لم تكن الإمبراطورية العثمانية من بين القوى الاستعمارية لمنطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وبالتالي فإنها لم تشارك في مؤتمر برلين (1884- 1885) الذي عقدته القوى الاستعمارية الأوروبية من أجل تقسيم القارة الإفريقية إلى مناطق نفوذ خاضعة لها، لكن ذلك لا يعني انعدام الصلة بين العثمانيين وإفريقيا، فمثلما كان للعثمانيين وجود في معظم أقاليم شمال إفريقيا، كان لهم وجود أيضًا في بعض مناطق جنوب الصحراء.
وترتكز العلاقات بين العثمانيين وإفريقيا الجنوبية على عدة عوامل ثقافية، وعلى رأسها الإسلام، فمن المعروف أن جنوب إفريقيا وقعت تحت الاستعمار الهولندي، بإشراف من شركة الهند الشرقية الهولندية منذ عام 1652، واستمر الحكم الهولندي للمنطقة حتى احتلال بريطانيا لها عام 1795 بعد معركة مويزنبيرغ، واستمر تعاقب الاستعمار الهولندي والبريطاني على هذه المنطقة، حتى تأكدت حيازة بريطانيا لها بعد الاتفاقية البريطانية الهولندية عام 1914.
لم يختلف وضع المستعمرة كثيرًا في الفصل العنصري في أثناء حكم البريطانيين عن الهولنديين
كانت تُعرف هذه المنطقة خلال الاستعمار الهولندي الطويل بـ”مستعمرة الكيب”، وبحسب الفصل العنصري لسكان المستعمرة، كان المجتمع يتشكل من أقلية بيضاء مهاجرة من أصول أوروبية وأطلقوا على أنفسهم “أفريكان”، وغير البيض وأغلبهم من قبائل البانتو الإفريقية التي تتكون من مجموعات عرقية مختلفة، وما يُعرف بالجنس الخِلاسي الناتج عن زيجات البيض مع نساء من قبائل الهوتنتوت الإفريقية، بالإضافة إلى مسلمي الملايو، وهم الذين قاموا بثورة إسلامية ضد الاستعمار الهولندي لشبه جزيرة الملايو وتم نفيهم مع عائلاتهم إلى جنوب إفريقيا.
لم يختلف وضع المستعمرة كثيرًا في الفصل العنصري في أثناء حكم البريطانيين عن الهولنديين، ورغم صدور “قانون رقم خمسين” عام 1828 الذي ينص على مساواة جميع الناس أمام القانون بغض النظر عن اللون والجنس، فإن سياسات الفصل العنصري استمرت في المستعمرة حتى صدور قرار البرلمان البريطاني عام 1833 بإلغاء الرق في بريطانيا وجميع مستعمراتها.
انعكس هذا القرار بشكل إيجابي على أوضاع المسلمين في جنوب إفريقيا، وانتعش الوجود الإسلامي هناك، حيث وصل عددهم بحلول عام 1840 إلى نحو 7 آلاف، ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أن الخلافات بين المسلمين هناك بلغت أشدها، وبالأخص بشأن مسألة “مولد الخليفة”، فريق منهم كان يحتفل بمولد الشيخ عبد الله بن عبد السلام، شيخ الطريقة الصوفية لمسلمي الملايو، وكانوا يطوفون بشوارع المدينة يدقون الطبول ويرددون الأناشيد، وفريق آخر أطلق على نفسه “أتباع النبي” رفض هذه الاحتفالات واعتبرها بدعة، وربما يكون هذا الفريق قد تأثر بالدعوة الوهابية في أثناء رحلات الحج.
يطلق المؤرخون على فترة ما بعد معاهدة باريس بفترة الانفتاح العثماني على العالم، وهي الفترة التي شهدت أقصى امتداد عثماني إلى أقاليم جنوب الصحراء
من هنا وُلدت فكرة استدعاء مرشد روحي من الخارج لمسلمي جنوب إفريقيا، لتعليمهم مبادئ الإسلام وحل الخلافات الفقهية بينهم، وقد كانت الأجواء السياسية آنذاك تسمح بتواصل بريطانيا بالدولة العثمانية لحل هذه المسألة، فقد كانت العلاقة ودية بينهما آنذاك، بعد توقيع معاهدة باريس 1856 التي التزم بموجبها السلطان عبد المجيد الأول بتحسين أوضاع المسيحيين في الإمبراطورية، مقابل التزام بريطانيا بتحسين أوضاع المسلمين في جميع مستعمراتها.
أبو بكر أفندي.. جسر التواصل بين الدولة العثمانية وإفريقيا الجنوبية
يطلق المؤرخون على فترة ما بعد معاهدة باريس بفترة الانفتاح العثماني على العالم، وهي الفترة التي شهدت أقصى امتداد عثماني إلى أقاليم جنوب الصحراء، وكان أول اتصال عثماني مباشر بمسلمي مستعمرة الكيب عام 1859، عندما أرسل السلطان عبد المجيد إليهم باخرة محملة بالهدايا، ولم يتوقف الباب العالي عن إرسال المساعدات لمسلمي الكيب، خلال الأزمة الناتجة عن الجفاف في مطلع ستينيات القرن التاسع عشر.
وفي عام 1863 أصدر السلطان عبد العزيز الأول مرسومًا بإرسال الفقيه العثماني أبو بكر أفندي إلى رأس الرجاء الصالح، وذهب مع تلميذه عمر لطفي أفندي من أجل تعليم المسلمين هناك أمور دينهم، وحل المسائل الخلافية بين فقهائهم، واستقبلهم المسلمون هناك استقبالاً حافلاً، وفي فترة قصيرة صار لأبي بكر أفندي أكثر من 300 طالب علم.
