مما لا شكّ فيه أنّنا جميعًا نجد أنفسنا عرضةً لاتخاذ القرارات السريعة، أو بناء الانطباعات الأولية، أو رسم الصور النمطية والقوالب العنصرية عن الأشياء والآخرين من حولنا. ومنذ وقتٍ طويل، اهتمّ علماء النفس بدراسة الطريقة التي يستخدم فيها الناس اختزالًا عقليًا لتصوير الأفكار النمطية للآخرين استنادًا إلى أفكار مسبقة اكتسبوها في وقتٍ سابق حتى لا يضطروا إلى التفكير في عوامل أخرى قد تؤثر على ما يقولونه أو ما يفعلونه.
تذكّر المرات التي لجأت فيها إلى الإجابة عن سؤالٍ ما باختيارك للخيار الأكثر ألفةً إليك، لا الخيار الذي وصلتَ عليه بعد تفكيرٍ كافٍ، أو اللحظات التي اتخذت فيه قرارًا بناءً على تجربة سابقة بغض النظر عن تشابه السياق والموقف والتوقيت وما إلى ذلك، أو الأوقات التي حكمتَ فيها على أحدهم بطريقةٍ سلبية وعممّت حكمك ليشمل كلّ من ينتمي لمجموعته، ألا تحيلنا هذه المواقف للتفكير بسؤال لماذا تتصرف عقولنا بهذه الطريقة في المواقف المختلفة؟
“الشحُّ المعرفيّ”: أدمغتنا تبخل علينا بالجهد اللازم للتفكير
وفقًا لعلم النفس، فإنّ العقل البشري يميل إلى التفكير وحل المشكلات بطرق بسيطة لا تتطلّب جهدًا كبيرًا أو طاقة مرتفعة أو وقتًا طويلًا بدلًا من لجوئه إلى الطرق الأكثر تعقيدًا وموائمةً للظروف، نظرًا لأنها تستهلك منه طاقةً أو أنها تتطلّب وقتًا ما. بمعنى أنّ الدماغ يميل إلى البحث عن حلول للمشاكل التي تواجهه بشرط أنْ تتطلب أقلّ جهدٍ عقليّ يمكن صرفه عليها، بغض النظر عن مدى ذكائه أو حكمته.
وكما يحاول البخيل عادةً تجنّب إنفاق المال أو إنفاقه بأقلّ قدرٍ ممكن، فإنّ العقل البشريّ أيضًا غالبًا ما يحاول تجنّب إنفاق الجهد في التعامل مع الأمور التي يواجهها بشكلٍ يوميّ. وما هنا، يلجأ علماء النفس الإدراكي إلى مصطلح البُخل الإدراكيّ أو المعرفيّ ” Cognitive miser“، لشرح الأسباب التي تجعل منّا كُسالى في التفكير واتخاذ القرارات.
يقترح فريتز هيدر في نظريته أننا نسلك سلوك العالِم الساذج في محاولتنا لفهم العالم من حولنا، إذ أنّنا نميل دومًا إلى صنع أو بناء علاقاتٍ بين ما نعتقده سببًا ونتيجة، دون أنْ يكون هناك أيّ علاقةٍ بين الشيئين
وقد تمّ تقديم واستخدام المصطلح لأول مرة من قبل عالمتيْ النفس الأمريكيّتين سوزان فيسك وشيلي تايلور عام 1984، ليصبح من وقتها واحدًا من أهمّ النظريات وأكثر أساسيةً في علميْ النفس الإدراكي وعلم الاجتماع الإدراكي، عوضًا عن أنّه يأخذ حيّزًا مهمًّا أيضًا في العلوم الاجتماعية الأخرى كالاقتصاد والعلوم السياسية.
