بعد كل هذه الأزمات التي حدثت في العلاقات التركية الأمريكية سواء في عهد أوباما واحتمال وجود تورط أمريكي في محاولة الانقلاب الفاشل في 15 تموز 2016 أو في عهد ترامب حيث وصلت الأمور إلى حد تطبيق العقوبات على دولة تعتبر حليفة كتركيا، يبرز تساؤل مهم هل يمكن أن تتحسن العلاقات بين واشنطن وأنقرة مع قرار ترامب الأخير بالانسحاب من شمال سوريا وهو الأمر الذي بدا أنه مزعج لدول مثل اسرائيل ودول الخليج كالسعودية والإمارات، وبدا مفاجئا لدول أخرى مثل روسيا ودول الاتحاد الأوروبي ولكن على كل حال وبالرغم من غموض الدافع الأمريكي الحقيقي إلا أن هذا القرار لا يمكن المرور عليه بسهولة بل إن عددا من الباحثين يرون أنه نقطة محورية يمكن أن تفتح المجال لمناورات جديدة لحل الأزمة في سوريا فيما يرى آخرون أنه سيفتح المجال لمزيد من التعقيد.
من وجهة نظر تركيا كانت السياسة الأمريكية في شمال سوريا هي سياسة معارضة تماما لما تراه تركيا وتهديدا لأمنها القومي حيث اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية على دعم قوات سوريا الديمقراطية التي يتشكل عمادها الأساسي من وحدات الحماية الكردية التي تعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا تشكيلا إرهابيا وتخوض معه حربا منذ 40 عاما، وقد تصلبت تركيا خلف موقفها الرافض لأي نوع من النفوذ لحزب العمال الكردستاني على حدودها مع سوريا وأدى ذلك لتوتر كبير في علاقاتها مع الولايات المتحدة بسبب دعم الأخيرة لوحدات الحماية شمال سوريا بالتدريب والسلاح والأهم هو توفير الحماية لهم من خلال وجود القواعد والنقاط الأمريكية خلال السنوات الماضية بل ووصل الأمر في الأشهر الأخيرة إلى الحديث عن احتمالات مواجهة تركية أمريكية في حال قامت تركيا بقصف مواقع وحدات الحماية في ظل الوجود الأمريكي وهو الأمر الذي أكدت تركيا أنها تسعى إلى تجنبه.
كانت الأمور تتجه لمزيد من التعقيد خاصة أن تركيا ضمن فريق استانة المكون من روسيا وتركيا وإيران والذي تبنى مسارا آخر غير مسار جنيف ومن جهة أخرى كثفت تركيا من تعاونها العسكري والاقتصادي مع روسيا من خلال صفقة اس 400 وخط السيل التركي لتوريد الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا.
الغموض المحيط بالقرار الأمريكي وإن كان فيه جوانب إيجابية بالنسبة لتركيا إلا أنه قد يفتح عليها أبواب تهديد أخرى من قبيل المواجهة مع روسيا والنظام أو المليشيات الإيرانية من جهة
رغم كل هذا التعقيد وهشاشة العلاقة بين أنقرة وواشنطن وعدم وجود قناعة لدى أحد بأن الطرفين حليفان كان الرئيس التركي يحرص دائما على تذكير واشنطن بأنها حليف استراتيجي ولا ينبغي أن تقوم بأي عمل من شأنه تهديد دولة حليفة بل وذهبت تركيا أبعد من ذلك حيث قامت بتنفيذ عملية غصن الزيتون في عفرين بالرغم من الرفض الأمريكي وحاولت حل الأمر بالحوار مع واشنطن في منبج إلا أنها قوبلت بسياسة معهودة بالإلهاء والمماطلة.
وفي لحظة ما وفي تطور لم يكن متوقع من أغلب متابعي الشأن التركي حصل اتصال بين الرئيسين التركي والأمريكي وفي هذا الاتصال أبلغ ترامب أردوغان بقرار الانسحاب من تركيا والذي اعتبره البعض انجازا تركيا بحيث أن واشنطن لم تعد بعد حاميا لوحدات الحماية التي ستصبح هدفا سهلا للقوات التركية وهنا لابد من الإشارة أن هذا الأمر ليس بهذه السهولة وأن الغموض المحيط بالقرار الأمريكي وإن كان فيه جوانب إيجابية بالنسبة لتركيا إلا أنه قد يفتح عليها أبواب تهديد أخرى من قبيل المواجهة مع روسيا والنظام أو المليشيات الإيرانية من جهة كما أن وحدات الحماية في شرق الفرات أكثر تدريبا وتسلحا وتجهيزا وعددا منها في عفرين
وفي هذا السياق فإن عددا من الدول العربية مثل مصر والسعودية والإمارات تزيد نسبة التنافر بينها وبين تركيا كلما تقدمت تركيا في شمال سوريا وقد دارت أنباء أمس عن إعادة افتتاح الإمارات لسفارتها في دمشق وعن لقاء وفد أمني مصري سوري وهذا أمر من شانه أن يزيد حدة التوتر. ولكن مع هذا يمكن لتركيا أن تخوض عملية دبلوماسية تستطيع أن تتخلص فيها من التهديد على حدودها وتعطي كل طرف التطمينات التي يريدها وقد أثبتت تركيا أنها لها قدرة على ذلك عندما منعت عملية روسية إيرانية في إدلب. ولكن كل هذا مرتبط بالسؤال الذي سألنها في بداية المقال حول إمكانية عودة العلاقات وتحسنها بين أنقرة وواشنطن حيث تحتاج أنقرة إلى اختبار العلاقة مع واشنطن في عدة ملفات على رأسها شمال سوريا ومنها:
– وقف تسليح وحدات الحماية في شمال سوريا حيث أفادت مصادر محلية أن شاحنات السلاح ظلت تتدفق حتى بعد إعلان قرار الانسحاب الأمريكي.
– جمع الأسلحة التي تم تسليمها للوحدات من أجل محاربة داعش وقد بلغت أكثر من 5 آلاف شاحنة
– تسليم أماكن القوات الأمريكية إلى القوات التركية قبيل الانسحاب
– وقف كافة أنواع الدعم السياسي واللوجيستي لوحدات الحماية.
– دخول تركيا إلى مدى معين داخل الحدود قبل الانسحاب الأمريكي الكامل
– وخارج سوريا هناك ملفات تتعلق بملاحقة تنظيم غولن في الولايات المتحدة ورفع الغطاء عنه والتقدم في مسار تسليم فتح الله غولن المطلوب لتركيا.
انهيار الثقة الذي وقع في العلاقات التركية الأمريكية يحتاج وقتا أكبر ويزيد هذا الوقت مع الغموض وحالة عدم التنبؤ المرتبطة بالسياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب
– عدم توتير العلاقات من خلال قوانين وتشريعات أمريكية كالتي حدثت في ملف تسليم طائرات اف 35 لتركيا
– إتمام صفقة منظومة باتريوت وتسليم التكنولوجيا الخاصة بها لتركيا.
إذا كان يمكن قراءة الانسحاب الأمريكي من سوريا على أنه إنجاز لتركيا فإن تحقق هذه النقاط أعلاه يصب في تكريس هذا الإنجاز أما عن تحسن العلاقات الأمريكية فيمكننا قول نفس الشيء لأن التعامل الأمريكي مع حزب العمال وتنظيم غولن كان العامل الأساسي في تدهور العلاقات ولكن انهيار الثقة الذي وقع في العلاقات التركية الأمريكية يحتاج وقتا أكبر ويزيد هذا الوقت مع الغموض وحالة عدم التنبؤ المرتبطة بالسياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب.