ما إن انطلقت الحرب لاستعادة السيطرة على مدينة الموصل حتى بدأ سكان المدينة بالتأهب والترقب، هل يا ترى سيجدون منازل تأويهم أم أن الحرب ستأكل كل شيء؟
انطلقت الرصاصة الأولى من محور الخازر الواقع شرقي محافظة نينوى، وكانت القوات مجتمعة في المنطقة التي تسيطر عليها القوات الكردية في تلك المنطقة، وكان القتال على أشده، بينما عناصر التنظيم يتحصنون في قرية “سيف دنان” التابعة لقضاء الحمدانية شرقي الموصل، التي هجرها أهلها باتجاه إقليم كردستان في أثناء سيطرة التنظيم عليها، فالتقدم كان سريعًا للقوات الأمنية المدعومة من قوات التحالف الدولي، حتى تمكنت تلك القوات من إنهاء سيطرة التنظيم على تلك المناطق والتقدم سريعًا باتجاه مناطق سهل نينوى قبل خوض معارك الموصل في المراحل الأخيرة من القتال.
الرحلة إلى الموصل
في أحد الأيام كنت برفقة زميلي المصور “كارزان” وهو كردي من سكان مدينة أربيل، اصطحبته وركبنا سيارتي متوجهين من أربيل إلى مدينة الموصل، للالتحاق مع باقي الزملاء في تغطية المعارك الدائرة، وكانت القوات قد وصلت إلى منطقة الحمدانية، وسيطرت على كامل المدينة وبدأت تعد الخطط للتقدم باتجاه منطقة برطلة، التي تعد البوابة الرئيسية المؤدية إلى مدينة الموصل، كنت أقود سيارتي وكانت الساعة الثامنة صباحًا حينما وصلنا منطقة الخازر، حتى أخذنا موافقات أمنية للتوجه إلى مناطق المعارك، حتى شاهدت من بعيد بينما كنا في الطريق، بقايا منازل على بعد 3 كيلومترات تقريبًا، فقلت لزميلي لنتوجه إلى تلك القرية.
وفعلًا غيرت المسار وذهبنا باتجاهها، وكان يتمالكنا الحذر، ربما تكون لا تزال غير مؤّمنة، أو ربما تكون فيها جيوب للتنظيم أو نفاق يختبئون بها، لكن رغم ذلك توجهنا إليها، وإذا بها قرية شبه مهجورة، فيها مسجد عند مدخلها لكنه متضرر بشكل كبير نتيجة العمليات العسكرية، ومنازل القرية مهدمة ومتضررة بشكل كبير جدًا، كأنها تعرضت لقصفٍ شديد عند استعادة القرية، كانت القرية خالية كليًا من أي عنصر أمني، توغلنا داخلها وتجولنا في طرقاتها الخاوية، لا صوت فيها سوى هدير الرياح القوية، لكون القرية كانت على تلة ومفتوحة من جميع جهاتها.
بدأنا ندخل وسط القرية وإذا بعدد من الأطفال جالسين ومعهم رجلٌ مُسن، جالسٌ عند عتبة منزله ويحمل بيديه مرآة يشاهد فيها بقايا لحيته التي بدأ يحلقها ويتزين كأنما لديه احتفال أو يوم زفاف أو يستقبل ضيفًا عزيزًا عليه، ركنت السيارة خلف المنزل وطلبت من زميلي كارزان أن يحمل معدات التصوير لنتجول داخل القرية سيرًا على الأقدام، وفعلًا وجدنا ما يمكن العمل عليه من توثيق للأحداث ومشاهد خلفتها الحرب.
