ترجمة وتحرير: نون بوست
هناك العديد من الصراعات في الشرق الأوسط التي يمكن أن تعيد تشكيل النظام السياسي العالمي، لكن أكثرها احتمالاً هو الصراع بين القوتين المهيمنتين في المنطقة: المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية. وعلى الرغم من أن هذا التنافس كان يُنظر إليه في السابق على أنه صراع عرقي وطائفي في المقام الأول بين السعوديين العرب السنة والإيرانيين الفرس الشيعة، إلا أن الخط الفاصل الرئيسي اليوم هو خط أيديولوجي.
ويتمحور الصدام حول الرؤية الإستراتيجية لكل منهما؛ رؤية السعودية 2030 ورؤية إيران 1979. وتملي كل من الرؤيتين السياسات الداخلية لبلدها، وكذلك كيفية تعاملها مع الآخرين.
إيران والسعودية هما عملاقان للطاقة يتمتعان بنظامين استبداديين، يسيطران معًا على نحو ثلث احتياطيات النفط في العالم وخُمس احتياطيات الغاز الطبيعي. ومع ذلك، يقودهما رجلان مختلفان تمامًا وبخطط متباينة، حيث يسعى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، البالغ من العمر 39 سنة، إلى تحديث الدولة بسرعة بعيدًا عن عقود من التقاليد الإسلامية الصارمة وتقليل الاعتماد على إنتاج الوقود الأحفوري، وأنشأ رؤية 2030 لتحقيق هذه الأهداف.
في المقابل، يظل الزعيم الأعلى الإيراني، علي خامنئي، البالغ من العمر 85 سنة، ملتزمًا بمبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية. ورغم أن خامنئي لا يطلق على خطته اسم “رؤية 1979″، إلا أن هذا الاسم يمكن أن ينطبق بدقة، حيث تركز رؤيته على الحفاظ على الالتزام القاسي للثورة الإيرانية بنظام الحكم الثيوقراطي.
وتُعد هاتان الدولتان خصمين تاريخيين لهما أهداف لا يمكن التوفيق بينهما، حيث تخاطب رؤية 2030 التطلعات الوطنية، بينما تستند رؤية 1979 إلى المظالم الوطنية. وتسعى رؤية 2030 إلى إقامة تحالف أمني مع الولايات المتحدة وتطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ في حين أن رؤية 1979 تقوم على مقاومة الأولى والقضاء على الثانية. وتدفع رؤية 2030 نحو الليبرالية الاجتماعية، بينما تعتمد رؤية 1979 على القمع الاجتماعي.
وعلى الرغم من عدم الثقة الكبيرة المتبادلة بينهما، من غير المرجح أن تخوض إيران والسعودية صراعًا مباشرًا. فقد توصلت طهران والرياض إلى اتفاق في سنة 2023 لتطبيع العلاقات، مما ساهم في خفض التوترات الثنائية. لذا، تكمن أكبر تحدياتهما ليس في مواجهة بعضهما البعض، بل في معالجة الصراعات الداخلية. وفي هذا السياق، يواجه كلا البلدين العديد من القضايا المعقدة.
وتبدو مشاكل إيران واضحة، فالدولة تشبه الاتحاد السوفيتي في مراحله المتأخرة، حيث تعاني من الانهيار الاقتصادي والأيديولوجي وتعتمد على القمع للبقاء. ومع ذلك، خارج حدودها، تتمتع طهران بقوة أكبر من أي وقت مضى في تاريخها الحديث. إذ تهيمن الميليشيات والوكلاء المدعومون من إيران على أربع دول عربية فاشلة – العراق ولبنان وسوريا واليمن- فضلاً عن غزة.
كما أن لطهران تأثيرًا كبيرًا على العديد من القضايا الأمنية العالمية، بما في ذلك انتشار الأسلحة النووية، وحرب روسيا في أوكرانيا، والأمن السيبراني، وحملات التضليل، واستخدام موارد الطاقة كسلاح.
لا تبدو صراعات السعودية واضحة على الفور. ففي الوقت الراهن، يبدو أن محمد بن سلمان يتمتع بدعم واسع النطاق لرفعه القيود الاجتماعية واقتصاد بلاده القوي. ومع ذلك، فإن نجاح رؤية 2030 سيعتمد حتمًا على الجدوى الاقتصادية لمشاريعه العملاقة، وسيواجه تحديًا بسبب التوقعات العامة المتضخمة، وتقلب أسعار النفط، والفساد، والقمع. كما سيتم اختبارها من قبل القوى الرجعية الساخطة. ولا يزال في البلاد عدد كبير من الإسلاميين المحافظين الذين لا يرضون عن خيارات محمد بن سلمان، ويمكن أن يخلقوا مشاكل كبيرة لحكومته. لذا تعتبر رؤية 2030 مشروعًا عالي المخاطر وعالي المكاسب.
وليس من الواضح ما إذا كانت أيًّا من الدولتين ستنجح في تحقيق رؤيتها، لكن ما هو واضح هو أن مصير الرؤيتين – إحداهما مدفوعة بالتغيير والأخرى محددة بالمقاومة – ستكون له عواقب تمتد إلى ما هو أبعد من كلا البلدين. وستشكل هذه الرؤى ليس فقط مستقبل الشرق الأوسط من حيث الازدهار والاستقرار، بل ستؤثر أيضًا على مستقبل العالم بأسره.
إرث 1979
ويحب المسؤولون السعوديون رواية قصة عن بلدهم وإيران. ففي أواخر الستينيات، كتب الشاه محمد رضا بهلوي، حاكم إيران ذو الرؤية الحداثية، إلى الملك فيصل بن عبد العزيز. قال الشاه في رسالته إنه يجب على فيصل أن يحرر السعودية، وإلا فقد يتعرض للإطاحة به.
