على نحوٍ مفاجئ، استفاقت فرنسا صباح السبت 17 من نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، على وقع انطلاق إضراب حركة “السترات الصفراء” التي خرجت إلى الشارع بعفوية وتحولت لمظاهرات بأعدادٍ حاشدة، احتجاجًا على رسوم المحروقات وتراجع القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، حيث ارتفعت أسعار الديزل بنسبة 23% وأسعار البنزين بنسبة 14%.
يذكر أن الحركة ولدت رسميًا نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وأطلقت في مايو/آيارعريضة رافضة لرسوم المحروقات ورفع عام لضرائب الاستهلاك المحلي على منتجات الطاقة والقيمة المضافة المحسوبة على شراء المحروقات وبعض السلع الأخرى، على المواطن الفرنسي الذي يعاني أصلًا من تراجع في القوة الشرائية التي ازدادات في عهد الرئيس ماكرون الذي ينتهج، حسب ما يبدو، سياسات تخدم المستثمرين الأثرياء على حساب الطبقة المتوسطة، من خلال رفع ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة، وغيرها من الضرائب الأخرى.
في الحقيقة هذا ما يقوله الاقتصاد السياسي في مسيرات السترات الصفراء، يقول إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته يطبقون مبادئ الليبرالية الجديدة على حساب الليبرالية الاجتماعية، فما الليبراليتان الجديدة والاجتماعية؟
الليبرالية الجديدة
لقد ظهرت الليبرالية الاقتصادية في أوروبا حينما نشر الاقتصادي الإسكتلندي آدم سميث، كتابًا بعنوان “ثروة الأمم” عام 1776، إذ نادى في كتابه بضرورة إلغاء التدخل الحكومي بشكلٍ شبه كامل في الشؤون الاقتصادية، ورفع القيود عن عملية التصنيع، ورفع الحواجز والتعريفات الجمركية، مشيرًا إلى أن “اليد الخفية” المعتمدة على نسب العرض والطلب هي التي توازن حركة التبادل السلعي في السوق.
ودافع سميث عن التحرر والنزعة الفردية في التبادل السلعي، مشيرًا إلى أن المنافسة الحرة التي تعني اختيار أصحاب رؤوس الأموال الوسيلة المناسبة التي من خلالها يستطيعون تحقيق أرباحهم الطائلة، هي الوسيلة الناجعة للحفاظ على التطور والنمو في السوق، هنا يرفع سميث يد الدولة عن التدخل في الشؤون الاقتصادية ويفسح المجال لرؤوس الأموال لاتباع الشكل المناسب للربح، بعيدًا عن إنصاف أبناء الطبقة الوسطى أو الفقيرة التي رفض تدخل الدولة لإقرار سياسات تساندهم.
في مطلع السبعينيات، وتحديدًا مع اندلاع أزمة النفط عام 1973، قررت الدول الأعضاء في منظمة الأوبك وقف تصدير النفط احتجاجًا على حرب 1973، ما أدى إلى نقصٍ كبير في الطاقة، وارتفاعٍ حادٍ في الأسعار
لقد سادت مبادئ الليبرالية في القرنين الثامن والتاسع عشر، غير أنه مع ظهور أزمة الكساد الاقتصادي الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، جاء الاقتصادي جون ماينارد كينز بنظرية بديلة أطلق عليها فيما بعد الليبرالية الاجتماعية، وفي نظريته، نادى كينز بضرورة تدخل الحكومات والبنوك المركزية لزيادة نشاط الأفراد من خلال دعمهم برأس المال الذي يوفر لهم استثمارات منتشرة تعود على الحكومة والبنوك المركزية بدخلٍ يتحول لإدخار يمنح كرأس مال لمستثمرين آخرين، وهكذا يكون هناك دورة اقتصادية يدعم فيها نشاط الأفراد عبر سياسات نقدية ومالية تحفظ التوازن في السوق.
