في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي مع الذكرى السنوية الأولى لـ”طوفان الأقصى”، اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في جلسة حداد حكومية تغيير اسم حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة من “السيوف الحديدية” إلى “حرب القيامة” أو “حرب الانبعاث” خصوصًا بعد تمددها على الجبهة اللبنانية ضد “حزب الله” في الأسابيع الأخيرة.
علل نتنياهو تغييره اسم الحرب بأن “السيوف الحديدية” تسمية لم تعد تفي بالغرض، كما لم تعد تشبه حقيقة الحرب التي صارت متصلة بسردية بقاء الدولة اليهودية ووجودها، باختصار حرب باتت تسميتها لا تليق بجوهرها كما ادعى رئيس الحكومة.
بينما ادعى معارضوه، من ساسة وكتّاب وإعلاميين إسرائيليين، أن تغييره تسمية الحرب في الذكرى السنوية الأولى لاندلاعها، ليس إلا محاولة يائسة من رئيس الحكومة للتغطية على فشله، وتنصله من تحمل مسؤولية الأسباب التي أدت إلى هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحرب الرد عليه.
على أي حال، ليست هذه المرة الأولى التي يغيّر فيها الصهاينة اسم حربٍ أو عملية عسكرية يشنها جيشهم، في منتصفها أو عند نهايتها. كانت أول مرة تستبدل فيها التسمية لعملية عسكرية، في حرب النكبة عام 1948، وتعرف صهيونيًا بـ”حرب الاستقلال”، التي أُعلن فيها عن تأسيس دولة “إسرائيل”.
فقد تم تغيير اسم عملية عسكرية خلال الحرب، أطلق عليها في البداية اسم “عيسر همكّوت/الضربات العشر” والتي ارتبطت بفتح طريق النقب في أثناء عمليات التطهير العرقي عام النكبة. خلال العملية، قرر قائدها في قوات العصابات الصهيونية، يغال آلون، تغيير تسميتها إلى عملية “يوئاف” على اسم ضابط التوجيه والإرشاد في قوة البلماح، يتسحاك دوفنو، الملقب بـ”يوئاف” الذي سقط قتيلًا في أثناء دفاعه في العملية عن كيبوتس “نقبة” في جنوب فلسطين.
ما بين الحرب والعملية العسكرية
يميز الصهاينة بين الحرب بالعبرية “ملحماة”، والعملية العسكرية “مفتساع”، وكل ما نسمّيه حروب غزة على مدار السنوات الأخيرة قبل حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يعتبرها الإسرائيليون عمليات عسكرية وليست حروبًا، وأطلقوا عليها أسماءً مختلفة، بينما اعتبرت “السيوف الحديدية”، حرب الإبادة الجارية في غزة، حربًا لا عملية عسكرية.
يمنح جيش الاحتلال ومجلس الحرب، الحروب أو العمليات العسكرية أسماءً دائمًا، كما وتُمنح بعض العمليات العسكرية في أثناء الحرب نفسها أسماء خاصة بها.
وبحسب دراسة أعدتها الباحثة الإسرائيلية في معهد “ترومان لتعزيز السلام” في الجامعة العبرية، دفنه غبرائيلي نوري، فإن الدولة العبرية أطلقت نحو 81 اسمًا على حروب وعمليات عسكرية شنتها على مدار تاريخها منذ قيامها عام 1948.
وتُبين دراستها أن أسماء تلك الحروب والعمليات في العقود الأخيرة قد اشتُقت من قاموسين أساسين: الأول الطبيعة والحياة البيئية في أرض “إسرائيل” بنسبة 27%، والثاني “التناخ” (الكتاب المقدس-التوراة) والنصوص الدينية الأخرى بنسبة 38%.
بينما باقي تسميات الحروب والعمليات العسكرية خلال العقود الأولى من تاريخ الدولة، اشتُقت من القاموس العسكري للحرب، وتحديدًا من زمانها ومكانها. فالحرب التي نعرفها نحن العرب بـ”النكسة” في يونيو/حزيران 1967، تُعرف إسرائيليًا بحرب “الأيام الستة” نسبة لزمانها التي هزم فيها جيش الاحتلال الجيوش العربية في 6 أيام، لذلك اعتبرت عربيًا نكسة إسوة بنكبة عام 48.
