كشف تقرير لدائرة المحاسبات (أعلى سلطة رقابة في الإدارة التونسية)، وجود إخلالات كثيرة وسوء تصرف كبير بالمال العام في العديد من أبرز المؤسسات العمومية في البلاد خلال السنوات القليلة الأخيرة، ما دفع العديد من التونسيين للمطالبة بمعاقبة الفاسدين والمتسببين في هذا الأمر، فهل يتحقّق ذلك، خاصة مع انتشار ثقافة الإفلات من العقاب في تونس؟
الخطوط التونسية على رأس القائمة
في تقريرها المنشور للعموم، أكّدت دائرة المحاسبات، أن شركة الخطوط الجوية التونسية تقوم منذ عام 2016 بتسيير رحلات لطائرات معطلة جزئيًا (خمسة أعطال على الأقل في نفس الرحلة)، نتج عنها في حالات مماثلة حوادث في شركات طيران أخرى، مشيرة إلى أن أعوان الملاحة الفنيين تذمروا من الحالة الفنية المتردية للطائرات خوفًا على سلامة الرحلات.
وتحدثت الدائرة عن شبهات فساد فيما يتعلق بالتصرف في مخزون قطع غيار الطائرات، حيث تم “خلال الفترة من 2012 إلى 2017، نزع قطع غيار من طائرات من دون تركيبها بطائرات أخرى وذلك في 22 مناسبة وهو ما قد يخفي تجاوزات تتعلق بالسرقة، وتم، في الفترة نفسها، رصد 658 حالة تتعلق بمعدات معطبة تم إرسالها إلى مختصين في الصيانة لإصلاحها من دون أن يتبين ما يفيد استرجاعها من شركة الخطوط التونسية الفنية”.
وقالت دائرة المحاسبات إن الخطوط التونسية الفنية لا تلتزم بتواريخ انتهاء أشغال الصيانة، مما يؤدي إلى ارتفاع مدة توقف الطائرات والتأثير سلبًا على إنجاز الرحلات، وأثرت هذه “الإخلالات” سلبًا على إنجاز برامج الرحلات وحمّلت شركة الخطوط التونسية كلفة إضافية تتعلق بكراء الطائرات والتعويض للمسافرين نتيجة تأخر مواعيد الرحلات.
تعتبر شركة “الخطوط التونسية” للطيران من أسوأ الشركات من ناحية الإدارة في تونس
حمل لجوء الشركة إلى كراء طائرات، نفقات إضافية، خلال الفترة 2014-2017، ناهزت 15.8 مليون دينار وكان بالإمكان الحد منها لو توصلت الشركة إلى صيانة أسطولها، وتراجع أسطول الطائرات المستغلة من طرف الشركة من 32 طائرة سنة 2014 إلى 28 طائرة سنة 2017، وبلغ معدّل أعمار الطائرات أكثر من 15 سنة 2017 في حين يبلغ هذا المعدل 10 سنوات، فقط، ببعض شركات الطيران الإفريقية، وفق التقرير.
وتكبدت الخطوط التونسية خسائر طائلة ناتجة عن انخفاض الاستغلال اليومي لأسطولها خلال الفترة 2012-2016، بما قدره 595 مليون دينار، بحسب دائرة المحاسبات، وتعاني الشركة من العديد من “الإخلالات” على غرار مشكلة توظيف الطيارين، حيث جاء في التقرير أنها تحملت أعباء مالية بقيمة 5.74 مليون دينار بعنوان ساعات طيران لفائدة طيارين دون أن ينجزوها فعليًا وهو ما يعتبر “إهدارًا للمال العام”.
حققت “الخطوط التونسية” تراجعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة
تعتبر شركة “الخطوط التونسية” للطيران من أسوأ الشركات من ناحية الإدارة في تونس، وذلك لضعف خدماتها، ما جعلها تحتل المراتب الأولى ضمن أسوأ شركات الطيران في العالم وفقًا للعديد من التقارير والخبراء، فلا تكاد تمرّ رحلة إلا ويسجل تأخيرًا فيها يصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 24 ساعة دون تقديم أي توضيحات للمسافرين.
