“نظام غير عادل بالنسبة للولايات المُتحدة” يقول ترامب، “العالم أكبر من خمسة” ينادي أردوغان، “النظام العالمي الحاليّ غير عادل” يدعي بوتين، لكلٍ من الأسماء المذكورة نقمة على النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، الذي يرى، كل زعيم من زاويته، أنه نظام أصبح مهترئًا وبحاجة لتغيير.
وفيما يتفق الزعماء الثلاث على أن علة النظام العالمي الحاليّ تكمن في الحيلولة دون قدرتهم على تحقيق مصالح بلادهم القومية، تختلف أسباب تمرد كل زعيم على النظام العالمي.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
دونالد ترامب
تتعدد عوامل أو أسباب انتقاد ترامب النظام العالمي، غير أن أهم هذه الأسباب هي:
ـ استنزاف النظام العالمي لمقدرات الولايات المتحدة التي تلعب دور “شرطي العالم” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويرنو ترامب إلى الحفاظ على الدور القيادي للولايات المتحدة، ولكن ليس كما هو حاليًّا، حيث تتحمل الولايات المتحدة أكبر وأكثر التكاليف الاقتصادية والعسكرية مقارنة بالدول الكبرى الأخرى، لا سيما الدول الأوروبية التي يتهمها ترامب بتطويع دور الولايات المتحدة وموقعها العالمي لخدمة مصالحها دون التكلف بأي تكاليف، وهذا ما يدفعه لمطالبتها بتحمل عادل وتكاملي للتكاليف.
ـ فكره وإدارته، أي بعض أعضاء إدارته من “الصقور”، الواقعي الأمني البراغماتي القائم على عدم الاعتبار لأي مبدأ ليبرالي أو ديمقراطي، وإنما الميل إلى التحرك المصالحي البحت الذي يخدم مصالح “أمريكا أولًا”، وقد عكس ترامب ذلك من خلال الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ورفع الدعم عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، من أجل إيلاء أهمية أكبر للمصلحة القومية الاقتصادية والسياسية والأمنية لبلاده.
ما يصل بالولايات المتحدة إلى عدم الإيمان بفكرة التحالف الإستراتيجي وإنما فكرة “التشارك التكاملي” القائم على صفقات تحمل الصبغة المؤقتة أو تحقيق الهدف المشترك الواضح، دون تحمل الولايات المتحدة تكاليف طويلة الأمد، ولعل جنوح واشنطن، مؤخرًا، نحو تجاهل مصالح الدول الأوروبية في سوريا
ـ فكره وإدارته المؤمن بانعدام الحليف الدائم وإيمانه وإدارته بالنظرة “الصراعية” للعالم، حيث يرى أن الجنس البشري ليس جديرًا بالثقة، لذا يتجه نحو التركيز على تحديث كامل للقوات الأمريكية، وبناء حدود متينة، ورفع شعار “أمريكا أولًا”، ومحاولة الوصول إلى صيغة “السلام الإمبراطوري” الذي يعني تعزيز النفوذ الأمريكي بما يكفل لواشنطن إمكان فرض إرادتها السياسية على الدول الأخرى في كل أنحاء العالم دون تكاليف دبلوماسية وعسكرية عالية.
وهذا ما يصل بالولايات المتحدة إلى عدم الإيمان بفكرة التحالف الإستراتيجي وإنما فكرة “التشارك التكاملي” القائم على صفقات تحمل الصبغة المؤقتة أو تحقيق الهدف المشترك الواضح، دون تحمل الولايات المتحدة تكاليف طويلة الأمد، ولعل جنوح واشنطن، مؤخرًا، نحو تجاهل مصالح الدول الأوروبية في سوريا، والاتجاه نحو “التحالف التكاملي” مع أنقرة، ومن المحتمل مع بغداد، من أجل الحفاظ على استقرار منطقة شمال شرقي سوريا، بما يضمن تخفيض التكاليف للولايات المتحدة، وإحراز مصالحها هناك، خير مثال حي على تلك الفكرة.
