في الرابع من أغسطس/آب الماضي، وخلال هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها “إسرائيل”، توجه نتنياهو إلى قبر أحد أهم المفكرين والقادة الصهاينة، زئيف جابوتنسكي، لإحياء ذكرى رؤيته ورسالته، ومن أمام قبره بالقدس، نبه نتنياهو شعبه لأهمية الوقوف صفًا واحدًا ضد الأعداء، واستحضر أفكار جابوتنسكي وخاصة نظريته عن الجدار الحديدي لإثبات صحة حربه في غزة ورفضه التوصل إلى اتفاق صفقة تبادل أسرى.
في الواقع، لدى نتنياهو ولع كبير بشخصية جابوتنسكي، ودائمًا ما رأى نفسه تلميذًا ووريثًا له، كما قام بتعليق صورته في مكتبه، وصرح بأنه سيواصل تنفيذ تعاليمه، وقال في عام 2023: “أحتفظ بأعمال جابوتنسكي على رف الكتب الخاص بي وأقرأها بشكل دائم، كما احتفظ بسيفه في مكتبي”.
إن القيم التي تحكم توجهات بنيامين نتنياهو في الحرب الحالية ضد غزة مستمدة إلى حد كبير من أفكار زئيف جابوتنسكي، الذي يشكل المفتاح الأساسي لفهم عقلية نتنياهو، فعبر قراءة أفكار جابوتنسكي يمكننا التوصل إلى فهم أعمق لدوافع نتنياهو الحالية وطريقة إدارته للحرب وعدم رغبته في التوصل إلى حل تفاوضي مع الفلسطينيين، وتفسير ميله إلى الإفراط في استخدام القوة.
لماذا لا يزال جابوتنسكي مهمًا؟
قبل مائة عام، مهد جابوتنسكي الطريق لشكل الدولة الإسرائيلية الحالية من خلال نظريته “الجدار الحديدي” التي تبنتها كل حكومة إسرائيلية من اليمين واليسار، وحتى على المستوى الشعبي، جابوتنسكي اليوم هو أهم المفكرين وأكثرهم حضورًا في “إسرائيل”، وما زال اسمه يتمتع بمكانة رمزية، ويعتبر مرجعية سياسية وأخلاقية يتم استخدامها من أجل تبرير مواقف معينة ودحض أخرى.
ويتضح تأثير جابوتنسكي في الوعي الجمعي الإسرائيلي بشكل كبير من خلال النقاش المستمر من جانب النخب السياسية والثقافية في “إسرائيل” حول سياسات الاستيطان المستمرة في الضفة الغربية ومستقبل الحرب على غزة والحدود، إضافة إلى عدد الأحزاب التي تسعى لتمثيل إرثه.
كما يتجلى إرث جابوتنسكي في الخطاب السياسي الإسرائيلي اليوم من خلال رؤيته لـ”إسرائيل” الكبرى، وإيمانه بالقوة العسكرية كشرط أساسي للسلام. ورغم أن أفكاره قومية إلى حد كبير، فإنها ألهمت الصهيونية الدينية.
سموتريتش: سنحتل لبنان والأردن وسوريا والعراق ومصر والسعودية
كذلك تظهر أفكار وتعاليم جابوتنسكي في الكتب المدرسية، وفي الأدب والمسرحيات، وخصصت وزارة التعليم الإسرائيلية يومًا سنويًا في جميع المدارس للاطلاع على تراث جابوتنسكي. بجانب العديد من الشوارع التي تحمل اسمه في دولة الاحتلال، فقد تم تسمية أكثر من 50 شارعًا وحديقة في “إسرائيل” باسم جابوتنسكي أكثر من أي شخص آخر في التاريخ اليهودي أو الإسرائيلي، ما يجعله الشخصية التاريخية الأكثر حضورًا اليوم في “إسرائيل”.
ومنذ عام 2005 يحيي الكيان المحتل ذكرى جابوتنسكي من خلال عطلة سنوية يتم الاحتفال بها في 29 من شهر تموز العبري، بهدف توريث رؤيته وتراثه للأجيال القادمة. واللافت أن عبارة “الجدار الحديدي” التي صاغها جابوتنسكي يتردد صداها في تسمية أنظمة الدفاع الإسرائيلية، مثل القبة الحديدية والشعاع الحديدي والسيوف الحديدية.
