارة الفوضى في السودان، مضيفًا في تصريحاته للصحفيين: “رصدنا 280 عنصرًا من الحركة وجند الموساد قسمًا منهم”.
واعترف قوش بالوضع المعيشي المتردي، لافتًا إلى أحقية المواطنين في رفض الضائقة الاقتصادية التي يعانون منها، رافضًا في الوقت ذاته طريقة التعبير عنها وفتح المجال أمام أعداء بلاده لتعزيز ممارسات التخريب، محذرًا بعدم التعاون مع مستخدمي العنف والمروجين له.
فيما طالب رئيس مجلس أحزاب الوحدة الوطنية عبود جابر، القوى السياسية ومكونات المجتمع السوداني بالعمل جنبًا إلى جنب لمنع زعزعة الأمن والاستقرار لإحداث البلبلة والتضييق على المواطنين، مؤكدًا في تصريح صحفي على ما تقوم به الدولة من جهود لتجاوز الأزمة بالعمل من خلال الشراكة المجتمعية للسودانيين في الداخل والخارج، حسبما نقلت وكالة الأنباء السودانية “سونا”.
وفي السياق ذاته دعا مجلس وزراء حكومة الولاية الشمالية في اجتماعه الذي عقد بدنقلا مساء أمس، ما أسماه تفويت الفرصة على المتربصين وأعداء الشعب والعمل على حماية الممتلكات والمحافظة على الأرواح، معربًا عن تفاؤله بشأن بعض الإجراءات المتوقع اتخاذها قريبًا لتوفير الخبز والمواد البترولية وكل ما يتعلق بمعاش الناس.
تمديد الاحتجاجات لتشمل عددًا من المدن السودانية
الفارق بين تلك الاحتجاجات وغيرها
“مهما تكن نتيجة المظاهرات التي انطلقت شرارتها الأربعاء (19/12/2018) من مدينة عطبرة في شمال السودان، فإن البلد قد دخل، بتلك الانطلاقة، عصرًا جديدًا قد لا تتضح ملامحه إلا بعد فترة”، بهذه الكلمات استهل الأكاديمي السوداني الدكتور عبد الوهاب الأفندي، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا حديثه معلقًا عن الاحتجاجات الشعبية في بلاده.
الأفندي في مقال له كشف أن مثل تلك الاحتجاجات ليست بغريبة عن السودان، واصفًا الشعب السوداني بـ”رائد العالم بلا منازع” في هذا المضمار، فقد سبق “ربيع الخرطوم” في أكتوبر/تشرين الأول 1964 ربيع براغ وثورات الطلاب في أوروبا وأمريكا بأكثر من أربع سنوات.
البيان تمثل في وعد حكومي بمعالجة المشكلات التي دفعت المحتجين للنزول إلى الشارع، ما دفع البعض إلى طرح سيناريو إيمانويل ماكرون الذي تراجع عن قرار رفع أسعار الوقود والضرائب المفروضة على الفرنسيين
كذلك سبقت انتفاضة السودان عام 1985 “ثورة الشعب” في الفلبين بعام، وانتفاضة فلسطين بأكثر من عامين، موضحًا أنه في كل تلك الأحوال، كانت بلاده ثيرموميتر الشعوب، ولم تكن تابعة ومقلدة لأحد، كانت الثورة سلمية المسار، ديمقراطية المآل: وحّدت ولم تفرق، وبنت ولم تهدم، تجلّى فيها السودان في أروع صوره: حرًا، أبيًا، متسامحًا، على حد وصفه.
أما عن الفرق بين الانتفاضة الحاليّة وسابقتها، أشار أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا أن هناك اختلافات عدة، بدءًا من انطلاقها من الأقاليم، بدل العاصمة الخرطوم، وصولاً إلى توحيد العديد من القوى ودعمها لها، كاشفًا أنه بهذا الانتقال من الهامش إلى المركز، والسرعة الخاطفة من الانتشار، تكون هذه الثورة نقلة، تتطلب أن يتحرّك أهل الحكمة والعقل لإيجاد إجماع ديمقراطي جديد، يحفظ للسودان مستقبله، ويقلل من تكلفة الاضطراب الذي يصاحب كل انتقال إلى نظامٍ مفتوح.