وتقدم العديد من المسافرين بقضايا ضد الشركة يتعلق أغلبها بتأخير الرحلات وتتضمن مطالب جبر ضرر بنحو 650 ألف دينار، وفق التقرير، وشهدت الشكاوى المقدمة من عملاء الشركة، وأغلبها يتعلق بتأخير الرحلات، ارتفاعًا ملحوظًا خلال الفترة 2015-2017 حيث زادت بنسبة 32% لتصل إلى 5052 شكوى.
استهلاك مجاني للكهرباء بقيمة 11 مليون دينار
الإخلالات المسجّلة لم تتوقف هنا، حيث أشار التقرير أيضًا إلى أن قيمة الطاقة التي استهلكها موظفو شركة الكهرباء والغاز الحكومية مجانًا تبلغ 11.3030 مليون دينار بحجم دعم يبلغ 3.950 مليون دينار خلال سنة 2014 فقط، مشيرًا إلى وجود إفراط في استهلاك الطاقة نتيجة الامتياز الممنوح لموظفي الشركة لاستهلاك الطاقة مجانًا، في وقت تشهد فيه البلاد عجزًا كبيرًا سنويًا، يتسبب في تزايد عجز الميزان التجاري جراء ارتفاع قيمة واردات المحروقات.
وجاء في التقرير الذي أصدرته دائرة المحاسبات وفي الباب المتعلق بمنظومة التحكم في الطاقة، أنه لا توجد إستراتيجية وطنية لمنظومة التحكم في الطاقة وذلك خلافًا لما يقع الترويج إليه من مؤسسات الدولة على غرار الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة.
وتشير المعطيات الواردة بقانون المالية لسنة 2019 إلى أن الدعم الموجه إلى قطاع المحروقات والكهرباء والغاز سيصل إلى ما قدره 7.2 مليار دينار في سنة 2018، ودعت الدائرة إلى دراسة إمكانية إيجاد صيغ لترشيد الاستهلاك المجاني للكهرباء لأعوان الشركة على غرار استرجاع جزء من الكمية المقتصدة من الكهرباء أو تحفيز الأعوان لاستعمال الطاقات المتجددة لإنتاج الكهرباء.
أحد المستشفيات لم يسجل في سجلاته كميات أدوية مستلمة من مصحة العمران بقيمة 402.9 ألف دينار خلال الفترة 2012-2015
تعتبر دائرة المحاسبات من المؤسسات العريقة في تونس، حيث نص الفصل 57 من دستور 1 يونيو 1959 على إحداث “دائرة المحاسبات” كهيئة مكونة لمجلس الدولة إلى جانب المحكمة الإدارية وكلّفها بمراجعة حسابات الدولة وبإعداد تقرير في هذا الشأن وأقرّ لها سلطة واسعة.
وتختص الدائرة بالنظر في حسابات وتصرف الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والمنشآت العمومية وجميع الهيئات مهما كانت تسميتها، التي تساهم الدولة أو البلديات أو المحافظات في رأسمالها، كما تقوم بتقدير نتائج الإعانة الاقتصادية أو المالية التي تمنحها الهياكل المذكورة آنفًا للجمعيات والتعاونيات والمؤسسات والهيئات الخاصة مهما كانت تسميتها، وفضلاً عن ذلك تباشر الدائرة المراقبة على أموال الأحزاب السياسية، كما يمكنها إنجاز مهمات لمراقبة حسابات هيئات أو منظمات دولية.
سرقة الأدوية
ضمن نفس التقرير، أعلنت دائرة المحاسبات وجود إخلالات في التصرف في الأدوية والمستلزمات الطبية والفحوصات التكميلية في مستشفى عزيزة عثمانة بالعاصمة، تعلقت خاصة بصرف الأدوية والاستلام والتصرف في المخزون.
