عرضت الصحف الإسرائيلية تقارير متلاحقة عن خطة تقوم على إدخال شركة أمنية أمريكية إلى قطاع غزة، تحت مبرر تولِّيها مهمة الإشراف على توزيع المساعدات وصولًا إلى إعادة إعمار غزة.
في الجوهر، تستند الخطة الأمنية، التي يبدو أنها حصلت على الموافقة الإسرائيلية، إلى المزج بين العرض المطروح من الشركة الأمريكية “GDC”، والمخططات الإسرائيلية السابقة لإنشاء نماذج لنظام محلي يُشكل أساسًا لترتيبات “اليوم التالي” الإسرائيلية.
يدمج المخطط الجديد بين خطة “الفقاعات الإنسانية” والاستعانة بالعشائر من جهة، وفكرة السيطرة على توزيع المساعدات والعمل المباشر مع السكان من جهة أخرى، ولا يمكن فصل مساره عن العدوان الكبير الذي يشنه جيش الاحتلال على مخيم جباليا ومناطق شمالي قطاع غزة.
يعتمد نجاح المخطط الجديد بدرجة أساسية – مثلما سبق من خطط إسرائيلية هادفة إلى اختراق المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة وتخليق نماذج محلية متعاونة – على القدرة الإسرائيلية على الحسم على الأرض، وخلق بقع جغرافية خالية من المقاومة ومن التأثير الفصائلي على السكان، ما يحولها إلى بقع مهيئة لتمرير المخططات، وهو ما فشل فيه الاحتلال على مدار أكثر من عام، ويشن عدوانه الأكثر شراسة على شمالي قطاع غزة في سبيل تحييد مقدرات مواجهته وإفشاله فلسطينيًّا.
الخطة الأمنية الجديدة
كشفت وسائل إعلام عبرية تفاصيل الخطة الجديدة المطروحة على أجندة المستوى السياسي الإسرائيلي، التي تقوم على دراسة مقترح إدخال شركة أمنية أمريكية إلى قطاع غزة، تتولى مسؤولية الإشراف على توزيع المساعدات، وإنشاء أول نموذج لحي خالٍ من المقاومة والحضور السياسي الفلسطيني بحيث يخضع إلى التجربة والتقييم، ويُقترَح أن يكون مكان هذا النموذج في حي العطاطرة الواقع شمالي غربي مدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة.
تقوم الخطة على إدخال ألف مقاتل أمريكي في المرحلة الأولى، خدم أكثرهم في جهاز “سي آي إيه”، إلى حي العطاطرة، والسماح لسكان الحي بالعودة إليه، وتقديم المساعدات لهم، وتعيين شخصية عشائرية في منصب رئيس المجلس في الحي.
وفي حال نجاح التجربة ستكون النموذج التجريبي لإعادة إعمار غزة، وسيؤدي إلى “تحييد” السلطة المدنية لحماس في القطاع.
حسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، فإن الشركة التي يُفترض أن تتولى هذا الدور شركة الأمن واللوجستيات الأمريكية “جي دي سي” “GDC”، المملوكة لرجال أعمال إسرائيليين وأمريكيين، والمتخصصة في العمل في مناطق الحرب والكوارث، استنادًا إلى الخبرة المتكسبة في أفغانستان والعراق وأوكرانيا، وهي نشطة في 100 بلد وتوظف أكثر من 14 ألف شخص.
وأوضحت “يديعوت أحرونوت” أن الخطة تهدف إلى إنشاء “فقاعات إنسانية” في غزة لا يوجد في داخلها إلا السكان الذين يعيشون في الحي، بعد الحصول على موافقة من خلال تحديد الهوية البيومترية.
ويُفترض أن تؤمن هذه الشركة وصول قوافل المساعدات الإنسانية ومنع الاستيلاء عليها. وذلك بعدما قرر رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الاستجابة لطلب المنظومة الأمنية بألَّا يتولى الجيش مسؤولية توزيع المساعدات بسبب الكلفة المادية والعسكرية الباهظة لهذه العملية.