4 سيناريوهات
مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات وتجاوز المواجهات الحد المتوقع حتى باتت جميع الخيارات على الطاولة وإن تباينت نسبها، غير أن سقوط 22 قتيلاً بحسب ما قاله المهدي، يضع العديد من التساؤلات عن البدائل التي من الممكن أن تلجأ إليها حكومة البشير للتعاطي مع هذه التطورات.
سيناريو ماكرون.. في بيانه الصادر أمس الجمعة، أكد بشارة جمعة أرو الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير الإعلام والاتصالات وتقانة المعلومات، قيام الحكومة بدورها في توفير السلع والخدمات ومعالجة أزمة الوقود والخبز، كاشفًا النقاب عن قرار باستمرار دعم الدقيق وتثبيت سعر قطعة الخبز للمواطن، كذلك جهودها لمعالجة كل القضايا ذات الصلة بما فيها قضية توفير الأوراق النقدية.
الشعب السوداني لا يرغب في الانتقام، فقد يريد الديمقراطية والحكم الرشيد والدستور والعدالة، وأن يعيش في ديمقراطية مثل شعوب العالم
البيان تمثل في وعد حكومي بمعالجة المشكلات التي دفعت المحتجين للنزول إلى الشارع، ما دفع البعض إلى طرح سيناريو إيمانويل ماكرون الذي تراجع عن قرار رفع أسعار الوقود والضرائب المفروضة على الفرنسيين ردًا على احتجاجات “السترات الصفراء” كبديل أولي أمام حكومة البشير لمعالجة الأزمة.
وتبقى العقبة الأساسية أمام هذا السيناريو تتمثل في مدى قدرة الحكومة على الوفاء بتلك التعهدات، خاصة أن أزمة الخبز والوقود على وجه التحديد لم تكن وليدة اليوم، إنما بدأت منذ عام تقريبًا، ما يدفع للتساؤل: من أين تأتي السلطات السودانية بالخبز والوقود فضلاً عن السيولة النقدية؟
يذكر أن الحكومة دفعت الخميس الماضي بكميات من الدقيق إلى مدينة “عطبرة” التي اندلعت منها شرارة الاحتجاجات كمسكن مؤقت لعدم تفاقم الأزمة، لكن يبدو أن المادة الفعالة في هذا الدواء المؤقت لم تكن على مستوى الجرح الذي تتسع رقعته ساعة تلو الأخرى.
الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي
سيناريو الفريق عبود.. البديل الثاني أمام الحكومة يتمثل في سيناريو الرئيس السوداني الأسبق الفريق إبراهيم عبود، الذي أطاحت به ثورة أكتوبر الشعبية 1964، حين استجاب لضغط الجماهير بتسليم السلطة للحكومة الانتقالية التي كونتها جبهة الهيئات، وهو ما ذهب إليه الكاتب الصحفي السوداني وائل علي.
علي في حديثه لـ”نون بوست” رفض المقارنة بين الاحتجاجات في بلاده وما حدث في فرنسا، لافتًا إلى أن عقد أي مقارنات هنا ليس من الإنصاف، إذ يبلغ الحد الأدنى للأجور في فرنسا 2000 يورو بينما في السودان لم يتجاوز 10 دولارات فقط، على حد قوله، كاشفًا أن المتظاهرين في باريس خربوا كل شيء وأحرقوا المتاجر في الوقت الذي قام فيه الغاضبون في السودان بحماية محلات التجار في عطبرة وربك.
الصحفي السوداني استنكر كذلك الربط بين اندلاع الاحتجاجات ووصول الإمام الصادق المهدي إلى السودان، لافتًا إلى أن هذا الحراك أكبر من أن يكون تحت قيادته فقط، مضيفًا “الإمام الصادق مع احترامنا لشخصه الكريم ليس خميني السودان لتندلع الاحتجاجات بمجرد نزوله من المطار”.