وفي حين كان رؤساء وزراء “إسرائيل” الأربع من حزب الليكود – مناحيم بيجين، وإسحاق شامير، وأرييل شارون، ونتنياهو – الورثة الرئيسيين لتعاليم جابوتنسكي، فإن أفكاره تغلغلت في عقول القادة الإسرائيليين من جميع جوانب الطيف السياسي الذين يعتبرون أنفسهم بفخر من أتباعه.
وتوقف نتنياهو مطولًا وفي مناسبات عديدة، عند التزام “إسرائيل” بتعاليم جابوتنسكي، وذكر أنه ينتمي إلى التيار الذي سيستكمل طريق جابوتنسكي، ويضيف نتنياهو: “لا نجد أي أحد تقريبًا في أيامنا هذه لا يتفق مع فكر جابوتنسكي”.
وجدير بالذكر أن بن صهيون والد نتنياهو الذي مات قبل بضع سنوات عن عمر ناهز 102 عامًا، كان مستشارًا خاصًا لجابوتنسكي وناشطًا في حركته التصحيحية، وقضى حياته مخلصًا لتعاليم جابوتنسكي، وذكر أنه ورث تعاليمه لأبنائه الثلاث.
من هو جابوتنسكي؟
في وقت من الاضطرابات الهائلة في أوروبا، ولد جابوتنسكي في عام 1880 لعائلة يهودية ثرية بمدينة أوديسا التابعة لروسيا القيصرية آنذاك (أوكرانيا اليوم)، وكانت أوديسا في ذلك الوقت موطنًا لمجتمع يهودي كبير – ما يصل إلى ثلث سكان المدينة البالغ عددهم 400 ألف نسمة من اليهود – ومركزًا للنشاط الفكري والثقافي اليهودي في أوكرانيا.
ولكن مثل العديد من المدن الأخرى في الإمبراطورية الروسية، واجه اليهود اضطهادًا في أوديسا، وهو ما أثر على رؤية جابوتنسكي للحل السياسي المطلوب للحالة اليهودية، ومن هنا اكتشف الصهيونية. بجانب ذلك، عاش جابوتنسكي بالقرب من “لجنة أوديسا” وهي منظمة صهيونية ساعدت اليهود على الهجرة إلى فلسطين، والواقع أن ميناء أوديسا كان الميناء الرئيسي الذي غادرت منه المجموعات الأوروبية والروسية إلى فلسطين.
ورغم أن جابوتنسكي درس العبرية عندما كان طفلًا، فإنه كتب في سيرته الذاتية أن نشأته كانت منفصلة عن الإيمان والتقاليد اليهودية، فقد نشأ منغمسًا في الثقافة الروسية أكثر من اليهودية، وبدأ حياته المهنية في سن الـ14 بالعمل في إحدى صحف أوديسا.
في عام 1897 غادر جابوتنسكي أوديسا إلى برن في سويسرا لدراسة القانون، وكان أيضًا مراسلًا للعديد من الصحف الروسية. وفي أثناء إقامته في برن، التقى بالعديد من قادة الحركة الصهيونية وأصبح مقربًا منهم، واقتنع بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود، وبدأ يكرس مهاراته لهذه الفكرة.
وفي سن الـ22، انضم جابوتنسكي رسميًا إلى الحركة الصهيونية، والتقى تيودور هرتزل بالمؤتمر الصهيوني في بازل عام 1903 وأعجب الأخير به كثيرًا، وخلال هذا المؤتمر، ظهر اقتراح إنشاء دولة يهودية في أوغندا، وصوت جابوتنسكي ضد الاقتراح الأوغندي.
يشير جابوتنسكي في مقالته “الصهيونية وأرض إسرائيل” التي كتبها في عام 1905، إلى أن اختياره فلسطين لا ينبع عن عاطفة أو غريزة فطرية، وإنما مبني على اعتبارات عقلانية عملية تقتضي هذا الاختيار، وأهمها بالنسبة له ضعف العرب وتخلفهم وكونهم لا يشكلون قوة سياسية منظمة.
وفي المؤتمرات الصهيونية المتعاقبة، أثبت جابوتنسكي نفسه كواحد من أعظم خطباء صهاينة عصره. ثم خلال الحرب العالمية الأولى، أراد كسب الدعم البريطاني للقضية الصهيونية من خلال دعم المجهود الحربي البريطاني، وأقنع البريطانيين بتشكيل وحدات تطوعية يهودية للقتال إلى جانبهم ضد العثمانيين الذين كانوا يسيطرون على فلسطين آنذاك.