اتبعت عدة حكومات أفكار كينيز، حيث أصبحت فكرة تدخل الدولة للصالح العام أكثر قبولًا في أكثر من دولة، وباتت تطبق “السياسات الكينزية” من خلال السياسات التالية:
ـ سياسات نقدية: تقوم على هدف الحفاظ على حالات الإنفاق والإدخار والدخل لدى المواطن، ففي حال كان هناك إنتاج أكثر من القدرات الشرائية الإنفاقية للمواطن، أي في حال وجود حالة ركود اقتصادي في الإنفاق، تذهب الحكومة نحو اتباع سياسات نقدية “توسعية” تطبق من خلال تخفيض الضرائب وسعر الفائدة، ورفع عرض النقود والأوراق المالية، وغيرها من الوسائل، في سبيل رفع الإنفاق والحفاظ على رفاهية المواطن وعمله في القطاعات المختلفة.
أما في حال كان هناك إنفاق مالي أكثر مما ينتج بشكلٍ حقيقي، أي هناك استهلاك أكثر من الوضع الحقيقي لعملية الإنتاج، فيتم اتباع سياسات نقدية “انكماشية” تطبق من خلال رفع الضرائب وسعر الفائدة، وتقليل عرض النقود، لأن الاستهلاك أو الإنفاق الذي يكون أكثر من معدل الإنتاج الحقيقي يرفع معدل التضخم، نتيجة ارتفاع حجم السيولة في السوق، وبالتالي يخفض القيمة الشرائية للعملة، ويجعل الاستيراد من الخارج بمعدلات كبيرة يؤثر سلبًا على الإدخار الداخلي.
ـ سياسات مالية عامة: تقوم على هدف تطوير الحكومة الخدمات كالطرق والسكك الحديدية والموانئ، وتشجيع الاستثمار من خلال تقديم الدعم المادي واللوجستي للشركات والأفراد، ورفع مستوى التعليم والبحث والتطوير، وغيرها من السياسات التي ترفع من مستوى القدرة الإنتاجية لدى الفرد والمواطن.
غير أنه في مطلع السبعينيات، وتحديدًا مع اندلاع أزمة النفط عام 1973، قررت الدول الأعضاء في منظمة الأوبك وقف تصدير النفط احتجاجًا على حرب 1973، ما أدى إلى نقصٍ كبير في الطاقة، وارتفاعٍ حادٍ في الأسعار، وبالتالي أزمةٍ اقتصاديةٍ تزامن فيها الركود الاقتصادي مع ارتفاع عالٍ لمعدلات التضخم، أظهرت نظرية كينيز عجزًا كبيرًا في التعامل مع هذا الكساد، أي أن أساليب كينيز الاقتصادية أخفقت في تجاوز هذه الأزمة.
يوصف الرئيس ماكرون بأنه “رئيس الأغنياء”
ومع تقلص معدلات الربح، وظهور العولمة التي ساهمت في تطور الارتباط بين رؤوس الأموال وزادت من قدراتهم على التأثير في سياسات الحكومات، لا سيما الشركات العملاقة التي يطلق عليها اسم “الشركات متعددة الجنسيات”، عادت مبادئ الليبرالية للحياة من جديد، وهو ما بات يطلق عليها اسم الليبرالية الجديدة التي أبقت على تدخل الدولة بشكلٍ جزئي، لكن لصالح رؤوس الأموال على النقيض من الليبرالية الاجتماعية، وفي وقتنا الحاليّ، تتضمن الليبرالية الجديدة حزمة من المبادئ التي أسس لها الاقتصادي ويليام سون، وأصدرها باسم “توافق أو إجماع واشنطن”، ومن أهم مبادئها:
ـ هيمنة اقتصاد السوق: اقتصاد السوق الذي يعني التبادل التجاري بناءً على توازن العرض والطلب، ويطالب هذا النوع من الاقتصاد رفع القيود كافة التي تفرضها الحكومات على المشروعات الخاصة، مهما كانت التبعات الاجتماعية والأضرار التي يتسبب فيها رفع هذه القيود، مقابل تخفيض الأجور ورفع الضرائب لصالح رؤوس الأموال وخزينة الدولة، وعدم التدخل لضبط الأسعار، وإتاحة الحرية الكاملة لحركة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات.
ـ تقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية: وبات هذا الشرط بمثابة الشرط العالمي، حيث تشترط سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين على الحكومات الراغبة في الاقتراض، تقليض النفاقات على الخدمات الاجتماعية، كالتعليم والصحة، مقابل تقديم الدعم الحكومي التشجيعي لرجال الأعمال والرياديين.