موتي كاهانا و”GDC”.. واندفاعة تسويقية من مدمني الحرب
كان واضحًا حرص الشركة، التي يقع مقرها الرئيسي في نيو جيرسي بالولايات المتحدة، على التفاعل إعلاميًّا مع الكشف عن المخطط الجديد، وهو ما ظهر جليًّا في حملة إعلامية بدت منظمة، قدمت فيها الشركة نفسها ودورها وخطتها للعمل في غزة وتكاليف هذه الخطة.
أوضح موتي كاهانا (رجل أعمال أمريكي-إسرائيلي، والمدير التنفيذي والمالك لشركة “GDC”، التي يجري النقاش بشأنها لتكون المقاول المسؤول عن نقل المساعدات الإنسانية إلى داخل غزة وتأمين “الفقاعات الإنسانية” التي ستكون بمثابة أحياء محمية محاطة بأسوار ومعزولة) أن شركته على مدى 7 أشهر، كانت تتحدث مع وزارة الدفاع الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، لكن الأمور نضجت الآن فقط، على حد قوله.
أعرب كاهانا عن أمله في أن تُختار شركته لأداء المهمة، وفي حديثه لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” العبرية، كشف أن شركته قد وضعت بالفعل خطة يمكن تنفيذها في خلال 30 يومًا في غزة، وأن الشركة على اتصال بشركة بريطانية تضم جنودًا مقاتلين سابقين من الجيوش الغربية، سيُكلَّفون بتأمين قوافل المساعدات وتنفيذ الخطة.
في مقابلة مع موقع “واينت” التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، قال كاهانا: “أنا في الأساس مقاول تنفيذ. تتكون الشركة من مقاتلين سابقين، من وحدات خاصة من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا. القاسم المشترك بينهم أنهم ليسوا يهودًا. إذا وزَّع الجيش الإسرائيلي المساعدات سيتحول الأمر إلى مواجهة، كما حدث في الماضي، ويُقتَل المدنيون، فيصرخ العالم اليهود قتلوا العرب. أنا لا أوزع المساعدات بصفتي جيشًا إسرائيليًّا، بل بصفتي شركة لوجستية”.
وقال كاهانا إن لدى موظفي شركته خبرة كبيرة في العراق وأفغانستان، وأضاف: “هؤلاء أشخاص لديهم أكثر من 25 عامًا من الخبرة. كانوا في بغداد وكابول. تتألف شركتنا من مدمني الحرب، أشخاص يحبون محاربة الأشرار” على حد تعبيره.
يؤكد الرئيس التنفيذي للشركة أن لديهم الخبرة الكافية للتعامل مع المخاطر الأمنية في قطاع غزة، ويستعرض خطواته في عملية التأمين المفترضة، بتجهيز الشركة لفريق أولي يصل بمعدات وقائية وغير مميتة، يستطيع الردع باستخدام الرصاص المطاطي والماء وإطلاق النار في الهواء. لكن إن لم ينفع ذلك، فسيأتي الفريق الثاني. ويضيف مهددًا: “إذا حدث شيء ما، سنرسل رسالة إلى سكان غزة: لن تودوا أن تعبثوا معنا. أعدكم أن الرسالة ستصل بسرعة. سيدركون أن ثمة عمدة جديدًا في المدينة”.
يقول كاهانا إن الشركة ستعمل بالمرحلة الأولى في مشروع تجريبي، لكن الخطة تتمثل بتوسيع النشاط ليشمل كل غزة. “هكذا سيبدأ اليوم التالي في غزة”، يضيف الرئيس التنفيذي للشركة: “سيدرك الناس في غزة أن هناك طعامًا مجانيًّا. الخطة الأمريكية تتمثل بإغراق غزة بكمية هائلة من الطعام“.
ينسجم رئيس الشركة في دعايته مع خطاب حلفاء نتنياهو في الائتلاف الحكومي، ويؤكد أن طريقة توزيع المساعدات السابقة قد مررت أكثر من 500 مليون دولار إلى غزة على شكل مساعدات. ويدَّعي: “أخذت حماس المساعدات وباعتها وحصلت على المال”. مضيفًا: “إذا كنت تريد تدمير حماس، فتوقف عن تمويلها”.
ويذهب كاهانا بعيدًا بأن يَعُدَّ نفسه أنه “من يبني الآن كل الاستراتيجية لغزة”.