لقد اختلف الملك فيصل بشدة مع الشاه، ففي رده، أشار فيصل إلى أن بهلوي – برؤيته العلمانية الأكثر تأثرًا بأوروبا – هو من قد يكون معرضًا لخطر الإطاحة به. وكتب فيصل: “يا صاحب الجلالة، أود أن أذكرك أنك لست شاه فرنسا”، مضيفًا: “سكانك 90 بالمائة مسلمون. من فضلك لا تنس ذلك”.
لقد أثبت الملك فيصل أنه كان على حق؛ ففي ثورة إيران سنة 1979، أطاح المتظاهرون بالشاه وحولوا البلاد من ملكية متحالفة مع الولايات المتحدة إلى ثيوقراطية معادية لأمريكا. وعلى الرغم من أن ائتلافًا متنوعًا من القوى عارض الشاه، إلا أن الرجل الذي برز كقائد للثورة، آية الله روح الله الخميني، كان يعتقد أن التأثير السياسي والثقافي الغربي يشكل تهديدًا وجوديًا لإيران والحضارة الإسلامية.
وقال الخميني: “كل الأشياء التي استخدموها لإفساد شبابنا كانت منحًا من الغرب. وكانت خطتهم هي وضع الوسائل لإفساد رجالنا ونسائنا على حد سواء، ليفسدوا بذلك تنميتهم البشرية”، وتُوفي الخميني بعد عقد من الزمن، لكن خليفته، خامنئي، حافظ على استمرار رؤيته.
كما حدث، كانت سنة 1979 أيضًا سنة حاسمة بالنسبة للسعودية. فقد استولى متشددون إسلاميون، معتقدين أن العائلة الملكية السعودية قد انحرفت عن مسار الإسلام الحقيقي، على الحرم المكي، مما ساعد في دفع المملكة إلى أزمة وجودية. وخوفًا من أن تواجه نفس مصير الشاه، تخلت الحكومة السعودية عن جهود التحديث ووجهت موارد ضخمة إلى قوى رد فعل داخل البلاد وخارجها.
ومنحت البلاد رجال الدين المتشددين سلطات للتحكم في التعليم والقضاء، ووسعت من سلطات الشرطة الدينية، وأغلقت دور السينما، وفرضت فصولًا صارمة من الفصل بين الجنسين في المدارس والأماكن العامة. كما أن السعودية، جزئيًا بتشجيع من الولايات المتحدة لمواجهة الغزو السوفيتي لأفغانستان، أنفقت عشرات المليارات من الدولارات لتمويل آلاف المساجد بالإضافة إلى الجماعات الجهادية التي أصبحت مقدمة لكل من طالبان والقاعدة.
واستمرت هذه السياسات لمدة 20 سنة، لكن هجمات 11 أيلول/ سبتمبر على الولايات المتحدة سنة 2001 – حيث كان 15 من بين 19 مختطفًا يحملون الجنسية السعودية – بالإضافة إلى تفجيرات القاعدة المميتة في الرياض سنة 2003، أجبرت المملكة على إعادة تقييم مسارها. وكشفت كلا الهجمتين عن حقيقة صارخة: فقد تحولت الأصولية الإسلامية، التي كانت تُعتبر في السابق ميزة، إلى تهديد عميق لاستقرار المملكة.
وبالتالي، حاولت الحكومة السعودية وقف دعمها المالي للتطرف الخارجي وبدأت حملة مكلفة لمكافحة التطرف داخليًا. وقال الأمير محمد بن نايف، الذي كان أحد المهندسين الرئيسيين لإستراتيجية مكافحة الإرهاب السعودية، في سنة 2007: “نحن نحاول تحويل كل معتقل من شاب يريد الموت إلى شاب يريد الحياة”.
ولكن لم يبدأ التحول الدولي الأوسع للسعودية إلا بعد أكثر من عقد، عندما بدأ محمد بن سلمان صعوده إلى السلطة. كان محمد بن سلمان، وهو واحد من أكثر من اثني عشر طفلًا من أبناء الملك سلمان، قد رأى أن القيادة السعودية مسنّة وتعتمد بشكل مفرط على النفط ومنفصلة عن مجتمعها الشاب.
وكان يشعر بالقلق من أن بلاده تتخلف عن قطر والإمارات، اللتين تعملان على أن تصبحا مركزين للنقل والتجارة ولديهما تأثير كبير في مجالات الأعمال والترفيه والرياضة والإعلام. واستجابةً لذلك، أطلق محمد بن سلمان أجندة خاصة بالمملكة، أطلق عليها رؤية 2030، التي تهدف إلى فتح البلاد اقتصاديًا، والتخلص من القيود الإسلامية، وتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط، وبناء هوية وطنية.
وترتكز الوثيقة التأسيسية للرؤية على ثلاثة محاور – “مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح” – وأدت إلى تحولات حقيقية في السياسات. فابتداءً من سنة 2018، حصلت المرأة السعودية على الحق في قيادة السيارة والسفر دون إذن ولي الأمر، كما زادت مشاركتهن في سوق العمل بشكل ملحوظ، بما في ذلك في المناصب الحكومية العليا.
وبدأت الحكومة في استثمار عشرات المليارات من الدولارات في خطط لمراكز البيانات وفي الذكاء الاصطناعي وأنواع أخرى من التكنولوجيا. وعززت بشكل كبير وسائل الترفيه للشباب – ما يقرب من ثلثي السعوديين تحت سن الثلاثين – من خلال سباقات الفورمولا 1 وبطولات المصارعة واستقطاب نجوم كرة القدم مثل كريستيانو رونالدو. كما تم إدخال قواعد سياحية جديدة لتشجيع الزوار الأجانب على استكشاف البلاد وجلب الإيرادات.