ـ تقليص التدخل الحكومي في المستوى الربحي والإنتاجي: أي حماية حرية المنتج والمستثمر في تحديد معدلات الربح.
ـ خصخصة مؤسسات الخدمات العامة: إذ تضمن الخصخصة مستوى إنتاجية وجودة وكفاءة أفضل من الإدارة الحكومية، لكنها تتسبب في مزيد من تركيز الثروة في يد قلة من رجال الأعمال أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الذين يتبعون سياسات ترفع من أرباحهم دون أخذ الوضع الاجتماعي بعين الاعتبار.
لم يتجاوز نسق النمو الاقتصادي في فرنسا منذ تولي الرئيس ماكرون الـ1%، ما يشير لوجود حالة ركود اقتصادي كاسحة في البلاد، سببها الأساسي بلوغ معدل البطالة نسبة 9.3%
وفي إطار مبادئ الليبرالتين تحاول بعض الحكومات الموازنة بينهما، والبعض الآخر يتجه لتطبيق الليبرالية الجديدة على نحوٍ تام، فماذا عن ماكرون؟
توجهات الرئيس ماكرون
يوصف على أنه “رئيس الأغنياء”، درس ماكرون الإدارة والاقتصاد في المدرسة الفرنسية للإدارة، وبعد تخرجه فيها عام 2004، عمل في بنك روتشيلد، عيّنه الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند، في مايو/أيار 2012، نائبًا للأمين العام لمكتب رئيس الجمهورية ومستشارًا له، ثم كلفه بوزارة الاقتصاد عام 2014، وتعبيرًا عن رفضه لسياسات هولاند الاقتصادية ذات الصبغة الاشتراكية، قدم استقالته في أغسطس/آب 2016.
تكاد بعض العوامل، كتحصيله الأكاديمي وعمله في مصرف يدير رؤوس أموال ضخمة، وتوليه وزارة الاقتصاد ومن ثم ترك منصبه بسبب رفضه للسياسات الاشتراكية، تمثل ما يشبه الدليل على السلوكيات الشخصية للرئيس ماكرون فيما يتعلق بالاقتصاد، تلك السلوكيات القائمة على محاباة رؤوس الأموال ومصلحة الدولة الاقتصادية العامة، بدلًا من المواطن، أي تبنيه توجه لسياسات اقتصاد كلي لا اقتصاد جزئي فردي، رغم تشدّيده خلال حملته الانتخابات على عدة سياسات إصلاح اقتصادي اجتماعي، أهمها تخفيض ضريبة الكربون التي ترفع أسعار المحروقات، التي لم يلغها حتى يومنا هذا.
لم يتجاوز نسق النمو الاقتصادي في فرنسا منذ تولي الرئيس ماكرون الـ1%، ما يشير لوجود حالة ركود اقتصادي كاسحة في البلاد، سببها الأساسي بلوغ معدل البطالة نسبة 9.3%، فيما بلغ إجمالي الدين العام 2299.8 مليار يورو، حيث بلغ مجموع الدين، في نهاية سبتمبر/أيلول 2018، 100.9% من إجمالي الناتج المحلي، أي أن الاقتصاد الفرنسي يعتمد على الدين أكثر من اعتماده على الإنتاج المحلي، وهذا مؤشر سيء للغاية.
في الختام، تبيّن المؤشرات المذكورة أعلاه مدى قوة الخنقة الاقتصادية التي ترزح تحتها فرنسا، ويبدو أن الرئيس ماكرون رأى أن التقشف ورفع الضرائب وزيادة سعر الفائدة وتقليل النفاقات والخدمات العمومية ورفع الدعم عن بعض القطاعات لا سيما قطاعي الزراعة والخدمات، وهي سياسات تخدم رؤوس الأموال والاقتصاد الكلي وتتجاهل توجهات الاقتصاد الجزئي الفردي، هي الحل، لتنتفض شرائح المجتمع الفرنسي، لا سيما الفاعلين في قطاعي الخدمات والزراعة ضد هذا القرار.