وشارك جابوتنسكي بنفسه في القتال في فلسطين كضابط في فوج المشاة الملكي الثامن والثلاثين الذي احتل فلسطين مع الجنرال ألنبي في عام 1917. وبعد عدة أشهر من نجاحه في تشكيل قوة قتالية يهودية، ونتيجة لنجاح هذه الكتائب اليهودية في الحرب، أصدرت الحكومة البريطانية إعلان بلفور، كما حصل جابوتنسكي على وسام الإمبراطورية البريطانية (MBE).
جابوتنسكي (وسط الصورة) مع جنود من الفيلق اليهودي في الحرب العالمية الأولى.
قرر جابوتنسكي الاستقرار في القدس، وبعد انتهاء الحرب، حل البريطانيون الوحدات اليهودية العسكرية، لكن جابوتنسكي أراد تشكيل قوة عسكرية يهودية بالقدس، وطلب من البريطانيين السماح بإصدار تراخيص لحمل الأسلحة لليهود، لكن البريطانيون رفضوا طلبه، فنظم نحو 600 جندي يهودي وأنشأ أول ميليشيا عسكرية في القدس، والتي ستصبح النواة الأولى لما سيعرف فيما بعد باسم الهاجاناه، وتسببت وقتها في الكثير من الدمار.
ونتيجة لذلك، قبض البريطانيون على جابوتنسكي في عام 1920 بتهمة حيازة أسلحة وإثارة أعمال شغب بين العرب واليهود، وحُكِم عليه في يوليو/تموز 1920 بالسجن لمدة 15 عامًا، لكن عندما استبدلت الحكومة العسكرية البريطانية بحكومة مدنية بقيادة هربرت صموئيل، أصدر الأخير عفوًا عن جابوتنسكي.
مهندس الصهيونية التصحيحية
في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، نشأت خلافات بين جابوتنسكي وبن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، رغم أن كلا الرجلين من تلاميذ هرتزل، وكان السبب الجذري للصدام هو تصور كل منهما لكيفية إنشاء الدولة اليهودية وما يجب أن تكون عليه حدودها النهائية، بجانب العلاقة مع بريطانيا.
كان الصدام الأيديولوجي بين جابوتنسكي وبن غوريون يمثل نهجين مختلفين تجاه المشروع الصهيوني، وفي حين كان الرجلان ملتزمين بهدف إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين، فإن رؤيتهما لكيفية تحقيق هذه الغاية كانت مختلفة.
تبنى بن غوريون والصهاينة العماليون نهجًا براغماتيًا لبناء الدولة، بما في ذلك إمكانية قبول تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، كما سعوا إلى بناء المؤسسات اليهودية تدريجيًا من خلال الزراعة والمبادئ الاشتراكية.
واعتقد بن غوريون أن إنشاء دولة يهودية صغيرة قابلة للحياة أكثر أهمية من التمسك بالطموحات الإقليمية لجابوتنسكي وأتباعه والتي قد لا تتحقق، وقال بن غوريون: “إن قبول التقسيم لا يعني التخلي عن مطالبنا بالأرض كلها، ولكن يتعين علينا أن نقبل ما يُعرض علينا الآن، ثم بعد أن نصبح قوة قوية، نتوسع في البلاد بأكملها”.
وعلى النقيض من ذلك، رفض جابوتنسكي فكرة التقسيم وأي حل لا يشمل كامل فلسطين التاريخية – غرب وشرق نهر الأردن – كجزء من الدولة اليهودية المستقبلية، كما عارض الاشتراكية وسياسات الصراع الطبقي التي تبنتها الحركات الصهيونية الاشتراكية، وبالتالي دخل في صراع حاد مع وايزمان، رئيس منظمة الصهيونية العالمية، وزعماء الصهيونية العمالية، وخاصة ديفيد بن غوريون.
ولم تكن رؤية جابوتنسكي مبنية على المشاعر الدينية فحسب، بل أيضًا كانت تستند إلى ما اعتبره استحقاقًا تاريخيًا وضرورة استراتيجية. ونتيجة لذلك، انشق جابوتنسكي عن الحركة الصهيونية الرسمية في عام 1925 وأسس الحركة الصهيونية التصحيحية وانتُخب رئيس لها، وهو ما يشير إلى رغبته في عودة الصهيونية إلى أهداف هرتزل.
