لطالما خرجت الأصوات التي تدّعي بأنّ السينما قد ماتت وانتهى عصرها. فمع كلّ التطوّرات التكنولوجية الضخمة التي شهدناها على مدى قرنٍ من الزمان، لم تعد السينما كما كانت عليه منذ زمن، وأصبح الأفراد غير ملزَمين لزيارة دور السينما لمشاهدة أفلامهم المفضّلة، بل باتوا يستطيعون اليوم مشاهدة ما يريدون مشاهدته في أيّ مكان ووقت ما يشاؤون، سواء على أجهزة التلفزيون أو الحواسيب أو حتى على شاشات هواتفهم الذكية.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الإنتاج السينمائي كان ملزمٌ بالتطوّر والتغيّر ليواكب ويستوعب الثورة التكنولوجية الحاصلة عامًا بعد عام، بدءًا من اختراع الدي في دي “DVD” و” Blu-Ray” أو السيديهات، ومرورًا بخاصية تنزيل الأفلام من مواقع الإنترنت الواسعة، وأخيرًا بالقنوات والمنصّات التي تسهّل للمشاهد وصوله للأفلام مقابل اشتراكٍ شهريّ بسيط وشبكة إنترنت معقولة السرعة، تمامًا مثل شبكة نيتفلكس.
نيتفلكس وأريكة المشاهِد.. هل يهدّدان دور السينما؟
على الرغم من أنّ عائدات تذاكر السينما في الولايات المتحدة قد ارتفعت بنسبة 8% في عام 2018، وهي أكبر زيادة سنوية في شباك التذاكر المحلّي منذ ما يقرب العقد من الزمان، إلا أنّ ثمة الكثير من المخاوف من أنّ المسارح السينمائية ودور العرض لن تبقى على الحال الذي كانت عليه كمحرّك اقتصادي ومكان تجمّع ثقافيّ وفنّي في ظلّ ميل الأشخاص إلى مشاهدة الأفلام على شاشات التلفزيون في المنازل.
بعض الأفلام المرشّحة لتكون أفضل أفلام العام من خلال إجماع النقّاد والخبراء، مثل فيلم “روما”، قد عُرضت على شاشات نيتفلكس بعد أيام قليلة فقط من عرضها في دور السينما، أو قبل عرضها حتى.
فمنذ إنشائها، ولا سيما منذ أن بدأت ببث الفيديو في عام 2007 وإنتاج أول محتوىً أصليّ عام 2011، أنفقت نيتفليكس المليارات في السعي لتحقيق هدف واحد: احتكار أكبر وقت ممكن لعملائها ومشاهديها. واليوم، بعد أنْ أصبح لها منافسون كثر مثل ديزني وأمازون وHBO، أصبحت نيتفليكس تتطلّع أكثر إلى تبنّي الأفلام الضخمة والقوية وإغراء صانعي الأفلام الذي يرغبون بعرض أفلامهم ومشاهدتها بإقبالٍ أكبر من ذي قبل من خلال الشاشات الكبيرة في المنزل.
فيلم روما من إخراج ألفونسو كوارون وإنتاج نيتفلكس مرشح لجائزة أفضل فيلم للعام 2018
ولو عُدنا بضع سنين للوراء، لوجدنا أنّ نيتفلكس وعلى الرغم من إنتاجاتها الخاصة والمحلّية الكثيرة، لم تحقّق ذلك النجاح الباهر على مستوى صناعة الأفلام، وأنّ ازدهارها الباهر انحصر على صعيد المسلسلات التلفزيونية فقط، مثل هاوس اوف كاردز على سبيل المثال، والتي استطاعت بدورها أنْ تنافس الإنتاجات الأخرى. إلا أنّ هذا لا يعني الاعتراف بأنّ المنصّة لم تحقِّق النجاح نفسه بالنسبة إلى الأفلام التي أنتجتها وعرضتها على شاشتها.