وهي تطويرٌ أحدث لنظرية العالِم الساذج ” naïve scientist” التي اقترحها عالم النفس النمساوي فريتز هيدر عام 1958 واعتقد فيها أنّنا كبشر نسلك سلوك العالِم الساذج في محاولتنا لفهم العالم من حولنا، إذ أنّنا نميل دومًا إلى صنع أو بناء علاقاتٍ بين ما نعتقده سببًا ونتيجة، دون أنْ يكون هناك أيّ علاقةٍ بين الشيئين. وبتعبيرٍ آخر، رأى هايدر أنّنا وبشكلٍ عام نميل إلى قياس وتحليل العالم من خلال تبنّي تفسيراتٍ ونظريّات معيّنة لتفسير الأشياء من حولنا والتنبؤ بها بهدف السيطرة عليها أو التحكّم بها، دون أنْ تستند تلك التفسيرات إلى المنطق والعقلانية
البخل المعرفي يقودنا للقرارات السريعة والتحيّزات الفكرية
قد تصل القرارات التي نتخذها بشكلٍ يوميّ إلى العشرات أو المئات؛ ماذا سنأكل صباحًا؟ ماذا يجب أن أرتدي اليوم؟ هل آخذ الحافلة أم سيارة أجرة؟ هل أدرس الآن أم أخرج مع أصدقائي؟ هل أشتري هذا الغرض أم أنني لا أحتاجه؟ وفي الحقيقة، قائمة القرارات التي نتخذها كل يوم لا نهائية ومتنوعة بشكلٍ قد لا تستطيع إحصاءه أو تتبّعه بشكلٍ سلس.
يمكن أنْ يؤدي كسل الدماغ ولجوؤه إلى الاختصارات والمعلومات السابقة إلى ارتكاب الأخطاء في القرارات وتكوين الانحيازات المعرفية
ونظرًا لطبيعة الكمّ الهائل من المعلومات التي تمرّ على أدمغتنا، نجد أنفسنا ميّالين إلى اتخاذ القرارات السريعة دون أيّ تفكير عميقٍ فيها. وأغلب المرّات يلجأ الدماغ إلى الاعتماد على المعلومات السابقة والمتوفّرة لديه من التجارب الماضية لاختصار الجهد والوقت في إيجاد الحلول والقرارات. وهذا بالضبط ما نعنيه حين نقول أنّ واحدًا من من أهم أوجه القصور في الدماغ هو ميله في بعض الأحيان للكسل أو البُخل المعرفيّ.
يلجأ الدماغ غالبًا إلى الاعتماد على المعلومات السابقة والمتوفّرة لديه من التجارب الماضية لاختصار الجهد والوقت في إيجاد الحلول والقرارات
في كثير من الأوقات، قد يكون اللجوء للمعلومات السابقة أو الاختصارات المتوافرة لدينا أمرًا جيدًا، إذ يساعدك عذا على اتخاذ القرارات بسرعة دون الحاجة للتفكير العميق، لكن المشكلة أن مثل هذه الاختصارات والمعروفة في علم النفس بمصطلح الاستدلالات “Heuristic“، يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب الأخطاء و الانحيازات المعرفية “cognitive biases“.
ولنفهم الصورة أكثر، لنفترض أنك قابلتَ شخصًا جديدًا للمرة الأولى، من الطبيعيّ جدًا أنْ يبدأ عقلك بتكوين الانطباعات والتصوّرات عنه وعن شخصيته وتصرفاته. وفي حال التقيتَ به لاحقًا، قد تقرّر التعامل معه بناءً على انطباعاتك الأولية عنه والصور التي رسمتها مسبقًا. أي أنّك تستدلّ بما يتوافر لديك من معلومات وتستخدمها بطريقة تعاملك مع ذلك الشخص.