كما أسس جابوتنسكي حركة “بيتار” في عام 1923 وهي منظمة شبابية قومية مكرسة لتنظيم الهجرة غير الشرعية وتدريب الشباب اليهود على قيادة الدولة اليهودية المستقبلية، وأنتجت قادة سياسيين وعسكريين أهمهم مناحيم بيغن. وبجانب ذلك، أدى تنامي نشاط جابوتنسكي إلى توليه قيادة المنظمة العسكرية “إرجون”، التي باتت الذراع العسكرية للحركة الصهيونية التصحيحية، وكانت هذه الكيانات الثلاث هي أذرع جابوتنسكي.
في عام 1930 كان جابوتنسكي لا يزال يقيم في القدس، ولكن عندما غادر للقيام بجولة في أوروبا، منعته السلطات البريطانية من دخول فلسطين بسبب نشاطه المتطرف والمواجهات بين أتباعه والقوات البريطانية. وعلى مدى السنوات التالية واصل جابوتنسكي قيادة الجماعات الصهيونية في الخارج، وعمل مع زعماء وحكومات أجنبية.
لم يؤيد جابوتنسكي، مثل معظم الصهاينة، وجود أغلبية يهودية في فلسطين فحسب، بل دعا أيضًا إلى تطهير الفلسطينيين وطردهم بالقوة من منازلهم ومزارعهم، فقد كتب في عام 1939: “يجب على العرب إفساح المجال لليهود في أرض إسرائيل، وإذا كان من الممكن نقل شعوب البلطيق، فمن الممكن أيضًا نقل العرب الفلسطينيين”.
والواقع أن أفكار جابوتنسكي دفعت بعض معارضيه من الصهاينة إلى وصفه بـ”الفاشي”، حتي بن غوريون أطلق عليه لقب “فلاديمير هتلر”. فلم يكن لدى جابوتنسكي أي حسابات إنسانية ولم يرَ أي ظلم أو إجحاف تجاه الشعب الفلسطيني وقد برر تهجير الشعب الفلسطيني من دياره على النحو التالي: “لقد اعتاد العالم على فكرة الهجرات الجماعية وأصبح مولعًا بها.. فقد أعطى هتلر – رغم كرهه لنا – هذه الفكرة سمعة طيبة في العالم”.
في أثناء تنظيمه اليهود للمشاركة في المجهود الحربي للحلفاء، مات جابوتنسكي في أمريكا عام 1940، ولم يعش ليشهد تأسيس الدولة التي حارب من أجلها طوال حياته، ولكنه أوصى بأن يدفن فيها حين تتحقق، وبالفعل أعيد دفن رفاته في القدس عام 1964، وظلت أفكاره حية من خلال أتباعه في الحركة الصهيونية التصحيحية، كما استمر إرثه في تشكيل سياسة الأمن الإسرائيلية، وخاصة عقيدة الجدار الحديدي التي أصبحت بمثابة الكتاب المقدس للقادة الإسرائيليين.
إنجيل الصهيونية: عقيدة الجدار الحديدي
في أوائل عشرينيات القرن العشرين، كان جابوتنسكي قد صنع لنفسه اسمًا كزعيم صهيوني قوي، ولكن الاعتراف الأوسع به جاء بعد أن نشر نظريته الأكثر شهرة “الجدار الحديدي” في عام 1923، التي عرض فيها رؤيته لمستقبل الدولة اليهودية وعلاقتها بالفلسطينيين والعرب.
قسم جابوتنسكي نظريته إلى قسمين: الأول حلل المشكلة، والثاني وضع خريطة للطريق، وجاء في تحليله أن الفلسطينيين ليسوا شعبًا من الرعاع، والحقيقة أن جابوتنسكي لم يخفِ بأي حال من الأحوال أن الصهيونية مشروع استعماري وأن الفلسطينيين سكان البلاد الأصليون.
لقد واجه هذه الحقيقة بكل وضوح، ولذا كان أول من حذر الصهاينة من أن الصدام مع الفلسطينيين أمر لا مفر منه، كما كان أكثر واقعية من الصهاينة اليساريين، إذ اعتبر الاعتقاد بأن العمال اليهود والفلسطينيين سيتحدون على أسس طبقية ساذجًا.