وحول التنسيق اللحظي مع جيش الاحتلال، تقول الشركة إنها ستكون على تنسيق دائم 24/7 مع الجيش الإسرائيلي، ولهذا السبب استعانت ببعض المسؤولين الإسرائيليين السابقين من “الموساد” والوحدات الخاصة ليكونوا مسؤولين عن هذا التنسيق.
في الخلفية.. الفشل الإسرائيلي المتكرر
لا ينطلق المقترح الذي ادعت الشركة الأمريكية أنها أعدته من الفراغ، بل من خطط إسرائيلية سابقة مرتبطة بالمحاولات المحمومة لهندسة “اليوم التالي”، إضافةً إلى استثمار مجموعة من الإجراءات الإسرائيلية على الأرض، لتبلور في مجموعها الأعمدة الرئيسية التي تقوم عليها الخطة، وهي على الشكل التالي:
خطة الفقاعات الإنسانية
ترتكز الخطة الأمريكية للعمل مع “فقاعات” يكون جيش الاحتلال قد أتم المهمة مسبقًا في تطهيرها من أي وجود لقوى المقاومة الفلسطينية، أو لكل من له ارتباطات وطنية، سواء فصائلية أم توجهات وطنية واضحة قد تُشكِّل عامل تصدٍّ للمخطط الإسرائيلي، بحيث يُسمح لسكان هذه “الفقاعة” بالعودة إليها بعد الفحص الأمني الاسرائيلي عليهم، وتُعزل هذه المنطقة عن بقية مناطق الاشتباك والمواجهة. وحسب الرؤية التي كان قد قدمها وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، فإن الجيش الاسرائيلي كان يُفترض أن يؤمِّن هذه “الفقاعة”، ويعمل مباشرةً مع التشكيل المحلي الذي سينشأ فيها، إلا أن الخطة المُحدَّثة أمريكيًّا تقتضي أن تحل الشركة الأمنية مكان جيش الاحتلال وذلك لعدة اعتبارات، أهمها إدراك الجيش أنه بعد عام من الحرب، لن يجد اليوم الذي يتحرك فيه بمأمن ودون أن يكون عرضة للاستهداف المباشر.
العمل مع العشائر
منذ الأشهر الأولى في حرب الإبادة، وضعت الحكومة الإسرائيلية العشائر مادة استهداف أساسية في محاولة تجاوز نظام الحكم القائم في قطاع غزة، وإنشاء نظام بديل، وهي خطة اصطدمت بحائط الرفض والفشل، وذلك ارتباطًا ببعدين أساسيين: أولًا عدم استعداد أي من العشائر أو قبولها التماهي مع خطط الاحتلال، وثانيًا متانة البنية التحتية للفصائل وتماسكها في قطاع غزة وهو ما انسحب على تماسك الهياكل الحكومية بالحد الأدنى على الأقل. في الخطة الأمريكية يعود العمل مع العشائر بصيغة أخرى أخذت في الحسبان الفشل السابق، وبالتالي فإن أماكن الاستهداف الأولية للفقاعات المفترضة بقع جغرافية يقطنها سكان من عشيرة واحدة، يُفوَّض أحدهم وفق التسلسل العشائري، ليكون عنوان الاتصال والتنسيق بين الشركة الأمنية الأمريكية والسكان المحليين في تلك المنطقة.
الاستثمار في فوضى قطاع
عمد الاحتلال إلى الاستهداف المتكرر لقوى الأمن في قطاع غزة، ثم وسَّع استهدافه ليشمل استهداف لجان الحماية الشعبية التي شُكِّلت بدعم ومشاركة فصائلية واسعة، بهدف ضبط الحالة الأمنية والتصدي لمظاهر البلطجة والسرقة التي عمل الاحتلال على توفير المساحة اللازمة لها، ما عزز من حالات السطو والسرقة على قوافل المساعدات. وهو المبرر الذي تقدمه الشركة الأمنية الأمريكية في خطتها لاستقدام مسلحين وتقنيات قمع وقتل تحت مبرر “حماية” قوافل المساعدات ومنع السطو عليه.
