على نار هادئة تطبخ “إسرائيل” مشروعًا جديدًا لتوطيد وتطوير علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع دولة عربية جديدة، بعد نجاح قطار التطبيع الذي تقوده في اختراق الكثير من العواصم الإسلامية، وتجاوز الخطوط الحمراء كافة، وبات قريبًا جدًا من محطته التالية.
فبعد أن توغلت كثيرًا في القارة السمراء، وضعت يدها الثقيلة على مصر وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا وتشاد، عين دولة الاحتلال تتجه الآن نحو السودان، لتضمه لقائمة الدول المطبعة علنًا، وتكسر الجليد الذي طالما وضعته وحافظت عليه الأنظمة العربية طوال السنوات الماضية، لكن مع حرارة العلاقات وقوة المصالح بدأ يذوب تدريجيًا.
العلاقات الإسرائيلية السودانية، باتت تتصدر المشهد السياسي بشكل عام، خاصة بعد الحديث المتكرر من الجانب الإسرائيلي، بعقد سلسلة لقاءات سرية مع مسؤولين سودانيين، لبحث العلاقات الثنائية وتطويرها، وما زاد الأمر غموضًا، أن تلك التصريحات والتسريبات لم تلق أي نفي من الجهات السودانية الرسمية، مما يرجح أن الخرطوم قد فتحت الباب أمام الإسرائيليين للدخول منه كباقي الدول التي سبقتها.
قبل تصريحات نتنياهو بأيام، كشفت شركة “الأخبار الإسرائيلية” في 25 من نوفمبر الماضي، أن الزيارة العربية المقبلة لنتنياهو هي السودان، من دون تحديد موعدها
حالة الجدل في ملف العلاقات بين تل أبيب والخرطوم لا يزال قائمًا حتى كتابة أحرف هذا التقرير، خاصة بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإثنين الماضي، أن شركات الطيران الإسرائيلي ستتمكن من التحليق فوق الأجواء السودانية في طريقها إلى أمريكا الجنوبية.
الخرطوم تفتح باب التطبيع
وقبل تصريحات نتنياهو بأيام، كشفت شركة “الأخبار الإسرائيلية” في 25 من نوفمبر الماضي، أن الزيارة العربية المقبلة لنتنياهو هي السودان، من دون تحديد موعدها، سعيًا إلى إنشاء مسارات جوية مختصرة من “إسرائيل” إلى أمريكا الجنوبية عبر أجواء السودان.
وكذلك كشفت في 27 من نوفمبر أن مبعوثًا لوزارة الخارجية الإسرائيلية التقى سرًا خلال عام 2017 بمدينة إسطنبول التركية مسؤولين سودانيين، أحدهم مقرب من سفير الخرطوم الحاليّ في واشنطن ورئيس المخابرات السوداني السابق محمد عطا، تمهيدًا لإقامة علاقات دبلوماسية.
وعلى ضوء هذا التطور الدراماتيكي الحاصل في تاريخ العلاقات العربية مع دولة الاحتلال، يبقى السؤال الأبرز: هل فتحت الخرطوم أبوابها لـ”إسرائيل”؟ ليؤكد رئيس قطاع الإعلام في “المؤتمر الوطني” الحاكم في السودان الدكتور إبراهيم الصديق، أنه لا مجال لـ”إسرائيل” في السودان، لأن التاريخ يسجل بأن “إسرائيل” رعت ودعمت الحرب في جنوب السودان حتى الانفصال، وأضاف الصديق “إسرائيل كانت وراء قضية دارفور، وهناك أكثر من 38 منظمة إسرائيلية في دارفور، وقائد حركة تحرير السودان المتمردة في دارفور عبد الواحد محمد نور، ما زال أكثر المتعنتين ضد الخرطوم، لديه علاقات وثيقة مع إسرائيل”.
كشفت تراجي مصطفى أبو طالب، رئيسة “جمعية الصداقة السودانية الإسرائيلية”، أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان أجرى مؤخرًا اتصالات مباشرة مع “إسرائيل“ دون وسطاء
ولفت المسؤول في الحزب الحاكم إلى سعي “إسرائيل” لتطبيع العلاقات مع السودان لأسباب اقتصادية، قائلاً: “الواقع الدولي والإقليمي يشهد حالة هشاشة بالإضافة إلى أن أكثر العلاقات بين الدول، ارتبطت بالمصالح، في حين تراجعت المواقف ذات الطابع المبدئي، كما أن النمو الاقتصادي المتسارع في القارة الإفريقية، شكل مدخلاً جديدًا لـ”إسرائيل”، في هذه القارة التي تختزن أغلى المعادن وخاصة في منطقة البحيرات”.
وتابع الصديق “نعيش وضعًا عربيًا في حالة شتات، لذلك نرى المساعي الإسرائيلية أصبحت أكثر جرأة هذه المرة”، لافتًا إلى أن الدول العربية والإسلامية، بحاجة لليقظة لمجابهة المخطط الإسرائيلي.
مظاهرات ضد التطبيع
لكن تصريحات المسؤولين السودانيين عن رفض فتح التطبيع مع دولة الاحتلال، يبدو أنها ليست محل إجماع، فيقول مدير مركز “الراصد للدراسات الإستراتيجية والسياسية” الفاتح محجوب: “يجب على الحكومة السودانية أن تتبني إستراتيجية تقوم على التعامل مع “إسرائيل” وفقًا للوضع الراهن”، ويضيف “يمكن للمسؤولين السودانيين لقاء مسؤولين إسرائيليين، لبحث القضايا العالقة مع تجنب أي زيارات متبادلة”، متابعًا حديثه أنه على المسؤولين السودانيين أن يتخلوا عن الهستيريا في المصافحة بالمؤتمرات والمحافل الدولية أو اللعب ضدهم في مباريات دولية.