تُمنح الحروب الكبرى التي خاضها جيش الاحتلال، أسماءها بأثر رجعي عادة، على خلاف العمليات العسكرية التي تكتسب أسماءها فور الإعلان عنها. على سبيل المثال، حرب الاستقلال عام 48، ثبتت تسميتها بعد انتهاء عمليات التطهير العرقي التي مارسها الصهاينة في ذلك العام. كما لم يكن اسم “العتسمئوت/الاستقلال” التسمية الوحيدة للحرب، إنما تعددت أسماؤها وقتها، منها “ملحماة هشحرور/حرب التحرير”، وكذلك “ملحماة هكومميوت/حرب تثبيت الوجود”، فضلًا عن تسمية “ملحماة هعتسمئوت/حرب الاستقلال”.
ومع أن دافيد بن غوريون كان يميل إلى تسمية “حرب الوجود” لتأكيدها على فكرة انبعاث الشعب الإسرائيلي في وطنه القومي، إلا أن تسمية “عتسمئوت/الاستقلال” ثبتت في الأخير اسمًا لحرب إعلان تأسيس الدولة العبرية.
وبحسب الكاتب الإسرائيلي شاحر إيلان، في مقالة له نُشرت في مايو/أيار 2023 بعنوان: “من سلامة الجليل إلى الدرع والسهم: كيف تُقر أسماء العمليات العسكرية؟”، فإن بعض العمليات التي يشنها الجيش، تأخذ اسمها في بدايتها بوصفها عملية عسكرية، ومع تحولها إلى حربٍ تُمنح اسم آخر، مثل حرب لبنان “ملحماة ليفنون” بالعبرية، التي بدأت كعملية عسكرية عام 1982 حملت فور الإعلان عنها وشنها اسم “شلوم هجليل” أي سلامة الجليل، ولما طالت العملية، وتحولت إلى حرب طويلة الأمد احتل فيها جيش الاحتلال العاصمة بيروت وجنوب لبنان لسنواتٍ طويلة، صارت تُعرف في ذاكرة الصهاينة بـ”حرب لبنان”.
وينسحب ذلك أيضًا على حرب العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، التي كانت “إسرائيل” أحد أطرافها، أطلقت على مشاركتها في بداية العدوان تسمية “كَديش” أي “القداسة”، ثم صار يُعرف ذلك العدوان إسرائيليًا بتسمية “حرب سيناء” بعد أن احتل جيش الاحتلال قطاع غزة وسيناء مدة 5 أشهر ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 1956 ومارس/آذار 1957.
تطبيع الحرب من خلال اسمها
تُمنح الحروب أسماءها مبدئيًا كي تُعرّف ويجري تمييزها عن بعضها، وقليلًا ما يتم ترقيمها إلا إذ سبق ترقيم الحرب اسمًا يميزها. لذا يميز الإسرائيليون حروب أو عمليات جيشهم العسكرية المتتالية على قطاع غزة من خلال أسمائها، وذلك منذ عدوان أواخر 2008 ومطلع 2009 “معركة الفرقان”، التي تعرف إسرائيليًا بـ “عملية الرصاص المصبوب” بالعبرية (مفتساع عوفرت يتسوكاه)، مرورًا بمعركة “العصف المأكول”، وإسرائيليًا عملية “الجرف الصامد” في عام 2014، وصولًا إلى عملية “الدرع والسهم” ضد حركة الجهاد الإسلامي في القطاع عام 2023، ولو تم ترقيم هذه العمليات الحربية، لما تمكن الإسرائيليون من تمييزها إلى يومنا هذا، كما يقول شاحر إيلان في مقالته.
بالتالي، الغرض من تسمية الحرب هو سوسيولوجي بالضرورة، وعام لا يقف عند مجتمع الصهاينة وحروبهم. ومع ذلك، فقد طرأت تحولات ذات مسوح سوسيولوجية في علاقة المجتمع الإسرائيلي وأسماء حروب جيشه منذ مطلع التسعينيات لناحية اشتقاق أسمائها من معاجم متجاوزة للمعجم الحربي-العسكري.
في تقرير متلفز على قناة “كان” العبرية منذ 4 سنوات، بعنوان “كيف تُثبّت أسماء العمليات العسكرية؟”، يبين أن العمليات العسكرية التي شنها جيش الاحتلال منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بدأت تُمنح أسماؤها من غير قاموسها الحربي-العسكري، وصارت تشتق من عالمي الطبيعة والأدب، فضلًا عن التناخ والكتب المقدسة.