وكشفت الهيئة في تقريرها الرقابي رقم 31، أن المستشفى لم يسجل في سجلاته كميات أدوية مستلمة من مصحة العمران بقيمة 402.9 ألف دينار خلال الفترة 2012-2015، كما استلم المستشفى خلال الفترة 2013-2015 أدوية خصوصية لمرضى بقيمة 156.4 ألف دينار بعد وفاتهم ولم يتم تسجيلها بالمخزون، من بينها أدوية بقيمة 55.2 ألف دينار أفاد المستشفى بعدم تسلمه لها رغم أنه تم، حسب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تسليمها لأحد أعوانه.
وقالت دائرة المحاسبات في تقريرها الرقابي إن المستشفى تحمل كلفة مناولة تحاليل طبية كان بإمكانه القيام بها وذلك بسبب عدم عرض أذون التزود المتعلقة بها على مخابر المستشفى، وبلغت الكلفة على سبيل المثال 15.2 ألف دينار بعنوان 68 تحليلاً خلال الفترة 2016 2017.
نقص كبير في الأدوية بتونس
بخصوص فوترة الخدمات واستخلاص المستحقات، بينت دائرة المحاسبات أنّه تم التكفل بمرضى حاملي بطاقات العلاج المجاني دون احترام الإجراءات الموضوعة للغرض بما قيمته 726.7 ألف دينار وهي مصاريف رفض الصندوق الوطني للتأمين على المرض إرجاعها إلى المستشفى، مشيرة إلى أنه تم تقدير مجموع الخدمات والأدوية المسندة في هذا الإطار بما قيمته 897 ألف دينار، كما تم التكفل بمرضى على أنهم من أعوان الصحة دون ثبوت أحقيتهم بمجانية العلاج حيث بلغت قيمة الخدمات والأدوية المسندة لفائدتهم 86 ألف دينار.
وجاء هذا التقرير، في وقت تعاني فيه تونس نقصًا كبيرًا في الأدوية ويتوجس العديد من المرضى وخاصة البسطاء منهم خيفة من تواصل أزمة نقص الأدوية غير المسبوقة في البلاد، فكثير منهم بات متوجسًا جراء فقدان أصناف من الأدوية الأساسية في الصيدليات العمومية بالمستشفيات التابعة للدولة أو في الصيدليات الخاصة أيضًا، لما يمثّله ذلك من خطر على صحتهم.
ويشهد احتياطي الدواء في تونس تراجعًا كبيرًا، بسبب امتناع عدد من الشركات العالمية عن تزويد الصيدلية المركزية الحكومية التي بلغت ديونها أكثر من 400 مليون دينار (166 مليون دولار)، وفي وقت سابق هدد عدد من المزودين الأجانب للدواء بإدراج تونس على قائمة سوداء للدول الممنوعة من التزويد بسبب مستحقاتها المتراكمة.
انتدابات غير قانونية في صندوق التقاعد وتجاوزات أخرى
إلى جانب ما ذكرنا كشف التقرير أيضًا عن وجود إخلالات كبيرة بالصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية (الصندوق الاجتماعي المخصص لأعوان الدولة والموظفين الحكوميين)، وقد خلص تقرير دائرة المحاسبات إلى الوقوف على نقائص تعلقت بالانخراط واستخلاص المستحقات والتصرف في المنافع الاجتماعية من جرايات ورأس مال عند الوفاة والتصرف في الرصيد العقاري والبشري، أدّت إلى حرمان الصندوق من موارد كان بالإمكان تحقيقها فاقت 400 مليون دينار.