اتجهت إلى الرجل المُسن وألقيت التحية عليه، وانتفض من مكانه كأنه يقول من هؤلاء الذين ركبوا موجة الخطر ليأتوا إلينا في هذا المكان النائي، مددت يدي إليه وألقيت عليه التحيه وصافحته حامدًا الله على سلامته وسلامة أهله، عرفته بنفسي بأنني صحفي ومعي زميلي المصور جئنا إلى هنا لننقل ما خلفته الحرب، وقال: “حمدًا لله وصلتم بعدما اعتقدنا أننا من المنسيين، لأنه وبعد مرور عدة أيام من عودتنا لم يصلنا أي أحد، لا مسؤول ولا صحفي ولا جمعية إغاثية، نعيش على بقايا مواد جلبناها معنا من المخيم”.
طلب مني الجلوس لنشرب الشاي معًا، وفعلًا نادى ابنه وطلب منه إحضار الشاي مع بعض الطعام، قلت له: ما اسمك يا عمّ؟ وما قصتكم؟ قال لي: “اسمي أبو عدنان من سكان هذه القرية، أما قصتنا سأرويها لك بعد أن نضيفكم ونشرب الشاي معًا”.
شربنا الشاي وأكلنا قليلًا من الكعك المصنوع في البيت على طريقة أهل الموصل، وتبادلنا الحديث وراح العم أبو عدنان يحدثنا فقال: “دخل علينا عناصر داعش سنة 2014، وبدأوا يفرضون سيطرتهم وهيمنتهم وقوانينهم على السكان، وكان السكان خليطًا من العرب والكُرد، حتى بدأ السكان يخرجون من القرية شيئًا فشيئًا باتجاه مدينة أربيل، وسكنّا في أحد المخيمات طوال تلك الفترة، عانينا فيها ما عانينا، تعب وقهر وحسرة على الديار وصعوبة فراقها، حتى استعادت القوات الأمنية القرية فعدنا إليها ووجدنا منازلنا مهدمة، وكل شيء في القرية أصبح خرابًا وباتت مهجورة، ولشدة القتال فيها تم تفجير غالبية البيوت ومحولات الكهرباء، ولم يعد في القرية شيء يمكن أن ينفعنا، لكن بقاءنا هنا بعد هذا الخراب مسألة مبدأ، لأن الدار أغلى وأثمن من كل شيء”.
بينما كنا نتحدث جاءت السيدة “أم عدنان” وجلست معنا ورحبت بنا بصدرٍ رحب، وهي تنظر نظرات الأم الحنينة الدافئة، وابتسامتها العريضة تخفي معالم الحزن والحسرة على ما فقدته بسبب الحرب.
على الرغم من كبر سنّهما فإنهما يعملان بمفردهما بهمة الشباب وحيوية الأبطال كأنهما جنودٌ يلبون نداء المعركة، ويلتحقون بسرايا الكفاح والجهاد من أجل توفير متطلباتهم وعدم الحاجة لمساعدة أحد.
أم عدنان تلك السيدة التي تجاوز عمرها الستين عامًا، عادت إلى قريتها لتعيد ترميم ما خلفته تلك الحرب وتعيد ألق وزهو منزلها البسيط الذي تعرض للهدم بفعل العمليات العسكرية، قرية سيف دنان كانت تشكل نسيجًا اجتماعيًا متجانسًا، إلا أن سيطرة التنظيم شتت شملهم، كان سكان تلك القرية من القبائل العربية والعديد من العائلات الكردية.
خلّفت المعارك دمارًا واسعًا طال البنى التحتية وهدم وتفجير الكثير من المباني الخدمية وممتلكات المواطنين، وألقى ذلك الدمار الواسع بظلاله على المدنيين الذين عادوا من خيامهم إلى منازلهم في القرى الأخرى المستعادة من سيطرة التنظيم ليجدوها مدمرة بالكامل.
السيدة أم عدنان وبينما كنا جالسين، همست في أذن العم أبو عدنان ولم أسمع ما قالته، غير أن العم أبو عدنان قال لها اذهبي أنتِ وأنا سآتي بعدك.