وحتى الآن، حققت هذه الجهود نتائج متباينة؛ حيث كانت السعودية من بين أسرع الاقتصادات الكبرى نموًا في العالم في السنوات القليلة الماضية، مع نمو كبير في القطاعات غير النفطية. ومع ذلك، لا تزال أرقام النمو مرتبطة غالبًا بسعر النفط. وبالمثل، أشارت تقديرات وزارة الاستثمار السعودية إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر ارتفع بأكثر من 150 بالمائة من 2017 إلى 2023. ومع ذلك، أخبرني أحد رجال الأعمال السعوديين أن “الاستثمار الأجنبي المباشر غير النفطي لم يصل إلى أي مكان”.
رجلان ورؤيتان
وتعكس رؤية 1979 ورؤية 2030 شخصيتي خامنئي ومحمد بن سلمان. ويمكن القول إن الرجلين هما أقوى شخصيتين في الشرق الأوسط اليوم، لكنهما يمتلكان رؤيتين وأسلوبين مختلفين إلى حد كبير في القيادة، فالأول يستند إلى مظالم تاريخية، والثاني يستند إلى طموحات حديثة. وتتجلى هذه الاختلافات في عداء كل منهما للآخر. فقد وصف محمد بن سلمان خامنئي بأنه “هتلر الشرق الأوسط الجديد”، وسخر خامنئي من محمد بن سلمان ووصفه بـ”المجرم” الذي ستؤدي “انعدام خبرته” إلى سقوط السعودية.
كلاهما لديه خلفية فريدة من نوعها، فقد وُلد خامنئي في عائلة دينية متواضعة الحال، وتلقى تعليمه في مدرسة دينية شيعية، وأمضى سنوات تكوينه كناشط ثوري (بما في ذلك عدة سنوات كسجين سياسي). ولو لم تقم الثورة الإيرانية، لكان قدره أن يعيش حياة رجل دين متواضع. وبدلاً من ذلك، قفز إلى السلطة، وأصبح رئيسًا لإيران في سنة 1981 ومرشدًا أعلى في سنة 1989.
وكانت يقظته المفرطة، الناجمة عن شعور عميق بعدم الأمان، واحدة من مفاتيح بقائه في السلطة. وعلى الرغم من السخط الشعبي الواسع النطاق وحالة الأزمة الخارجية شبه الدائمة، لم ينحرف خامنئي عن المبادئ الثورية لمعلمه الخميني. ولا تزال الركائز الأيديولوجية لرؤية إيران 1979 كما كانت في ذلك الوقت: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل”، كما يردد أنصار خامنئي في كثير من الأحيان، والحجاب الإلزامي للنساء، الذي أشار إليه الخميني ذات مرة على أنه “علم الثورة الإسلامية”.
وعلى النقيض تمامًا، وُلد محمد بن سلمان في ثروة هائلة باعتباره ابنًا لأحد أغنى رجال العالم، الملك سلمان بن عبد العزيز. وعلى الرغم من أن محمد بن سلمان ولد بعد سنة 1979، إلا أنه قال إن التطرف الذي نشأ في تلك السنة “اختطف” الإسلام كدين. وهو يتطلع إلى أن يحقق شعبه الحداثة بدلاً من الاستشهاد.
وصرح بن سلمان ذات مرة: “لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع الأفكار المتطرفة. سنقضي عليها اليوم”. وأدى هذا الحسم في بعض الأحيان إلى أحكام خاطئة خطيرة، بما في ذلك القتل الوحشي للصحفي جمال خاشقجي في سنة 2018 والحرب المدمرة في اليمن. ومع ذلك، فقد احتفظ ولي العهد بثقة جزء كبير من المجتمع السعودي الشاب وزخم رؤية 2030.
وتُعد أحد أبرز الاختلافات بين الرؤية السعودية 2030 والرؤية الإيرانية 1979 هو مسألة الحريات الاجتماعية. فلطالما نظر الإيرانيون بازدراء إلى جيرانهم العرب في الخليج. فقد وصف الخميني في إحدى المناسبات آل سعود بأنهم “أتباع رعاة الإبل في الرياض وهمج نجد، الأعضاء الأكثر شراً ووحشية في العائلة البشرية”، كما أدانهم في وصيته الأخيرة.
ومع ذلك، تغيرت الأوضاع بشكل ملحوظ. في الماضي، كان الإيرانيون يشعرون بالتفوق الاجتماعي نتيجة تمتعهم بحريات أكثر من السعوديين، إلا أن هذا لم يعد صحيحاً اليوم. ففي الوقت الذي تُقيم فيه المملكة حفلات موسيقية لأشهر الفنانين العالميين، بما في ذلك كبار المطربين الإيرانيين الذين تُمنع موسيقاهم في وطنهم، يعتمد عشرات الملايين من الإيرانيين على قناة “إيران إنترناشيونال” الفضائية الناطقة بالفارسية والمدعومة من السعودية للحصول على أخبارهم.
وفي خطوة جريئة، أعادت السعودية فتح دور السينما بعد حظر استمر 35 عاماً، وذلك في عام 2018. كما تتوفر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، وتشهد البلاد زيادة ملحوظة في عدد السياح الوافدين. في المقابل، تستمر إيران في ممارسة احتجاز الأجانب، وغالباً ما يكون ذلك من مزدوجي الجنسية الإيرانية، كرهائن.