افتتح أبو بكر أفندي أول مدرسة للمسلمين في جنوب إفريقيا، وكانت تربطه علاقة وطيدة بتلاميذه هناك، الذين علمهم قراءة القرآن والشعائر الإسلامية، وخلال فترة وجيزة تعلم لغتهم، ووضع كتابًا بلغتهم بعنوان “بيان الدين”، بالإضافة إلى تأسيسه أول مدرسة لتعليم الإسلام للبنات في جنوب إفريقيا.
شهدت عقود الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، دعمًا ماليًا كبيرًا من السلاطين العثمانيين لبناء المساجد في إفريقيا الجنوبية
كان لأبو بكر أفندي دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية العثمانية بين مسلمي إفريقيا الجنوبية، وساهم في تطوير العلاقات بينهم وبين العثمانيين، ورغم أن جنوب إفريقيا لم تكن تابعة رسميًا لنفوذ الدولة العثمانية، فإن المسلمين هناك كانوا تابعين روحيًا إلى العثمانيين، وقد ظل أبو بكر أفندي بقية حياته في جنوب إفريقيا حتى تُوفي عام 1880 ودُفن هناك.
شهدت عقود الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، دعمًا ماليًا كبيرًا من السلاطين العثمانيين لبناء المساجد في إفريقيا الجنوبية، فتم بناء ثلاثة مساجد في رأس الرجاء الصالح، وثلاثة مساجد في مدينة بورت إليزابيث، ومنذ بداية الستينيات ظهرت فكرة تعيين قنصل عثماني عام في جنوب إفريقيا، وتمت الاتصالات بين وزير الخارجية العثماني مع نظيره البريطاني للحصول على الموافقات الرسمية وتمت الموافقة عام 1863.
هناك مسألة مهمة أخرى، كانت سببًا في توطيد العلاقات بين العثمانيين ومسلمي جنوب إفريقيا، عندما نوقش مشروع قانون التعليم في بريطانيا، وكان يتضمن اشتراط تعليم العقيدة المسيحية في المدارس التي تتلقى معونة حكومية، سواء داخل بريطانيا أم في مستعمراتها، فحل السلطان عبد العزيز وقنصله العام في جنوب إفريقيا الأزمة.
السلطان عبد الحميد.. مسلمو جنوب إفريقيا ضمن الوحدة الإسلامية
في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، تغير شكل العلاقة بين الدولة العثمانية وإفريقيا الجنوبية، فمن مجرد محاولات تقرُب العثمانيين من المسلمين هناك إلى ضرورة وحدة مسلمي العالم، ومن بينهم مسلمي جنوب إفريقيا، ضمن النهج الذي اتبعه عبد الحميد لمواجهة موجة القومية التي هددت الدولة العثمانية في عقودها الأخيرة، فأسس “تشكيلات استخبارتية” في قصر يلديز، من أجل تدريب عدد من رجال الدولة وإرسالهم إلى جنوب إفريقيا.
كما أمر عبد الحميد بإنشاء جامع “نور الحميدية” في مدينة كيب تاون عام 1882، وهي ثالث أكبر مدينة من حيث عدد السكان، وفي نفس العام افتتح طلاب المدرسة الإسلامية التي أسسها أبو بكر أفندي أول نادٍ للعبة الكريكيت في نفس المدينة (قامت مؤسسة تيكا التركية بتجديد الجامع والنادي عام 2015).
ظلت العلاقات مستمرة بين الدولة العثمانية ومسلمي إفريقيا الجنوبية، حتى إنه في أثناء مشروع إنشاء سكة حديد الحجاز في عهد السلطان عبد الحميد، أرسل مسلمو إفريقيا الجنوبية مساعدات عديدة إلى الدولة العثمانية لدعم هذا المشروع
ووفق الدراسة التي أجراها، حليم جانتش أوغلو الخبير التركي في العلاقات العثمانية الإفريقية، فإنه في عام 1894، أُرسل الشيخ محمود فقيه أفندي إلى مدينة كيب تاون، من أجل مواصلة مشروع تدريس التعاليم الإسلامية الذي بدأه أبو بكر أفندي، وجدير بالذكر أن نظام الفصل العنصري “أبارتايد” هو الذي حول بعد ذلك منزل محمود فقيه أفندي المكون من 24 غرفة إلى متحف، وهو أول متحف إسلامي في جنوب إفريقيا يحافظ على هيكله التاريخي منذ عام 1978 حتى اليوم، ويضم متحف “بوكاب” آثارًا تاريخية لمسلمي الملايو.
ظلت العلاقات مستمرة بين الدولة العثمانية ومسلمي إفريقيا الجنوبية، حتى إنه في أثناء مشروع إنشاء سكة حديد الحجاز في عهد السلطان عبد الحميد، أرسل مسلمو إفريقيا الجنوبية مساعدات عديدة إلى الدولة العثمانية لدعم هذا المشروع.
وفي عام 1914 عُيِن محمد رمزي بك، قنصلاً في مدينة جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا، وبعد عدة أشهر اندلعت الحرب العالمية الأولى، ومن المعلوم أن الدولة العثمانية التي أوشكت على الانهيار كانت في الجبهة المعادية لبريطانيا، فقام رمزي بك بتحريض المسلمين بجنوب إفريقيا على الثورة ضد بريطانيا، فأسره البريطانيون هو وعائلته، وتم قتله بعد عامين.
مسجد النظامية
وفي عام 2016، أي بعد مرور مئة عام على قتله، تم نقل جسده إلى مسجد النظامية الذي شيده رجل أعمال تركي في مدينة جوهانسبرغ، على الطراز العثماني عام 2012.