وبحسب التقرير، فإن الضابط في جيش الاحتلال عيران دوفدوفاني، كان أول من نادى منذ مطلع التسعينيات، بضرورة أن تتجاوز العمليات العسكرية الإسرائيلية أسماءها الحربية-العسكرية، فكان دوفدوفاني هو من أطلق بالعبرية تسمية “عنفيه هزاعم/عناقيد الغضب” على العملية العسكرية الخاطفة التي شنها جيش الاحتلال على جنوب لبنان في ظل احتلاله أبريل/نيسان 1996.
اقترح عيران دوفدوفاني في حينه اللجوء إلى اختيار اسم أدبي للعملية قبيل شنها، بعد أن طُلب منه بحسب ما يروي في نفس التقرير، أن يضع اسمًا لها مشتق من قاموس الطبيعة والأدب، وذلك لأن والدته كانت تعمل مدرّسة لموضوع الأدب العبري لسنوات طويلة في إحدى المدارس، وقد استعان بها وكانت من اقترحت عليه تسمية “عناقيد الغضب”.
ومما يفسره شاحر إيلان في مقالته السابقة، عن منح العمليات العسكرية أسماء متجاوزة لمعجمها العسكري، ومشتقة من عالم الطبيعة والأدب أو النصوص المقدسة، هو تطبيع المجتمع الإسرائيلي مع حروب وعمليات جيش احتلاله. في اعتقاد أن لتسمية الحرب دورًا في إكساب هذه الأخيرة شعورًا جمعيًا إزائها، سواء كان قوميًا أم دينيًا من أجل اصطفاف المجتمع خلف الحرب وتأييدها.
وكذلك يقول غال هيرش، أحد ضباط جيش الاحتلال في نفس تقرير قناة “كان” المتلفز، إنه كان من أطلق تسمية “حوماة ماجين” بالعربية “السور الواقي” على عملية اقتحام مخيم جنين عام 2002 خلال الانتفاضة الثانية، بعد أن فجر فدائي فلسطيني نفسه بفندق بارك في مدينة نتانيا في مارس/آذار 2002.
واختار هيرش اسم “السور الواقي” للرد على عملية فندق بارك، بما يجعل الاسم يليق بالشعور القومي الإسرائيلي في حينه، كما يقول. واهتدى هيرش لتسمية “السور الواقي” من قصيدة بالعبرية بعنوان “بين غفولوت/ بين الحدود” نظمها الشاعر الإسرائيلي حاييم حفار في زمن البلماح.
كما ينسحب إطلاق التسميات على عمليات أو إجراءات داخلية غير حربية، لكنها متصلة بالجيش أو موكلة في تنفيذها له، مثل عملية فك الارتباط مع قطاع غزة “الانسحاب أحادي الجانب من القطاع” في عام 2005. حيث أُطلق على عمليه إخلاء المستوطنات وتفكيكها في القطاع تسمية “زوهر هركييع/وهج السماء” في البداية، غير أن مجموعة من الحاخامات اليهود كانوا قد احتجوا لدى الحكومة على التسمية في حينه، باعتبارها تسمية متصلة بصلاة تتلى في الجنائز على الأموات، فتم تغيير اسم العملية إلى “شفات أحيم” وتعني “إعادة الإخوة”، أي يهود يعيدون إخوتهم اليهود من القطاع إلى داخل البلاد، في محاولة أرادت بها الحكومة من الاسم الجديد وقتها، أن يمنح عملية الإخلاء شعورًا قوميًا ودينيًا حميميًا، بعد أن فجرت العملية غضبًا عارمًا على الحكومة في أوساط التيارات اليهودية الدينية.
أخيرًا اختيار الاسم
يختار جيش الاحتلال ومجلس حربه، عند نية الإعلان عن حرب أو عملية عسكرية اسمًا لهما، ضمن إجراء بيروقراطي، حيث يقدم كل ضابط عسكري يملك صفة رسمية في مشاورات قرار الحرب، أو سياسي عضو في مجلس الحرب، تقريره المتضمن خطط ومقترحات متصلة بخيار الحرب أو العملية العسكرية، يتضمن معها اسمًا يعبر عنها وعن طابعها وجوهرها.
يتم تداول الأسماء المقترحة بين أعضاء مجلس الحرب إلى أن يقع الاختيار على أحدها بالإجماع، أو قد يتم اختيار اسم من خارج الأسماء المقترحة كليًا يجد فيه جميع المعنيين اسمًا مناسبًا لطبيعة المهمة العسكرية سواء كانت عملية أم حرب.