ويظهر التباين بين الرؤيتين بوضوح أكبر فيما يتعلق بوضع النساء، فعلى الرغم من أن النساء السعوديات، اللواتي كن معزولات عن الحياة العامة، ما زلن متأخرات في بعض مؤشرات المساواة، فإن التقدم الذي تحقق تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان حقيقي وله تأثير كبير. في المقابل، تُعتبر النساء الإيرانيات أفضل تعليماً من الرجال وغالباً ما يصلن إلى مراكز قيادية في مهنهن. ورغم ذلك، هن من بين النساء القليلات في العالم اللواتي يواجهن قيوداً أشد اليوم مقارنة بما كانت تواجهه جداتهن قبل خمسين عاماً، قبل الثورة الإسلامية.
هذا التفاوت تفجر في الاحتجاجات التي شهدتها إيران بين عامي 2022 و2023 تحت شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، والتي اندلعت بعد وفاة مهسا أميني، الشابة البالغة من العمر 22 عاماً، أثناء احتجازها من قبل شرطة الأخلاق بزعم ارتدائها الحجاب بشكل غير لائق.
هيمنة النفط
ويبرز الاختلاف الجوهري بين رؤية السعودية 2030 ورؤية إيران 1979 في تأثير كل منهما على الاقتصاد. فقد استخدمت المملكة العربية السعودية إنتاجها من الطاقة لتعزيز رؤيتها اللإستراتيجية، مما أسفر عن تحقيق ثروة تفوق بكثير ما يملكه نظرائهم الإيرانيون، حسب معظم المؤشرات الاقتصادية. رغم أن عدد سكان السعودية لا يتجاوز نصف عدد سكان إيران، فإن الناتج المحلي الإجمالي للمملكة يزيد عن ضعف نظيره الإيراني.
وفي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإيراني من واحدة من أعلى معدلات التضخم السنوية في العالم، يظل معدل التضخم في السعودية حوالي 2 بالمئة. بالإضافة إلى ذلك، تحتفظ الرياض بأكثر من 450 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية، وهو ما يعادل 20 ضعف احتياطيات طهران.
وتتعدد الأسباب وراء الأداء الاقتصادي المتدهور لإيران، وجميعها ترتبط ارتباطاً وثيقاً برؤية 1979. فنتيجة عدائها للغرب؛ تعرضت إيران لعقوبات قاسية أدت إلى تأثيرات سلبية عميقة على احتياطاتها من العملات الأجنبية، مما صعّب من قدرتها على تصدير أهم سلعها: النفط والغاز. وفي عام 1978، أي قبل الثورة، كانت إيران تنتج حوالي 6 ملايين برميل من النفط يوميًّا، تصدر منها نحو 5 ملايين. ومع ذلك، منذ الثورة، تراجعت معدلات الإنتاج والتصدير إلى أقل من نصف تلك الأرقام.
وعلى الرغم من أن إيران تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا، إلا أنها لا تندرج ضمن قائمة أكبر 15 دولة مصدرة للغاز. وسعت طهران إلى استخدام مواردها من الطاقة كوسيلة ضغط سياسي. فبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يتردد المسؤولون الإيرانيون في تذكير أوروبا التي تواجه أزمة طاقة بأن “الشتاء قادم”، في محاولة لابتزاز القادة الأوروبيين للامتثال لمطالبهم النووية.
لكن المأساة الأكبر لرؤية 1979 لا تكمن في إهدار الموارد الطبيعية لإيران، بل في إهدار مواردها البشرية. ففي عام 2014، صرّح وزير العلوم والتكنولوجيا الإيراني بأن نزيف العقول في البلاد، الذي يُقدّر بخروج 150 ألف شخص سنوياً، يكلف الاقتصاد الإيراني 150 مليار دولار سنوياً، وهو مبلغ يتجاوز بأكثر من أربعة أضعاف عائدات النفط في عام 2023.
وفي المقابل، يعود معظم الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج، والذين يُقدر عددهم بنحو 70 ألف طالب، إلى وطنهم بعد إنهاء دراستهم. إن رؤية 1979 تعتبر العقول المثقفة تهديداً، بينما تعتبر رؤية 2030 هذه العقول مورداً ثميناً.
وأنفقت المملكة العربية السعودية مبالغ ضخمة على مشاريع طموحة تهدف إلى تحديث اقتصادها، من بينها مشروع “نيوم”، الذي يسعى إلى بناء مدينة ذكية في قلب الصحراء، مما يمكن أن يحوّل المملكة إلى مركز عالمي للتكنولوجيا ويساهم في التنويع الاقتصادي. وعلى الرغم من أن كلا الحكومتين قد أسستا أنظمة مراقبة قوية، فإن الابتكارات التكنولوجية في طهران تُستخدم غالبًا لأغراض قمع الشعب، وتسليح الوكلاء، ومهاجمة الخصوم.
النظام مقابل الفوضى
وتتقدم رؤية السعودية 2030 بشكل ملحوظ على رؤية إيران 1979 في تعزيز الرفاه الاقتصادي ورضا المواطنين. ومع ذلك، تختلف المعادلة جذريًا عندما يتعلق الأمر بالنفوذ الدولي. فالفراغات الإقليمية وعدم الاستقرار المستمر في الشرق الأوسط تشكل تهديدًا لرؤية 2030، بينما تعتبر فرصة لرؤية 1979.