السيطرة على المساعدات
أخذ موضوع المسؤولية عن توزيع المساعدات حيزًا كبيرًا من النقاش الإسرائيلي الداخلي، في الائتلاف الحكومي على نحو التحديد، وانطلق من طرح وزير المالية والوزير في وزارة الحرب الإسرائيلية، بتسلئيل سموتريتش، بكون سيطرة حماس على المساعدات إحدى أهم أدوات بقائها في الحكم، وأن سبيل تجريد السلطات الحاكمة في قطاع غزة من سلطتها ينطلق من السيطرة على آلية توزيع المساعدات، وفق رأيه الذي تبناه رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وأدى في المحصلة إلى إقرار أن يتولى جيش الاحتلال تنفيذ هذه المهمة مع السكان في قطاع غزة، وهو ما رفضه الجيش رفضًا قاطعًا نظرًا إلى المخاطر المترتبة على هذه الخطوة، وهو ما كان مدعاة للبحث عن طرف آخر يؤدي المهمة. وهنا جاء دور الشركة الأمريكية التي قدمت هذه المعطيات بوصفها أحد دعائم رؤيتها ومقترحها للعمل في القطاع.
إحلال جهات دولية كممر لتجاوز السلطات الحاكمة
عكفت سلطات الاحتلال على اشتراط أن تتولى مؤسسات وهيئات دولية مسؤولية تشغيل بعض القطاعات التي دُمرت في قطاع غزة، خصوصًا المستشفيات والمخابز، إضافةً إلى حالات السفر المحدودة لبعض الحالات الصحية والمصابين، وجميعها قطاعات عمد الاحتلال إلى تثبيت تجاوز السلطات الحاكمة فيها، وتشغيلها عبر المؤسسات الدولية لتثبيت إمكانية تجاوز النظام القائم في قطاع غزة والسلطة الفلسطينية أيضًا، ومن المنظور ذاته أيضًا يدخل استقدام الشركة الأمنية الأمريكية لتتولى مهمة توزيع المساعدات، وإدارة والاشراف على الفقاعات الإنسانية.
مهدت المصاعب التي اعترت كل محاولات “إسرائيل” سابقًا لبناء نظام محلي متعاون وفق المقاييس الإسرائيلية بوضوح، لأن يأخذ كهانا المساحة اللازمة من أجل تقديم رؤيته، لانتهاز هذه الفرصة التي يرى فيها فرصة استثمارية بتكلفة 200 مليون دولار، ومساحة جديدة لتمرير مخططات الهيمنة الأمريكية الجديدة، مع استثمار فشل مشروع الميناء الأمريكي كمحفز لمنح مشروعه فرصة تمويلية من الإدارة الأمريكية.
تحييد جباليا كخطوة أولى
لا يمكن أن تمر المخططات الإسرائيلية، بما فيها خطة الاستعانة بالشركة الأمنية الأمريكية، التي تستهدف مناطق شمالي قطاع غزة كنموذج تجريبي، دون تحييد قدرة أهالي شمالي القطاع على الرفض والمواجهة والإفشال المستمرة لهذه الخطط.
يستخدم الاحتلال كل الأدوات من أجل تحويل التجويع والقتل إلى أداة للهندسة الاجتماعية، وإعادة صياغة أولويات المجتمع في شمالي قطاع غزة، بوضعهم أمام خيارات محدودة: الموت جوعًا، أو الموت قتلًا بالصواريخ والقذائف، أو التهجير والنزوح، أو التعاطي مع وسيط دولي يقدم المساعدات والمأكل والمشرب في معازل جغرافية خاضعة للفحص والسيطرة الإسرائيلية.
في الإطار ذاته، يمثل وجود مخيم جباليا معضلة كبرى أمام الخطط الإسرائيلية، لعدة اعتبارات، أهمها كون المخيم الكتلة البشرية الأكبر في شمالي قطاع غزة، ومصدر التماسك لمناطق شمالي القطاع الذي أفشل بوضوح خطة تفريغ أحياء ومدن الشمال من سكانهم، إضافةً إلى كون المخيم نقطة الانطلاق للجان الحماية الشعبية، وعامل التصدي الأبرز لخطط الفوضى والبلطجة والفلتان، ما جعله البيئة الأكثر تماسكًا وأمنًا في مناطق الشمال، وعنوان الإفشال المستمر لخطط الاحتلال.