كانت الحجة الأساسية التي ساقها جابوتنسكي في نظريته الجدار الحديدي هي أن اليهود لا بد أن يعترفوا بأن مقاومة الفلسطينيين للصهيونية طبيعية، ولذا انتقد بحدة هؤلاء الصهاينة الذين صوروا عرب فلسطين إما باعتبارهم حمقى يمكن خداعهم بسهولة، وإما باعتبارهم مستعدين لبيع بلدهم وحقوقهم. وفي فهمه، فمن غير المعقول أن يقبل الفلسطينيون الاستيطان الصهيوني على أرضهم.
كتب جابوتنسكي: “فلسطين بالنسبة لعربها كانت وما زالت مركز وجودهم القومي المستقل، ولا يمكن أن يكون هناك اتفاق طوعي بيننا وبين عرب فلسطين، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور.. كل شعب أصلي في العالم يقاوم الاستعمار طالما لديه أدنى أمل بالتخلص منه، وهذا ما يفعله العرب في فلسطين وما سيستمرون في القيام به ما دام هنالك بصيص أمل في التخلص منا ومنع تحويل فلسطين إلى أرض إسرائيل”.
لم يعتقد جابوتنسكي أن التعايش السلمي يمكن تحقيقه من خلال المفاوضات أو التسويات السياسية، بل كان ينظر إليهما على أنهما علامة على الضعف ولن تؤدي إلا إلى تشجيع المزيد من المقاومة. لذا كانت حجته الأساسية أن السلام مع العرب والفلسطينيين لا يمكن تحقيقه إلا بعد أن تثبت الدولة اليهودية قوتها التي لا تقهر، وتجبر ما تبقى من الفلسطينيين على التخلي عن أي أمل في جدوى مواجهة الدولة اليهودية.
وأدى هذا التقييم إلى قناعة جابوتنسكي بأن الدولة اليهودية لا يمكن أن توجد إلا خلف جدار حديدي لا يستطيع السكان الأصليون اختراقه، وهو استعارة للقوة العسكرية الغاشمة التي حسب جابوتنسكي، من شأنها أن تحبط الطموحات العربية والفلسطينية للقضاء على المشروع الصهيوني. ومن خلال قوة وردع الجدار الحديدي، ستخلق للدولة اليهودية الظروف التي يمكن في ظلها التفاوض على السلام والتعايش مع الفلسطينيين والعرب.
ويمكن سرد الاستراتيجية التي وضعها جابوتنسكي على النحو التالي:
المرحلة الأولى: بناء الجدار الحديدي.
المرحلة الثانية: الدفاع عن الجدار الحديدي ضد محاولات خرقه.
المرحلة الثالثة: هزائم باهظة للعدو تؤدي إلى إدراكه استحالة خرق الجدار الحديدي.
المرحلة الرابعة: المفاوضات والتسوية على أساس الخضوع والاستسلام الكامل وبعد تحقيق الأهداف الصهيونية.
وبالنسبة لجابوتنسكي لم يكن الجدار الحديدي مجرد حل مؤقت أو غاية في حد ذاته، بل كان الشرط الأساسي لبقاء الدولة اليهودية ووسيلة لتحقيق غاية كسر كل أشكال المقاومة أمام الصهيونية، والواقع أن هذا المبدأ أملى حالة حرب مستمرة.
وبعد أن شرح منطق العداء الفلسطيني للصهيونية ونظرية الجدار الحديدي، أشار جابوتنسكي إلى أن جميع الصهاينة يريدون جدارًا حديديًا، ولكن الفارق الطفيف الوحيد هو أن العسكريين أرادوا جدارًا حديديًا مبنيًا بحراب اليهود، في حين أراد الصهاينة العماليون بناءه بحراب البريطانيين.
كذلك كانت إحدي ركائز استراتيجية الجدار الحديدي هو التحالف مع القوى العظمى التي ستمد “إسرائيل” بالقدرات اللازمة للقيام بدورها ومهامها، فقد أدرك جابوتنسكي أن “إسرائيل” لا تستطيع أن تقف بمفردها، ولذا كتب: “لا يمكن لمشروعنا الاستيطاني أن يستمر ويتطور إلا تحت حماية قوة مستقلة عن السكان الأصليين وخلف جدار حديدي لا يستطيع السكان الأصليون اختراقه”.