هذا الفارق منطقي؛ إذ تعتمد رؤية 2030 على البناء والتطوير، بينما تكتفي رؤية 1979 بالتدمير. الأزمات التي شهدتها المنطقة، مثل الحرب الأهلية اللبنانية، وحرب العراق، وثورات الربيع العربي، ساعدت على تعزيز الطموحات الإيرانية، بينما ساهم النفوذ الإيراني في تأجيج الفوضى وزيادة الاضطراب في العالم العربي.
ورغم أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن السعودية تحظى بدعم شعبي أكبر من إيران في معظم الدول العربية، بما في ذلك تلك التي تمتلك إيران فيها نفوذاً كبيراً، إلا أن محاولات الرياض لمواجهة طموحات طهران من خلال القوة الصلبة أو الناعمة أو التعاون المالي لم تحقق النتائج المرجوة.
وعلى مدى العقدين الماضيين، وجدت السعودية وإيران نفسيهما في طرفي نقيض في أكثر الصراعات دموية في الشرق الأوسط. فقد دعمت كل منهما قوى متصارعة في العراق وسوريا واليمن ولبنان والأراضي الفلسطينية. وفي جميع هذه الجبهات، تفوقت القوى المدعومة من إيران، بينما اختارت السعودية إما الانسحاب أو التعرض للهزيمة.
وتُعتبر أكبر خسارة للسعودية في اليمن، حيث أنفقت الرياض بين عامي 2015 و2019 أكثر من 200 مليار دولار على التدخل العسكري لمواجهة الحوثيين المدعومين من إيران. أسفر هذا التدخل عن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين، لكنه لم يُسهم في تقليص نفوذ الحوثيين. واليوم، لا يزال الحوثيون يسيطرون على اليمن، ويشكلون تهديداً للتجارة العالمية، حيث تقدر خسائر التجارة الناتجة عن أنشطتهم في مضايقة السفن في البحر الأحمر بحوالي 200 مليار دولار، بزعم الاحتجاج على حرب إسرائيل في غزة.
وتستفيد إيران، باعتبارها الثيوقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، من التطرف الإسلامي كوسيلة لتعزيز نفوذها الإقليمي. فعلى امتداد العالم الشيعي، من لبنان إلى باكستان، يقاتل المتطرفون الشيعة لصالح إيران. وفي المقابل، يستهدف المتطرفون السنة، مثل تنظيم القاعدة وداعش، إسقاط النظام السعودي رغم خلفيته السنية.
وفي الواقع، أثبتت طهران قدرتها واستعدادها للتعاون مع جماعات سنية متطرفة تشاركها العداء لإسرائيل والولايات المتحدة. على سبيل المثال، يقيم الرئيس الحالي لتنظيم القاعدة، سيف العدل، في إيران منذ حوالي عشرين عاماً.
وتُعد إسرائيل واحدة من أبرز نقاط الخلاف بين السعودية وإيران. ففي حين تسعى رؤية 2030 إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ترفض رؤية 1979 وجود إسرائيل من الأساس. وكانت إيران الدولة الوحيدة التي أشادت علناً بهجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. ورغم عدم وضوح دور طهران في التخطيط للهجوم، فإنها تمول جزءاً كبيراً من ميزانية حماس العسكرية، مما دفع المسؤولين الأمريكيين لوصف إيران بأنها “متورطة بشكل عام”، وقد نجح الهجوم في تأجيل وربما عرقلة اتفاقية التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
الحلفاء في مواقع النفوذ
وتلعب الولايات المتحدة والصين الدور الأبرز في تحديد مصير رؤية 2030 السعودية ورؤية 1979 الإيرانية. وتعتمد رؤية 2030 على واشنطن كحليف أستراتيجي، بينما تسعى رؤية 1979 إلى تصنيف الولايات المتحدة كخصم. وتحتاج السعودية إلى الدعم الأمني الأمريكي، في حين تعتمد إيران على الدعم الاقتصادي الصيني، حيث يُقدّر أن نحو 90 بالمئة من صادرات النفط الإيرانية تتجه إلى الصين.
وهذا الاعتماد الإستراتيجي والاقتصادي لإيران على الصين يعني أن أي إستراتيجية أمريكية لمواجهة الطموحات النووية والإقليمية لطهران ستتطلب نوعًا من التعاون مع بكين. وهناك إشارات تشير إلى إمكانية حدوث هذا التعاون، على الرغم من المنافسة العالمية بين بكين وواشنطن، إذ يشترك البلدان في مصالح رئيسية تتعلق بالاستقرار السياسي وضمان التدفق الحر للتجارة والطاقة. بالمقابل، تستفيد روسيا من الاضطرابات في أسواق النفط وعدم الاستقرار الإقليمي.
وتظل الشراكة بين الولايات المتحدة والسعودية هي الأعمق في المنطقة. ورغم أن الليبراليين الأمريكيين قد اتخذوا موقفاً حذراً تاريخياً تجاه السعودية، فإن التنافس مع الصين والغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 غيّر من هذه الرؤية، فبعد أن كانت السعودية تُعتبر شريكاً صعباً، أصبحت الآن حليفاً استراتيجياً مهماً. ويُعتبر توقيع اتفاق تطبيع تاريخي بين السعودية وإسرائيل، تحت مظلة معاهدة دفاع أمريكية سعودية، من بين أهم الأهداف لأي إدارة أمريكية قادمة، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية.
ومع ذلك، فإن التكاليف السياسية الداخلية لاتفاق تطبيع مع إسرائيل قد تفوق الفوائد الأمنية المحتملة التي يمكن أن تحصل عليها السعودية من الولايات المتحدة. فقد أظهر استطلاع رأي أُجري في نهاية عام 2023 أن 95 بالمئة من السعوديين يعتقدون أن حماس لم تقتل مدنيين إسرائيليين في 7 تشرين الأول / أكتوبر، بينما أيد 96 بالمئة منهم قطع جميع العلاقات مع إسرائيل.