كما دعا الطرف الآخر – السلطات الحاكمة في السودان – إلى الاقتداء بسيرة الفريق عبود، والتنازل من أجل الوطن، فيما حث قادة القوات المسلحة على الاقتداء كذلك بسيرة المشير سوار الذهب، موضحًا أن الشعب السوداني لا يرغب في الانتقام، فقد يريد الديمقراطية والحكم الرشيد والدستور والعدالة، وأن يعيش في ديمقراطية مثل شعوب العالم، معربًا عن أمله في حدوث أي صدامات بين الشعب ومؤسسات الدولة.
جدير بالذكر أن زعيم حزب الأمة المعارض في مؤتمر صحفي اليوم السبت قال: “في السودان نحن نقول الشعب يريد نظام جديد”، معتبرًا أن “لدى النظام في السودان خياران فإما أن يستجيب لمطلب الانتقال السلمي أو أن يواجه الشعب”.
في ظل تمدد رقعة الاحتجاجات وتجاوزها لكل التوقعات بينما تتصاعد المطالب في الوقت الذي تتباطأ فيه الحكومة في التعاطي معها، تبقى السيناريوهات والخيارات كافة متاحة
سيناريو شيطنة المعارضة.. الخيار الثالث أمام نظام البشير للتعاطي مع الأزمة يتمثل في تضييق الخناق على فصائل المعارضة المؤيدة لتلك الاحتجاجات، وشن حملات ممنهجة من الاعتقالات والتنكيل برموزها، وذلك عبر استغلال أي مظهر تخريبي مصاحب لحالة الغضب بتضخيمه وتصويره كمؤشر لعواقب الانهيار الذي سيحدث بذهاب الحكومة.
تلك الفزاعة لم تكن المرة الأولى التي تطرح على مائدة خيارات الحكومة السودانية، فقد استخدمتها أكثر من مرة خلال العقود الثلاث الأخيرة، دفعت بعض قادة المعارضة ممن تبقوا في البلاد إلى الزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات، وهو ذات الأسلوب المتبع مع العديد من دول الربيع العربي.
يذكر أن الحكومة قد نوهت بشكل غير مباشر لهذا السيناريو، وهو ما ورد في بيان الحكومة الذي ذكر إلى أن التظاهرات السلمية انحرفت عن مسارها وتحولت بفعل من وصفهم البيان بالمندسين إلى نشاط تخريبي استهدف المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة بالحرق والتدمير وحرق بعض مقار الشرطة.
سيناريو المراجعات.. البديل الرابع يتمحور في احتمالية أن تدفع تلك الاحتجاجات النظام الحاكم في السودان، الحكومة وحزب المؤتمر” لإعادة النظر في علاقتها بالمعارضة، بحيث تحقق بعض الاختراقات السياسية في عملية التفاوض معها، كالذي حدث بطريق غير مباشر مع حزب الأمة حين جمدت تنفيذ قرار القبض على رئيسه الصادق المهدي وسمحت له بالعودة إلى أرض الوطن.
العديد من جولات التفاوض من المقرر أن تجريها حكومة الخرطوم بداية الشهر المقبل، سواء في الدوحة مع الحركات المتمردة في دارفور، في الـ15 من يناير/كانون الثاني، إضافة إلى مشاورات استئناف عملية المفاوضات مع الحركات المقاتلة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، كل هذه الجولات ربما تمثل ضغوطًا سياسية على الحكومة تدفعها إلى تقديم تنازلات للمعارضة بهدف تخفيف الأعباء السياسية عنها، تلك التنازلات ربما تتمثل في إلغاء فكرة تعديل الدستور أو إجراء تغييرات جوهرية في التشكيلة الحكومية بما يتوائم وطلبات المعارضة وقد يكون لبعض قادتها حصة فيها.
وفي ظل تمدد رقعة الاحتجاجات وتجاوزها لكل التوقعات بينما تتصاعد المطالب في الوقت الذي تتباطأ فيه الحكومة في التعاطي معها، تبقى كل السيناريوهات والخيارات متاحة، دون ترجيح أحدها على الآخر، وهو ما أثار القلق لدى الكثيرين، المؤيدين للتظاهرات والمعارضين لها، لتبقى الأيام القليلة القادمة وحدها من تملك الإجابة عن كل الأسئلة المقدمة بخصوص مستقبل غضب الشارع السوداني.