سألت العم أبو عدنان مالذي يجري؟ فقال قاصدًا البيت الذي نحن فيه: “والله يا بُني هذا المكان الذي نجلس فيه هو بقايا بيت أحد أقاربنا، أما بيتنا فهو في الاتجاه الآخر من القرية تم تدميره بسبب القصف، وأنا وأم عدنان نعمل على إعادة ترميم ما تبقى منه لننتقل إليه”.
أم عدنان
فقلت له إذًا نحن نُلهيكم عن عملكم، سنذهب معك إلى البيت لنشاهد مالذي يحدث هناك، وبالفعل رافقنا أنا وزميلي كارزان السيد أبو عدنان إلى بيتهم الذي يعملون على إعادة تأهيله، وصلنا البيت وإذا بهِ بقايا أنقاض متراكمة، ولعدم توافر إمكانية إعادة البناء قام السيد أبو عدنان وزوجته بإعادة تأهيل غرفتين من الطين كانت خلف منزلهم لكي يجهزوها لإيواء عائلتهم.
وعلى الرغم من كبر سنّهما فإنهما يعملان بمفردهما بهمة الشباب وحيوية الأبطال كأنهما جنودٌ يلبون نداء المعركة، ويلتحقون بسرايا الكفاح والجهاد من أجل توفير متطلباتهم وعدم الحاجة لمساعدة أحد.
قلت للسيدة أم عدنان: هل يساعدكم أحد في عملكم هذا؟ فقالت: في أكثر الأحيان نعمل بمفردنا، لكن أحيانًا يأتي عدد من شباب القرية للاطلاع على أوضاع منازلهم، وعندما يرونا يقومون بمساعدتنا.
بينما كان زميلي كارزان يحمل كاميرته ويصور جلست أنا على جنب وبدأت أحدث نفسي: كيف لهذين الزوجين المُسنين أن يعملان بكل هذهِ الحيوية وهذا النشاط، بينما تجاوز عمرهم الستين عامًا! لكن هو الإصرار على مواصلة الحياة، وعدم اليأس ومجابهة جميع الظروف من أجل إيجاد وتوفير المكان الآمن لهم ولأبنائهم.
تعلمت في هذا الوقت أن اليأس قاتل، والاستسلام أكثر مرارة من الهزيمة
قمت من مكاني واتجهت إلى السيدة أم عدنان بينما كانت تريد حمل حجر كبير، فطلبت منها أن لا تحمله وأن أقوم أنا بحمله، رفضت وأصريت أنا وحملته عنها، بينما رفعت الحجر واتجهت به إلى المكان الذي كانت تريد نقله إليه، حتى قامت وحملت صخرة أخرى، في إشارة منها أننا يا بُني لا نريد أن يقول أحدٌ عنا أننا عاجزين، وفعلًا حملتها وبكل قوة كانها ابنة العقدين من العمر.
أكملنا مهتنا في هذا المكان واستأذنت من العم أبو عدنان أن نذهب لكي نلتحق بباقي الزملاء قبل أن يدركنا الوقت ويحل الظلام ولا نتمكن من الحركة والتنقل بسبب حدة المعارك في مناطق قربه، فقال يا بُني كنت أتمنى أن تبيتوا الليلة معنا، لكن إذنكم معكم ومتى ما أحببتهم فهذا منزلكم، ولا تنسونا نريد منكم العودة بين الحين والآخر، ألقيت عليهم السلام وقبلت رأس السيدة أم عدنان ورافقت زميلي كارزان إلى السيارة، وتوجهنا إلى مدينة الحمدانية لنكمل مهمتنا الصحفية.
تعلمت في هذا الوقت أن اليأس قاتل، والاستسلام أكثر مرارة من الهزيمة، فلا بد من مواجهة الظروف أيًا كانت من أجل مواصلة الحياة، وأن الحرب سوف تنتهي لا محال، ولا تدوم ليالي الظلام فلا بد من انجلاء ظلمتها بإشراقةٍ تنسينا كل ذلك الألم.