هذه الضغوط أجبرت ولي العهد محمد بن سلمان على رفع سقف مطالبه في المفاوضات، حيث أعلن مؤخرًا أن السعودية لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل إلا بعد إقامة دولة فلسطينية. ورغم سلطته الواسعة، لا يستطيع بن سلمان تجاهل الرأي العام، كما لم يستطع الرئيس المصري أنور السادات تجاهل الرأي العام بعد اتفاقية كامب ديفيد، حيث قُتل لاحقاً بسبب التطبيع مع إسرائيل.
وهناك توقعات بأن السعودية ستتوصل في النهاية إلى اتفاق مع الولايات المتحدة وإسرائيل. رغم العلاقات التجارية الواسعة مع الصين وصداقة المملكة مع روسيا، فإن السعودية تعتمد على الولايات المتحدة لحمايتها من الأعداء الخارجيين، وهي بحاجة ماسة إلى هذه الحماية. فقد أظهرت الهجمات الإيرانية على منشآت أرامكو في عام 2019 مدى هشاشة السعودية ورؤيتها.
وفي غياب ضمانات أمنية أمريكية، قد تُنفق السعودية مئات المليارات على مشروع “نيوم”، المدينة التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى مركز تكنولوجي عالمي، ولكن يمكن لإيران وحلفائها تدمير هذا المشروع في أيام باستخدام صواريخ وطائرات مسيرة رخيصة.
خطر التوقعات
لقد صنفت العديد من مؤشرات الاضطرابات المدنية إيران من بين الحكومات الأقل استقرارًا في العالم، ففي السنوات الخمس عشرة الماضية وحدها، شهدت إيران ثلاث انتفاضات وطنية كبرى – 2009 و2019 و2022 – والتي خرج ملايين المواطنين على إثرها إلى الشوارع، ومع ذلك، فإن خامنئي هو أحد أطول الحكام المستبدين خدمة في العالم؛ حيث حكم منذ سنة 1989، ولطالما تحدى نظامه التوقعات بزواله الوشيك.
ويشير التاريخ، ربما بشكل يخالف الحدس، إلى أن الدكتاتوريات الثورية غالبًا ما تكون أكثر ديمومة من الملكيات، وكما كتب علماء السياسة ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي، فإن الأنظمة الثورية المولودة من “صراع أيديولوجي مستمر وعنيف” تميل إلى الاستمرار لأنها تدمر مراكز القوة المستقلة، وتنتج أحزابًا حاكمة متماسكة، وتفرض سيطرة محكمة على قوات الأمن الهائلة، وتنطبق كل هذه العوامل في إيران، مما ساعد في حماية الجمهورية الإسلامية من الانشقاقات النخبوية والانقلابات العسكرية، وقد نجح النظام حتى الآن في قمع الاحتجاجات الجماهيرية بشكل متواصل.
ويشير الماضي أيضًا إلى أن الانتفاضات الشعبية الناجحة لا تحدث في الغالب في الدول التي تعاني من الحرمان المستمر مثل إيران، بل غالبا ما تحدث في البلدان التي تخلق مستويات المعيشة المحسنة فيها توقعات مرتفعة، وكما كتب المنظر الاجتماعي إريك هوفر: “التطلع نحو الأفضل هو ما يدفع الناس للثورة، وليست المعاناة الفعلية”، ومن الممكن أيضًا أن تفتح الإصلاحات السياسية الباب أمام التغيير المفاجئ، وهو الأمر الذي تجنبته إيران عمدًا، فقد لاحظ مكيافيلي أنه لا يوجد “شيء أكثر خطورة، أو أكثر غموضًا في نجاحه، من تولي زمام المبادرة في إدخال نظام جديد للأشياء”، ولهذا السبب، كان خامنئي، وهو الذي تعلم من دروس سقوط الاتحاد السوفييتي، ملتزماً بقوة بالمبادئ الإيديولوجية لثورة 1979، معتقداً أن تخفيف هذه المبادئ من شأنه أن يعجل بسقوط الجمهورية الإسلامية.
أما بالنسبة لمحمد بن سلمان، فقد تكون الحكاية الأكثر قابلية للاستفادة من التاريخ هي تجربة شاه إيران، وهو زعيم تحديثي قام بإقصاء فئات رئيسية من الشعب الإيراني، من بينها رجال الدين والمثقفين، ومع ذلك، فإن الدروس المستفادة من سقوط الشاه متباينة، فكما جادل المؤرخ عباس ميلاني في سيرته الذاتية للشاه، كان بهلوي مستبدًا أكثر من اللازم في وقت لم يكن بحاجة إلى ذلك، ولم يكن مستبدًا بما فيه الكفاية عندما كان بحاجة إلى ذلك.
وبالنسبة للعديد من النخب السعودية، فإن الخوف الأعظم ليس انتفاضة شعبية عارمة مثل الثورة الإيرانية سنة 1979، بل مؤامرة داخلية مستهدفة ضد ولي العهد، وهو سيناريو له سابقة تاريخية في المملكة. ففي أذار/مارس 1975، قُتل الملك فيصل، وهو ملك آخر من ملوك التحديث، على يد ابن أخيه، وكان الدافع وراء هذا العمل الانتقامي هو مقتل شقيق القاتل الذي كان إسلاميًا قبل ذلك بحوالي عقد من الزمن أثناء احتجاجه على إدخال فيصل للتلفزيون في المملكة العربية السعودية.