ـ فكره الحمائي الاقتصادي الذي يرى ضرورة حماية الدورة الاقتصادية المحلية، وهذا ما يأتي على حساب الاقتصاد المُتحرر العولمي الذي يطبقه قسم كبير من العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يشي باحتمال عودة التنافس العالمي الذي ظهر للسطح خلال فترتي الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث ارتفاع مُعدلات الرسوم والضرائب الجمركية، وتقييد حصص الاستيراد الخارجي لأقل مستوى، وتشديد الإجراءات الأمنية على المناطق الحدودية لمنع ممارسات اقتصاد التهريب، وغيرها من الأدوات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع حجم التبادل التجاري العالمي، وبالتالي عودة التنافس العالمي المُحتدم على صعيد اقتصادي، قد يتحول لتنافسٍ أمنيٍ ودبلوماسي، ولعل أبرز مثال على توجه ترامب نحو الحمائية هو انسحابه من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإستراتيجية عبر المحيط الهادئ القائمة على فكرة خفض الرسوم الجمركية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
فلاديمير بوتين
ربما لا تختلف كثيرًا أسباب وأهداف توجه بوتين نحو التمرد على النظام العالمي، فهدفه الأساسي هو تأمين المصلحة القومية لروسيا بتجاوز ما يُمليه النظام العالمي الحاليّ، وإلى جانب ذلك، تُوضح العوامل أدناه سبب تمرده على النظام العالمي القائم:
ـ الإيمان بالفلسفة الدوغينية في إنشاء الأوراسية الكفيلة بهدم العالم أحادي القطبية: عند التأمل بتحركات بوتين يُلاحظ فعلًا توجهه نحو إنشاء الأوراسية الكفيلة بتأسيس عالم متعدد الأقطاب يكون بديلًا للعالم أحادي القطبية الغربية الليبرالية “الناتوية” الفاعل في وقتنا الحاليّ، وذلك من خلال سعيه إلى تأسيس اتحاد عابر للحدود مع دول آسيا الوسطى التي كانت إحدى ولايات الاتحاد السوفييتي، ومن خلال تحالفه مع أقطاب إقليمية كبرى أو مهمة إستراتيجيًا كالهند وتركيا وإيران والصين وبعض الدول في أوروبا الشرقية.
عمل بوتين منذ تسلمه للحكم على إصلاح جيشه وإزالة كل الثغرات منه، ومن ثم أخذ ينطلق في تحقيق مصالح بلاده في الخارج بالركون إلى القوة الخشنة التي ترفع شعار التحدي للجميع
وصولًا إلى السعي لهدم البيت من الداخل، من خلال التوجه بدعم اليمين في فرنسا وألمانيا على وجه التحديد، واللتين تُعتبران قطبي الدول الغربية، ومن خلال جذبهما نحو روسيا، يمكن للأخيرة المناورة في العالم كما يحلو لها.
ـ الإيمان العميق بالواقعية وانعدام المبادئ الراسخة وأسلوب الغاية تبرر الوسيلة: في علم المصالح لا وجود للقيم والأخلاق، بل هناك نزعة استخدام جميع الأساليب سواء أكانت جيدة أم قذرة من أجل تحقيق مصلحة الأمن والاستقرار للدولة.
وقد عمل بوتين منذ تسلمه للحكم على إصلاح جيشه وإزالة كل الثغرات منه، ومن ثم أخذ ينطلق في تحقيق مصالح بلاده في الخارج بالركون إلى القوة الخشنة التي ترفع شعار التحدي للجميع، فكانت أولى تحركاته التي أظهرت عزمه على الانقلاب على النظام العالمي الحاليّ الذي أضاع هيبة ومكانة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بالاشتباك المباشر مع جورجيا عام 2008، حيث ضمن لإقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية استقلالهما الذاتي، ومن ثم أوكرانيا عام 2014، حيث ضم جزيرة القرم لروسيا.
وجاءت هذه التحركات المليئة بانعدام المبادئ القانونية والمرتكزة لأساليب غير أخلاقية، في سبيل حماية المصلحة القومية الروسية، من مخاطر تمدد حلف “الناتو”، فضلًا عن تحركه نحو إلغاء برامج التحرر الليبرالي في بلاده، التي عادة ما تشكل منفذًا للدول الغربية للتغلغل ومن ثم التحكم اقتصاديًا بمصير الدول، حيث عمل على إعادة تأميم شراء البترول والغاز والكهرباء، وألغى جميع اتفاقيات الخصخصة، ضاربًا حقوق هذه المؤسسات بعرض الحائط، سعيًا للوصل إلى عون اقتصادي ذاتي غير تابع لأي طرف أجنبي عادة ما يكون غربي يسعى لترسيخ تبعية الدول له على نحوٍ غير عادل.