وبنفس الطريقة، يعمل دماغك مع الأشياء والأشخاص التي يتعامل معها في الحياة. فأفكارك السابقة عن حزبٍ سياسيّ تؤثر على جميع أفكارك الحالية بخصوصه، وتؤثر أيضًا على قراراتك تجاهه في فترة الانتخابات على سبيل المثال. وأفكارك السابقة عن منتجٍ استهلاكيّ أو عن موسم التنزيلات، تؤثّر أيضًا على قراراتك الاستهلاكيّة والشرائية. ولهذا يعدّ البخل المعرفيّ موضوعًا مهمًّا في علوم الاقتصاد والسياسة.
العنصرية والأحكام المسبقة نتيجة للبخل المعرفيّ أيضًا
العديد من العيوب في تفكيرنا والأحكام المُسبقة التي نطلقها على من حولنا تتبع نوعًا من البخل المعرفي يُطلق عليه “الاستدلال المُتاح”، والذي يعني أنّنا نميل لاتخاذ القرارات وإطلاق الأحكام بناءً على الأمور والعوامل التي تخطر على عقولنا أولًا بكل سهولة، بمعنى أننا في خضم مواقفنا اليومية ومحاولتنا لاتخاذ القرارات قد نتذكر الكثير من الأشياء بسرعة أكبر من غيرها، والتي غالبًا ما تكون مشابهة وذات صلة للموقف الذي نحن فيه، وبما أن هذه الأشياء هي الأكثر سهولةً على ذاكرتك لاستخراجها، فإنك على الأرجح سوف تعتقد أنها الأكثر منطقيةً وشيوعًا.
وقد تكون الأحكام المُسبقة التي نطلقها على الأفراد من الجماعات الإثنية المختلفة والمغايرة والتي تصبح فيما بعد شكلًا من أشكال العنصرية تنتج أساسًا من كسل أدمغتنا في التفكير العميق دون اللجوء إلى تكوين الصور النمطية والمُسبقة حيال أيّ شيءٍ أو شخصٍ أو مجموعة من حولنا. فعلى سبيل المثال، قد تكون مررتَ بتجربة سلبية أو سيئة مع شخص من مجموعة أخرى، الأمر الذي قد يجعلك عرضةً للحكم على جميع أبناء تلك المجموعة بناءً فقط على تجربتك السابقة مع ذلك الشخص.
من خلال تدريب العقل على التفكير العميق يمكننا اتخاذ قرارات أكثر حكمة عمقًا من تلك التي نتخذها ونحن نسعى لتجنيب أنفسنا الجهد أو الألم أو التعب الناتج عن التفكير
وبالتالي، في حين أنّ البخل المعرفي قد يزيد من قدرتنا على حل مشكالنا واتخاذ أو صنع قراراتنا البسيطة بشكلٍ سريعٍ ودون بذل الكثير من الجهد، إلا أنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى أخطاء متفاوتة، فحدوث أمرٍ أو شيءٍ في الماضي لا يعني أن تكراره يناسب الحدث الحالي، وقراراتك الناجحة التي اتخذتها فيما مضى لمواقف مشابهة، لا يعني أبدًا أنها ستنجح مرةً أخرى، عوضًا عن أنّه قد يؤدي إلى التحيّز والتمييز العنصري وخلق تصنيفات نمطية لا تتفق أبدًا مع الواقع والحقيقة.
لكن ما هو مهمٌّ أكثر أنّ الإنسان قادر على تدريب نفسه لتجنّب الخضوع للبخل المعرفيّ الذي يجده الدماغ الحلّ الأمثل في كثيرٍ من الحالات، فمن خلال تدريب العقل على التفكير العميق والتبطّؤ باتخاذ القرارات وعدم الوقوع ضحية الأفكار المسبقة، يمكن لنا أنْ نحلّ الكثير من سوء التفاهم الناشئ في العالم من حولنا، كما يمكننا بكلّ تأكيد اتخاذ قرارات أكثر حكمة وأكثر عمقًا من تلك التي نتخذها ونحن نسعى لتجنيب أنفسنا الجهد أو الألم أو التعب الناتج عن التفكير.