كما كشفت تراجي مصطفى أبو طالب، رئيسة “جمعية الصداقة السودانية الإسرائيلية”، أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان أجرى مؤخرًا اتصالات مباشرة مع “إسرائيل“ دون وسطاء، وقالت أبو طالب إنها مطلعة على الاتصالات التي يجريها الحزب الإسلامي الحاكم مع “إسرائيل”، مشيرة إلى أن المباحثات مستمرة بين الجانبين من أجل الاتفاق على بعض القضايا السياسية والاقتصادية.
الجدير ذكره أن شهرا أكتوبر ونوفمبر شهدا تنظيم زيارات إسرائيلية لدول عربية عدة، فقد زار نتنياهو في 26 من أكتوبر سلطنة عُمان، والتقى السلطان قابوس لبحث أوضاع المنطقة، ووصلت في اليوم ذاته وزيرة الرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف إلى إمارة أبو ظبي ضمن فريق الجودو الإسرائيلي المشارك في مباريات دوليّة.
قال اللواء واصف عريقات الخبير الأمني والعسكري: “إن أقامت “إسرائيل” علاقات مع السودان، فلا أظن أن الأخير سيقطع طرق إمداد السلاح لحماس عبر أراضيه دفعة واحدة، بل سيظل أمامه هامش قد يضيق نسبيًا، لكنه لن يغلق نهائيًا”
وفي 4 من نوفمبر، وصل وزير المواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى مسقط للمشاركة في مؤتمر دولي عن طرق المواصلات العالمية، وفي 25 من نوفمبر/تشرين الثاني، وجهت البحرين دعوة إلى وزير الاقتصاد الإسرائيلي إيلي كوهين لزيارتها في أبريل للمشاركة بمؤتمر عن التكنولوجيا، وفي اليوم ذاته، زار الرئيس التشادي إدريس ديبي “إسرائيل”.
ما علاقة حركة حماس؟
أهداف “إسرائيل” في تطوير علاقاتها مع السودان، يبدو أنها ليست سياسية ودبلوماسية واقتصادية فقط، بل هناك أسباب أخرى تدفعها للهث خلف تلك العلاقات، وذلك بحسب ما صرحت به النائب في المجلس التشريعي عن حركة “حماس” سميرة الحلايقة، حين أكدت وجود ضغوط أمريكية إسرائيلية على السودان لإنهاء وجود حركة حماس على أراضيه وضرب المقاومة الفلسطينية.
ودعمت تصريحات الحلايقة، ما قالته صحيفة “معاريف” العبرية، في 1 من ديسمبر الحاليّ، بأن إسرائيل تمنح إقامة علاقات دبلوماسية مع السودان أولوية متقدمة لاعتبارات أمنية متعلقة بوقف إمداد حماس في غزة بالسلاح، وأن هناك اتصالات إقليمية تجري معظمها سرية، مع دول عربية كالسودان، لتسويق تكنولوجيا التعقّب الأمني للعمل على وقف وصول الأسلحة إلى حماس في غزة، حيث يبدأ نقلها من ليبيا إلى السودان، وصولًا إلى سيناء وغزّة، على حد زعم الصحيفة العبرية.
ويقول في هذا الصدد اللواء واصف عريقات الخبير الأمني والعسكري: “إن أقامت “إسرائيل” علاقات مع السودان، فلا أظن أن الأخير سيقطع طرق إمداد السلاح لحماس عبر أراضيه دفعة واحدة، بل سيظل أمامه هامش قد يضيق نسبيًا، لكنه لن يغلق نهائيًا”، مضيفًا “إيران المورد لسلاح المقاومة ستعثر على طرق جديدة لتجاوز أي مضايقات سودانيّة متوقعة، فإيران لديها تجارب طويلة، وامتداداتها الإقليمية برًا وبحرًا ستوصلها إلى هدفها النهائي بإيصال السلاح إلى غزة”.
ويعتبر السودان أحد الطرق الأساسية لإيصال السلاح إلى حماس في غزة منذ سنوات طويلة، وقد وضعته “إسرائيل“ على رأس الملاحقة الأمنية والهجمات العسكرية للحيلولة دون وصول أي وسائل قتالية إلى الحركة.
لعل الموقف السوداني المضطرب في ملف العلاقات مع “إسرائيل” ناتج فعليًا عن حالة الخلاف العربي القائمة، وكذلك سعي الكثير من الدولة العربية والإسلامية لتطوير علاقاتها بدولة الاحتلال
ففي مارس من عام 2014، اعترضت البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية بين السودان وإريتريا سفينة تحمل شحنة أسلحة إيرانية متطورة موجهة إلى غزة، تحمل عشرات صواريخ أرض – أرض يصل مداها إلى 100 كيلومتر، وفي ديسمبر من عام 2012، اتهمت “إسرائيل” السودان بالسماح لإيران باستخدام موانئه لنقل إمدادات عسكرية لحماس في غزة، وفي عام 2010، كثف الجيش المصري انتشاره على حدود السودان لمنع تهريب السلاح إلى غزة، وفي يناير من عام 2009، قصفت طائرات إسرائيلية في السودان قافلة أسلحة تضمّ 17 شاحنة متجهة من إيران إلى القطاع.
لعل الموقف السوداني المضطرب في ملف العلاقات مع “إسرائيل” ناتج فعليًا عن حالة الخلاف العربي القائمة، وكذلك سعي الكثير من الدولة العربية والإسلامية لتطوير علاقاتها بدولة الاحتلال، فيما تبقى الأيام المقبلة تخفي الكثير من أسرارها عن هذا الملف الشائك.