ولهذا، وجدت الشبكة نفسها أمام رهانٍ كبيرٍ يتطلّب منها تطوير إنتاجها السينمائيّ أو أنها تقع لضغط المشاهِدين وتقتصر إنتاجها فقط على المسلسلات. لكنّ المفاجأة كانت أنْ طوّرت نيتفلكس من استراتيجيّتها وأصبح من خلالها كلٌّ من السينما والبث التلفزيوني متشابكين للغاية هذا العام، بحيث أنّ بعض الأفلام المرشّحة لتكون أفضل أفلام العام من خلال إجماع النقّاد والخبراء، مثل فيلم “روما Roma” لألفونسو كوارون على سبيل المثال، قد عُرضت على شاشات نيتفليكس بعد أيام قليلة فقط من عرضها في دور السينما، أو قبل عرضها حتى. وقد مكّن ذلك الكثيرين من مشاهدتها وهم جالسون على أرائكهم المريحة أمام الشاشات التي يمتلكونها، أيًّا كان نوعها أو حجمها. ما يعني أنّ نيتفليكس تسير بخطىً واضحة وثابتة لتصبح أكبر استوديو سينمائي تجاريّ في العالم، لا على مستوى الأفلام وحسب وإنما أيضًا المسلسلات والعروض اليومية.
لم تحقق نيتفلكس بالسابق، وعلى الرغم من إنتاجاتها الخاصة والمحلّية الكثيرة، ذلك النجاح الباهر على مستوى صناعة الأفلام، وانحصر ازدهارها الباهر على صعيد المسلسلات التلفزيونية فقط
وإلى جانب فيلم روما، فقد عرضت القناة فيلم الأخوين جويل وإيثان كوين “أنشودة باستر سكراغز The Ballad of Buster Scruggs” بعد عرضه للمرة الأولى في النسخة الخامسة والسبعين من مهرجان الفيلم العالمي في فينيسيا، وحصوله على جائزة “أفضل سيناريو”، دون أن يُعرض أبدًا في دور السينما العالمية.
من فيلم “أنشودة باستر سكراغز”- إنتاج نيتفلكس وإخراج الأخوين كوين
كما سيضاف إلى قائمة أفلام الشبكة الفيلم المنتظر “الرجل الإيرلندي The IrishMan“، الذي يخرجه مارتن سكورسيزي ويقوم ببطولته كلٌّ من روبرت دي نيرو وآل باتشينو، وتنتجه أيضًا شبكة نيتفلكس مع توقّعات بعرضه على الشاشات في وقتٍ ما من العام القادم 2019، ما يعني أنّ العمل، على ضخامة إنتاجه وعراقة مخرجه وممثّليه، سيشكّل نقلةً نوعيةً كبيرة في عالم الإنتاج السينمائي الذي سيطرت عليه هوليوود لفتراتٍ طويلة من الزمن.
فمن جهته، يرى المحرر السينمائي بمجلة “فارايتي” جوش ديكي، أنّ دور العرض السينمائي لن تستطيع أن تصمد أكثر من 10 إلى 15 عامًا آخرين، موجهًا رسالته للجميع: “استمتعوا بالسينما، بينما لا يزال هناك وقت”، مُشيرًا إلى أنّ دور العرض السينمائي تموت ببطءٍ عن طريق مواقع بثّ وتنزيل الأفلام عن طريق الإنترنت، والتي أصبحت قادرة على أن تجلب أفلام العرض الأول السينمائي إلى البيت بعد حوالي عشرة أيام فقط من عرضها في دور السينما.
كما يتساءل كثيرون عن إمكانية أن تصبح تجربة مشاهدة فيلم في السينما مجالًا حصريًا للأفلام الضخمة ذات الميزانيات الكبيرة التي توظف خيارات مثل 3D Ultra-HD ، 4DX، بحيث أنّنا بدلًا من قولنا بأنّ السينما تموت أو ينتهي عصرها، فإنه من الأفضل لنا أنْ نقول أنها تتغيّر لتوائم وتواكب التغيّرات الحاصلة وتوفّر للمشاهد الراحة قبل كلّ شيء؟
بالنهاية، الكثير منّا لا يرغب بأكثر من خاصية تساعده على إيقاف الفيلم متى ما يشاء ليكمل مشاهدته لاحقًا في حال احتاج لذلك، وألّا ينتظر شهورًا طويلة لتنزيل نسخة جيدة من الفيلم من مواقع الإنترنت نظرًا لأنه إما لا تربطه علاقة جيدة بدور السينما أو أنه لا يجد الوقت الكافي لذلك.