لقد ترك محمد بن سلمان بصمته على قيادة البلاد، فقد واجه النخب السياسية والتجارية السعودية أكثر من أي زعيم آخر في تاريخ بلاده، كما قلص حجم العائلة المالكة، وبحسب ما ورد أسفر احتجازه لمئات من رجال الأعمال السعوديين البارزين في فندق ريتز كارلتون في سنة 2017 – والذي يطلق عليها عملية “شيخ داون” في الصحف الشعبية الغربية – عن استرداد أكثر من 100 مليار دولار من الأصول.
لكن محمد بن سلمان قد لا يدرك حجم المخاطر التي تنتظره، فالحكام المستبدون غالبًا ما يعطون الأولوية للولاء على الكفاءة عند تعيين المستشارين لتجنب التحديات الداخلية، مما يخلق بيئة ذاتية تؤدي إلى نقاط عمياء خطيرة.
على سبيل المثال، كان الشاه في حيرة بسبب غضب الشعب ضده، وأسف لاحقًا لأنه مساعديه المتملقين ضللوه وحموه من الحقيقة، وربما وقع محمد بن سلمان بالفعل في هذا الفخ، فقد أخبرني أحد مستشاري ولي العهد – ورئيس دولة أوروبية سابق – بشكل خاص أنه كلما طالت فترة حكم محمد بن سلمان، زادت ثقته في حكمه وقلت الحاجة إلى الاهتمام بالنقد البناء.
ويواجه محمد بن سلمان مخاطر أخرى أيضًا، فلا تزال الإصلاحات القضائية الجارية في السعودية متخلفة عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية (والمعايير الدولية)، وتدريب جيل جديد من المحامين والقضاة السعوديين العلمانيين يُعد عملية أكثر صعوبة بكثير من الاستعانة بمستشارين أجانب لتحويل الاقتصاد وبناء مدن المستقبل.
ويشعر العديد من الرجال السعوديين أيضًا بالاستياء من فقدان السلطة على النساء، وهذا التقدم غير المتكافئ – أي الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي السريع دون إصلاح سياسي متزامن – يمكن أن يكون مصدرًا للاضطرابات، وكما حذر صامويل هنتنغتون في كتابه “النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة”، فإن عدم الاستقرار السياسي عادة ما ينجم عن “التغير الاجتماعي السريع والتعبئة السريعة لمجموعات جديدة في السياسة إلى جانب التطور البطيء للمؤسسات السياسية”.
في الوقت الراهن، يتمتع محمد بن سلمان فيما يبدو بالقوة والشعبية، وعلى الرغم من ندرة استطلاعات الرأي العام الموثوقة في السعودية، إلا أن أحد استطلاعات الرأي التي أجريت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 أشار إلى أن أغلبية السعوديين يثقون بحكومتهم. وعلى النقيض من ذلك، أفاد استطلاع حديث للرأي أجرته الحكومة في إيران أن أكثر من 90 بالمئة من مواطني البلاد يشعرون بعدم الرضا أو اليأس.
وأدى استهداف رجال الأعمال السعوديين البارزين بتهمة الفساد، وتقليص استحقاقات العائلة المالكة، وسجن رجال الدين الأصوليين، وتحجيم دور الشرطة الدينية، إلى اكتساب ولي العهد بعض الدعم، لكن محمد بن سلمان قام أيضًا بقمع أولئك الذين من المفترض يكونوا جمهوره الطبيعي: الليبراليون السعوديون، بمن فيهم خاشقجي والناشطة في مجال حقوق المرأة لجين الهذلول، وقد يأتي ذلك بنتائج عكسية؛ فقد حذّر محمد اليحيى، وهو مسؤول كبير في وزارة الخارجية السعودية وصديق لخاشقجي، بعد مقتل خاشقجي، من أن “الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الذي يجري بوتيرة سريعة للغاية قد يكون معرضًا للفشل دون أن يحدث التحول القانوني والإجرائي الموازي بنفس الوتيرة والكثافة”.
لم تعد جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي تلقي بظلالها داخل المملكة العربية السعودية، لكنها لا تزال تلطخ سمعة محمد بن سلمان في الغرب، وعلى الصعيد الخارجي، فإن أكثر منتقديه جرأة هم الليبراليون الغربيون، ويشبهه الكثير منهم بالديكتاتور العراقي صدام حسين.
وفي سنة 2020، قال السيناتور الأمريكي المستقل بيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، إن قادة السعودية “سفاحون قتلة” وأن النظام “من أخطر الدول على وجه الأرض”.
لكن المجموعة الأكثر قدرة على تحدى سلطة محمد بن سلمان داخل المملكة ليست الليبراليين الذين يعتقدون أنه غير ديمقراطي، بل الإسلاميين الذين يعتقدون أنه ليبرالي أكثر من اللازم، وكما كتب الكاتب ديفيد راندل: “إذا جاءت حكومة بعده إلى السلطة عن طريق الاقتراع، فمن شبه المؤكد أنها ستكون حكومة إسلامية شعبوية.. أما إذا جاءت حكومة جديدة إلى السلطة عن طريق العنف، فمن المرجح أن تكون منظمة جهادية مثل داعش أو القاعدة”.
وعلى الرغم من أن ولي العهد يحاول طي صفحة الأصولية الإسلامية، إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليها بالجملة، وقال الكاتب السعودي علي الشهابي إن محمد بن سلمان “وضع الوهابيين في قفص”، في إشارة إلى المذهب الإسلامي المتشددة في البلاد، ولكن كما انتظرت حركة طالبان عقدين من الزمن في أفغانستان، فإن الإسلاميين في السعودية في حالة سبات ولكنهم لم يموتوا، ففي مقابلة مع مجلة الإيكونوميست، شبّه أحد المعلقين الدينيين السعوديين المعارضين الإسلاميين لمحمد بن سلمان بالنمل الذي يبني مملكة تحت الأرض. وقال: “لقد أغلق الأمير أفواههم، لكنه لم ينهِ مملكتهم”.