ـ الإيمان بالنهج الهجومي الاستباقي الوقائي الذي يُوجب على الدولة أن تكون دومًا في موضع الهجوم وليس الدفاع لحماية أمنها وبقائها، وهو ما يُعد تمردًا حقيقيًا على النظام العالمي الحاليّ الذي يحصر التحرك العسكري للدولة في إطار الدفاع عن النفس، ولعل نظريات إلكسندور دوغين الجيوسياسية الإستراتيجية، لا سيما نظرية “الأوراسيانية الجديدة” التي تدعو إلى تأسيس نفوذ روسي خارج الحدود القومية، لتحقيق تفوق بالتحالف مع القوى البرية على القوى البحرية “قوى الناتو”، هي المحرك الأساسي لبوتين الذي استبق تحرك جورجيا وأوكرانيا نحو “الناتو” بهجوم عسكري، وركن إلى ذات النهج في سوريا.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
رجب طيب أردوغان
أيضًا، يحاول أردوغان تحقيق مصالح وطموح بلاده القومية، غير أن أسس النظام العالمي تُعيق ما يرنو إليه، وهذا ما يدفعه للتمرد، وتُبين النقاط أدناه البواعث الأساسية لتمرد أردوغان:
ـ مشروع “العثمانية الجديدة”: لا يغيب عن خلد متابع أن الرئيس أردوغان يسعى لإعلاء شأن بلاده على صعيد إقليمي على الأقل، وينبع ذلك التوجه من مشروع “العثمانية الجديدة” الذي يسعى من خلاله أردوغان إلى بناء محاور “تكاتف إقليمي اقتصادي وسياسي وأمني” يستطيع موازنة تحركات القوى العالمية، وإعادة إحياء دور تركيا الجوإستراتيجي المحوري المهم بالنسبة لجميع القوى العالمية، ويقوم مشروع “العثمانية الجديدة” على توحيد أواصر قوميات الدولة العثمانية في المنطقة العربية والبلقان وآسيا الوسطى.
تجمع صفة التمرد بين الزعماء الثلاث انطلاقًا من رغبة كل منهم في تحقيق مصلحة بلاده القومية بأساليبٍ غير موجودة في عرف النظام العالمي الحاليّ، وفي ظل هذه الصبغات الترامبية والبوتينية والأردوغانية التي باتت بمثابة المناهج السياسية
ـ توازن القوى العالمي المحابي لدول بعينها: ترى أنقرة أن توازن القوى العالمي الحاليّ يُعيق بشكلٍ كبير تحركها نحو تحقيق ما ترنو إليه، وهذا ما يجعل أردوغان يظهر بمظر “المُتمرد على النظام العالمي”، إن المقصود بتوازن القوى العالمي هو ذلك النظام القائم في المجلس الأمن، حيث إن 5 دول تستطيع من خلال استخدام حق النقض “الفيتو” الذي لطالما أفسد المصلحة القومية للجمهورية التركية منذ تأسيسها.
فبرفض بعض هذه الدول للتحرك التركي نحو القبرص، تعرضت تركيا لحصار عام 1975، بسبب تحركها نحو إنقاذ الأتراك هناك، وتعرض أمنها القومي لخطر ماحق وطموحها للإحباط عندما استخدمت روسيا، وأحيانًا الصين، “الفيتو” ضد القرارات التي تُدين النظام السوري، بالإضافة إلى استخدام الولايات المتحدة للـ”الفيتو” ضد قرارات إدانة أحد منافسين تركيا على مركزية المنطقة “إسرائيل”.
ولتجاوز سلبية هذه النقطة، يبدو أن أردوغان ومستشاريه يرون، في ظل حالة الفوضى الإقليمية الفاعلة، نفعًا في بناء توازن دولي بين أقطاب الدول العُظمى والكُبرى، روسيا والولايات المتحدة والصين وألمانيا وفرنسا، من أجل تحقيق مصالحها القومية، للتعامل بواقعية مع توازن القوى العالمي القائم، ليتم التحايل على منظومة توازن العالمي القائمة بما يخدم المصلحة التركية قدر الإمكان.
في الختام، تجمع صفة التمرد بين الزعماء الثلاث انطلاقًا من رغبة كل منهم في تحقيق مصلحة بلاده القومية بأساليبٍ غير موجودة في عرف النظام العالمي الحاليّ، وفي ظل هذه الصبغات الترامبية والبوتينية والأردوغانية التي باتت بمثابة المناهج السياسية، يبدو أن النظام العالم، يتجه نحو نظام الزعامات الشعبية الكاريزمية الطاغي على نظام المبادئ العقلانية والقانونية الذي كان يحفظ نسبيًا التنافس العالمي بشكل اتحادي تعاوني، لكن في ظل نظام الزعامات الشعبية يبدو أن التنافس ماضِ صوب الاحتدام.