في كل مرة بحث فيها الاحتلال عن صيغة لتمريرها لبناء نموذج “اليوم التالي”، شن الاحتلال عملية عسكرية موسعة استهدفت مخيم جباليا، فالعملية العسكرية الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ترافقت مع محاولة الاحتلال العمل مع العشائر، والعملية العسكرية الثانية في مايو/أيار 2024 ترافقت مع خطة الاحتلال لإنشاء “فقاعات غالانت الإنسانية”، فيما تترافق العملية العسكرية الحالية على المخيم مع خطة استقدام الشركة الأمنية الأمريكية.
ليس المطلوب الآن بالنسبة للاحتلال ردع مخيم جباليا، أو إخراجه من دائرة التأثير، بل القضاء على المخيم بوصفه كتلة بشرية وبقعة سكانية شكَّلت معضلة تاريخية لجيش الاحتلال عبر امتداد سنوات الاحتلال.
وبالتالي، فإن الاندفاعية الإسرائيلية غير مرتبطة بأهداف عسكرية أو أمنية محدودة، بل تهدف إلى الإجهاز على مخيم جباليا وإنهاء هذا الفصل إلى الأبد، ما سيمهد لخلق حالة من الردع الشامل لكل مناطق شمالي قطاع غزة، وسيخلق مساحة ممكنة للعمل مع معازل سكانية محدودة، دون فواعل تأثير تجهض وتتصدى لخطط الاحتلال.
السباق مع الزمن لفرض وقائع
تسابق حكومة الاحتلال الزمن من أجل فرض وقائع على الأرض، خصوصًا في عنوان الفشل الأكبر المرتبط بسيناريوهات “اليوم التالي” في قطاع غزة، وإقامة ولو نموذج مصغر عن إمكانية إنشاء نظام محلي وفق المقاييس الإسرائيلية.
يبحث نتنياهو عن هذا النموذج باستماتة، فبعد عام من الحرب لم يتمكن الأخير من حصد صورة “النصر المطلق” التي بحث عنها كثيرًا، وأفقده المشهد الملحمي لاستشهاد يحيى السنوار، قائد “الطوفان” ورئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، الكثير من تصوره حول هذه الصورة.
يمر التغيير الاستراتيجي بعيد المدى في قطاع غزة، وتحييد القطاع لعقود قادمة من معادلة الصراع والمواجهة، وبالتالي قطع شوط كبير في إطار تصفية القضية الفلسطينية، مرورًا مباشرًا من مدخل تشكيل نظام محلي متعاون في القطاع، يعمل وفق المعايير الإسرائيلية، ويتولى عملية التغيير الشامل حتى في عقول أهالي القطاع، وينزع كل ما يمكن أن يمتَّ بِصلة بين هذا المجتمع الممانع والقضية الفلسطينية الأم.
يُشكل الصمود الأسطوري لأهالي شمالي قطاع غزة، وقدرة المقاومة على استمرار المواجهة ورفع كلفة وجود جيش الاحتلال على الأرض، حائط الصد الرئيسي الذي أدخل الحرب بقطاع غزة في معادلة الاستنزاف المستمرة لجيش الاحتلال، دون وجود أي أفق حقيقي لتقهقر المقاومة أو حتى إشارات أولية حول ذلك، والأمر سواءٌ بشأن التماسك المجتمعي الرافض لكل أشكال السيطرة الإسرائيلية أو الانقلاب الشعبي على قوى المقاومة.
تُظهر الخطط الإسرائيلية – وحتى الرؤى الأمريكية – قصورًا كبيرًا في القدرة على إدراك واقع البيئة في قطاع غزة، التي تتعدى في مناعتها الحضور الفصائلي على وجه التحديد، وتصل إلى حد التجذر الشعبي الكبير في معادلة المواجهة، والقدرة على الصمود والرفض لدرجة تفوق قدرة الحسابات العقلانية على التنبؤ بها، ويُشكل الصمود والتمسك بالبقاء في شمالي قطاع غزة أوضح نماذجها.
حسم الرئيس التنفيذية للشركة الأمريكية “GDC” مبكرًا بأن مشروعه لن يلقى مصير الميناء الأمريكي ذاته، إلا أنه حسْمٌ مبني على القصور ذاته في فهم المجتمع في قطاع غزة وتركيباته، كما أنه قصور في إدراك مدى تصلب وعمق البنية التحتية للمقاومة، القادرة على التصدي لكل جندي ومرتزق تطال أقدامه قطاع غزة.