الأفيال البيضاء والبجع الأسود
لقد تحدى الشرق الأوسط التنبؤات باستمرار على مدار نصف القرن الماضي، فقد أدت نزوات الحكام المستبدين والمزيج المضطرب من الثروة النفطية والدين وسياسات القوى العظمى إلى جعل المنطقة عرضة بشكل فريد لأحداث البجعة السوداء ذات التداعيات العالمية، وتشمل تلك الأحداث ثورة إيران سنة 1979، وغزو العراق للكويت سنة 1990، وهجمات 11 أيلول/سبتمبر الإرهابية في الولايات المتحدة، والربيع العربي، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، وهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر في إسرائيل.
وفي هذا السياق، سيتوقف مستقبل كل من رؤية 2030 ورؤية 1979 على مصير قادة السعودية وإيران والطلب العالمي على الطاقة الذي يدعم طموحاتهما، وإذا أصبحت مشاريع محمد بن سلمان الكبرى فيلة بيضاء – أي مساعٍ مكلفة وغير منتجة – أو إذا شهدت أسعار النفط انخفاضًا مطولًا، فقد يجبر الاستياء الشعبي المتزايد ولي العهد السعودي على إعطاء الأولوية لاستقرار النظام على الإصلاحات الكبرى>
وعلى الرغم من أن محمد بن سلمان لا يزال شابًا، إلا أنه يدرك تمامًا المخاطر المهنية التي تصاحب الحكم المطلق، بما في ذلك الضغوط غير المتوقعة التي أسقطت المستبدين في الماضي، وقد حدث سقوط الشاه السياسي بسبب قوى لا تعد ولا تحصى، ولكن تشخيصه بمرض السرطان الذي أخفاه حتى عن عائلته كان أحد الأسباب التي ساهمت في ذلك أيضًا؛ حيث أعاق بلا شك عملية صنع القرار أثناء الأزمات.
وفي الوقت نفسه، لا يزال مستقبل الجمهورية الإسلامية في إيران ورؤية 1979 غير مؤكد بسبب عمر خامنئي البالغ 85 سنة، ورغم احتمالية انتقال السلطة بسلاسة إلى رجال دين موالين وقادة عسكريين ملتزمين بالمثل الثورية العليا، إلا أن هناك أيضًا احتمالية لحدوث تحول نحو قيادة تعطي الأولوية لمصالح إيران الوطنية والاقتصادية على عقيدتها الثورية.
إن الجهود التي يبذلها بعض مؤيدي مجتبى خامنئي، نجل خامنئي البالغ من العمر 55 سنة وخليفته المحتمل، لمقارنته بمحمد بن سلمان في إيران هي جهود مثيرة للشكوك، لكنها تشير إلى أن الجيل الأصغر سنًا من الثوريين في طهران يدركون أن الرؤية التطلعية أكثر جاذبية من الرؤية المتخلفة.
سيكون لنجاح أو فشل هذه الرؤى المتنافسة تداعيات واسعة على المستوى العالمي. فالعالم الذي تفشل فيه رؤية 2030 بشكل كبير، تاركًا موارد الطاقة الهائلة في كل من السعودية وإيران تحت سيطرة المتطرفين السنة والشيعة، سيجعل الشرق الأوسط والاقتصاد العالمي أقل ازدهارًا واستقرارًا.
وعلى النقيض من ذلك، إذا كانت القيادة الإيرانية ما بعد خامنئي تعطي الأولوية لرفاهية وأمن شعبها، فإن إيران لديها القدرة على أن تصبح يومًا ما إحدى دول مجموعة العشرين وركيزة للاستقرار العالمي.
لقد أدت التجارب الأمريكية الفاشلة في أفغانستان والعراق، إلى جانب إخفاقات الربيع العربي، إلى زوال الأوهام لدى المسؤولين الأمريكيين بأن واشنطن لديها القدرة على تشكيل السياسة في الشرق الأوسط بشكل إيجابي. وسيكون الفاعلون المحليون هم من يحددون أي الرؤى ستنتصر.
ولكن نظرًا لأن رؤية 2030 تهدف إلى دعم النظام العالمي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة، بينما تسعى رؤية 1979 إلى هزيمته، فإن لدى الولايات المتحدة مصلحة كبيرة في نجاح الأولى وفشل الثانية.
كما أن من المصلحة الاقتصادية العالمية أن ترى حكومات مستقرة ومزدهرة في السعودية وإيران تعيش في سلام مع بعضها البعض ومع نفسيها. وهذا يعني أن على العالم أن يساعد الشعب الإيراني في تجاوز نظام قمعي أيديولوجي تسبب في الركود الداخلي والاضطراب الإقليمي، ويساعد السعودية في تنسيق الإصلاحات السياسية التي ستساعد في دعم تحولها الاجتماعي والاقتصادي.
إن أفضل نتيجة بالنسبة للولايات المتحدة والشرق الأوسط والعالم هي وجود رؤيتين مستدامتين وتمثيليتين وتطلعيين في كلا البلدين. أما النتيجة الأسوأ فهي نظامان متخلفان يتشبثان بمظالم الماضي. وقد يكون من الصعب تحقيق الأولى، لكن عواقب النتيجة الثانية لن تكون أقل من كارثية
المصدر: فورين أفيرز