وأشار التقرير إلى صرف الصندوق جرايات لفائدة متقاعدين انتفعوا بأجور بعد إحالتهم إلى التقاعد خلال الفترة الممتدة من سنة 2012 إلى سبتمبر 2017 بمبلغ 2.242 مليون دينار، كما أشار إلى أن الصندوق لا يقوم بتعليق الجرايات وإيقاف التحويلات بسبب نقص المتابعة لحالات الوفاة أو إعادة الزواج لمن سنهم دون 55 سنة، ما نتج عنه صرف جرايات دون موجب بعد الوفاة أو بعد زوال شرط استحقاق جراية الترمل بمبلغ 48.919 مليون دينار.
تتعلق جل الملفات المحالة على القضاء، بالشركات والمؤسسات العمومية التي يشتبه بوجود شبهات فساد كبيرة داخلها
كما أكد التقرير أن الصندوق لم يحترم شروط المشاركة في المناظرة الخارجية المنجزة بعنوان سنة 2011 لانتداب 100 عون، ما أدى إلى إقصاء ما مجموعه 4852 مترشحًا على الأقل، بالإضافة إلى انتداب الصندوق 50 عونًا بصفة مباشرة عن طريق التعاقد خلفًا للصيغ القانونية تبين أن جميعهم من أبناء الاعوان وأقربائهم، وإعادة انتداب وترسيم 12 عونًا سبق عزلهم لأسباب تأديبية أو إنهاء التعاقد.
وبلغ عجز الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية نحو 426 مليون دينار سنة 2015 (213 مليون دولار)، وتعد أزمة الصندوق من الملفات القديمة التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن حلها، وسبق أن نبهت مختلف الحكومات التونسية إلى خطورة الوضع المالي لهذا الصندوق إلا أنه لم يتم تدارك الأمر إلى الآن.
الإفلات من العقاب
هذا التقرير الذي نشرته دائرة المحاسبات أول أمس السبت، كشف حجم الإخلالات الموجودة في العديد من المؤسسات العمومية، غير أن مهمة المحاسبة تبقى عند الجهات المختصة التي لم تتحرك إلى الآن لمعاقبة المقصرين أو حتى فتح تحقيق في الغرض.
وعلى الرغم من تبني رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد ما اعتبره حربًا على الفساد والفاسدين، فلم تسجل تونس قضايا مهمة في هذا السياق، سوى بعض القضايا التي يكون منطلقها صراع سياسي أكثر منه مكافحة للفساد.
وسبق أن أحالت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (دستورية) 94 ملف فساد إلى القضاء بين مايو وديسمبر 2016 بعد فرز قرابة 14 ألف ملف في خزائن الهيئة، وورد على هيئة مكافحة الفساد التونسية خلال سنة 2016 فقط 9027 ملفًا، بينها 958 أحيل إليها من رئاسة الحكومة، حسب ما كشفه تقرير الهيئة الأول لها منذ إنشائها في 14 من نوفمبر 2011.
يخشى الشارع التونسي من تواصل الإفلات من العقاب
تتعلق جل الملفات المحالة إلى القضاء بالشركات والمؤسسات العمومية التي يشتبه بوجود شبهات فساد كبيرة داخلها، تتعلق باستغلال نفوذ واختلاسات وارتشاء، ومن بين هذه المؤسسات العمومية التي نخرها الفساد: الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وشركة الكهرباء والغاز وشركة الخطوط التونسية والصناديق الاجتماعية ومؤسستا الإذاعة والتليفزيون.
وحسب “مؤشر مدركات الفساد” للعام 2017 الصادر عن “منظمة الشفافية الدولية” في فبراير/شباط الماضي، فقد احتلت تونس المرتبة الخامسة عربيًا والـ74 عالميًا بـ71 نقطة في مؤشر الفساد للعام 2017، مقارنة بحصولها على المرتبة الـ75 في العام 2016.
ويخشى العديد التونسيين أن يؤدّي الإفلات من العقاب إلى المزيد من تفشي ظاهرة الفساد في البلاد، ما من شأنه أن يزيد تأزيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها فضلاً عن الجانب السياسي الذي يتأثر مباشرة بتنامي الفساد في تونس.