وكان التوجه المؤيد للغرب لدى جابوتنسكي نابعًا من نظرته بالتفوق الثقافي للحضارة الغربية، واللافت أنه لم ينظر إلى الصهيونية باعتبارها عودة اليهود إلى وطنهم فحسب، بل باعتبارها فرعًا للحضارة الغربية في الشرق، وترجم هذه النظرة بالقول: “ليس لنا نحن اليهود أي قاسم مشترك مع ما يسمى الشرق، ونحمد الله على ذلك”.
ومن جهة أخرى يشير جابوتنسكي إلى البعد الأوروبي لديه ولدى اليهود بشكل عام بقوله: “نحن اليهود ننتمي إلى الغرب، فأوروبا لنا، نحن من بين بناتها وروادها الأوائل أكثر من أي شعب آخر، ويحق لنا أن نقول إن الثقافة الغربية هي دم من دمنا، ولحم من لحمنا وروح من روحنا، لذلك فإن الابتعاد عن الثقافة الغربية والاقتراب من الشرق يعني بالنسبة لنا التنكر لأنفسنا”.
على خطى جابوتنسكي
تجسد تأكيد جابوتنسكي على القوة العسكرية في إنشاء منظمات عسكرية مثل الإرجون والإيتسل، وحركات سياسية وحزبية حملت أفكاره وسعت إلى تطبيقها. وفي الواقع، فإن بناء الحواجز الأمنية والجدار العازل في الضفة الغربية، وتطوير التكنولوجيات العسكرية ومنظومات الدفاع والإنذار، والحفاظ على التفوق العسكري لـ”إسرائيل”، كلها انعكاسات لإرث جابوتنسكي.
ورغم أنه لم يعش لرؤية التطور النهائي للجدار، أصبح الجدار الحديدي بعد تأسيس “إسرائيل” إحدى السمات الأمنية الإسرائيلية طيلة معظم تاريخها الحديث. وفي سيرته الذاتية، أوضح إسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيلي أسبق، أن تعاليم جابوتنسكي كانت حاسمة للغاية في مساعيهم لتشكيل الدولة، كما أطلق مناحيم بيغن على جابوتنسكي لقب “معلم الجيل”.
ويتفق العديد من المؤرخين على أن منافس جابوتنسكي الرئيسي، بن غوريون، تبنى نهج الجدار الحديدي بعد الثورة العربية الكبرى في عام 1936 ضد الهجرة الصهيونية والحكم البريطاني، لم يستخدم بن غوريون مصطلح الجدار الحديدي، لكن تحليله واستنتاجاته كانت متطابقة مع تحليلات جابوتنسكي واستنتاجاته.
وبحسب المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم، فكل حكومة إسرائيلية منذ عام 1948 بنت عقيدتها الأمنية على استراتيجية جابوتنسكي، ولا يرى شلايم أن الجدار الحديدي كان استراتيجية اليمين الإسرائيلي فقط، ولكنها استراتيجية وطنية ثابتة، فمعظم الشخصيات السياسية والثقافية الإسرائيلية المختلفة اعتبرت نفسها وريثة مخلصة لتوجهات جابوتنسكي، وأكثرهم تمسكًا بإرثه اليوم هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يعتبر نفسه خليفة جابوتنسكي، حيث يقول إن “جابوتنسكي غرس فينا مبدأ الجدار الحديدي وأعطانا الاتجاه والبوصلة”.
وبحسب أستاذ الدراسات اليهودية فوزي البدوي، فإن “كل القيادات العسكرية والسياسية الحاكمة اليوم في إسرائيل من الوسط إلى اليمين القومي، جابوتنسكية الهوى وكلها تسير وفق منطق الجدار الحديدي”.
سكرة القوة: هل تصدع جدار جابوتنسكي؟
بالنسبة للقادة الإسرائيليين، أثبت الجدار الحديدي فاعليته وخضع العديد من العرب لمشروع جابوتنسكي، وبالفعل نرى آثار ذلك فيما يجري اليوم، فمعظم الدول العربية قبلت “إسرائيل” كأمر واقع، لكن لم يصل الفلسطينيون إلى اللحظة التي يتخلون فيها عن الأمل بإمكان كسر الجدار الحديدي.
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد أكثر من 70 عامًا على تطبيق استراتيجية جابوتنسكي، انهار المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الدولة اليهودية بين عشية وضحاها، واخترق الفلسطينيون الجدار الحديدي جسديًا ونفسيًا، وبطريقة لم يعتقد الإسرائيليون أنها ممكنة، حتى حماس صُدمت بهشاشة الجدار الحديدي، والآن، قد تؤدي الثقوب التي جرت لهذا الجدار إلى إحياء الآمال في زوال “إسرائيل”.
لقد ضرب الفلسطينيون على وتر وجودي لدى الإسرائيليين وبطريقة لم تفعلها حتى حرب 1973، وليس صدفة أن يطالب نتنياهو يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بتغيير اسم الحرب على غزة من “السيوف الحديدية” إلى “حرب القيامة”، استحضارًا لأحد الأسماء التي أطلقت على ما أسمته “إسرائيل” حرب استقلال عام 1948.
وبحسب مهند مصطفى الباحث في المركز العربي للأبحاث، فإن “طوفان الأقصى” شكلت تصدعًا عميقًا في الجدار الحديدي الإسرائيلي على مستويين مهمين: الأول كسر الحاجز الدفاعي الحصين الذي فصل بين غزة و”إسرائيل”، والثاني، يتمثل في إظهار “إسرائيل” كدولة هشة عسكريًا.
وفي الواقع كُتب الكثير عن الصدمة الإسرائيلية الناجمة عن “طوفان الأقصى”، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، نشر زئيف جابوتنسكي (حفيد جابوتنسكي) مقالًا أشار فيه إلى أن تصدعات برزت في الجدار الحديدي منذ اتفاق أوسلو (1993) ووصلت إلى ذروتها في عملية “طوفان الأقصى” (2023).
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: وضعنا مخططات هجومية تستهدف كل مكان في الشرق الأوسط يمثل تهديدا لنا pic.twitter.com/qGZlO7gAPj
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 21, 2024
وبناءً عليه، فإن “إسرائيل” تحاول اليوم استعادة هيبة الجدار الحديدي في عيون الأصدقاء والأعداء، وهو ما تجلى بشكل واضح في تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي بتحويل المنطقة العربية إلى جحيم، والتلويح بأن الحرب على غزة قد يتردد صداها في كل أنحاء المنطقة، بل إن القوة الغاشمة انتقلت بالفعل إلى لبنان، وسوريا، واليمن.
غالبًا ما يقال أن نتنياهو يريد استمرار الحرب الحالية على غزة لأن انتهاءها يعني انتهاء حياته السياسية، لكن هذا ليس السبب الوحيد، إن نتنياهو مدفوع بإيمانه العميق بـ”الجدار الحديدي”، ويحاول مع قادة الجيش الإسرائيلي ترميم الجدار الحديدي من خلال إلحاق أقصى قدر من الانتقام بشعب غزة لردع أي شخص عن تكرار ذلك الهجوم مستقبلًا.
إن الإبادة المستمرة في غزة هي ضرورة استراتيجية إسرائيلية لرفع تكاليف المقاومة الفلسطينية، لحد أن يصل الفلسطينيون إلى استنتاج بأن المقاومة غير مجدية ولها ثمن لا يطاق، وعلى هذا فإن هدف الحرب الحالية هو ترسيخ لمفهوم الجدار الحديدي، أو كما عبر نتنياهو في أثناء شرحه الطريقة الوحيدة للتعامل مع الفلسطينيين: “ليس كافيًا أن نضربهم بقوة لمرة واحدة، بل مرارًا وتكرارًا حتى يصبح الأمر مؤلمًا للغاية ولا يطاق”.
وفي تصريح لرئيس الشاباك السابق كرمي جيلون، أكد على أن الفلسطينيين بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول لن يتمكنوا من تنفيذ هجوم آخر كـ”طوفان الأقصى”، وفي رأيه، فالحرب الدائرة على غزة هي في المقام الأول حرب انتقام تهدف إلى قتل الأمل والدافع في نفوس الفلسطينيين بإمكان وجدوى المقاومة والوقوف في وجه “إسرائيل” وهزيمتها. ويبقى التساؤل الأهم، هل ستنجح “إسرائيل” هذه المرة في إيقاف النضال الفلسطيني في مواجهة الجدار الحديدي؟