بين توعد حزب الاتحاد الديمقراطي بالسحق والتهديد باستهداف النظام السوري، تُحاول أنقرة إظهار عزمها الشديد حيال تنفيذ عملية عسكرية في منطقة شرق الفرات التي تُسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تُشكّل وحدات الحماية الكردية “ب ي د” عصبها الأساسي، وتستعد الولايات المُتحدة للانسحاب منها، بحسب ما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وتأتي تهديدات أنقرة بالتزامن مع استمرار علميات إرسال التعزيزات العسكرية باتجاه جبهات الباب وجرابلس وتل الأبيض، ما يخلق تساؤلاً مفاده: هل تستطيع تركيا فعلاً تجاوز النظام السوري، حال أصبح له وجود في مناطق شرق الفرات، وإجراء عملياتها العسكرية في منطقة شرقي الفرات؟
من باب الإيجاز، يبدو أن الإجابة الأقرب للصواب والمنطق والواقعية هي “لا”، فتحرك النظام السوري تجاه بعض مناطق شرق الفرات، لا يبدو أنه يأتي من لدن تقدير النظام نفسه، بل بتنسيق مع موسكو التي تُهيئ الأمور الدولية لمثل هذا التحرك، ولعل هذه أولى النقاط التي تحول دون تمكن أنقرة من تجاوز هذه المعادلة في حال تمت كما هو مطروح، أيضًا، هناك عدة عوامل أخرى قد تحول دون تمكّن أنقرة من تجاوز تحرك النظام، رغم وجود الإرادة السياسية الكاملة لديها:
ـ انعدام الذريعة الشرعية:
على الرغم من حجم التجاوزات التي ارتكبها النظام السوري بحق شعبه، لا يزال يحظى بشرعية دولية تظهر من خلال محافظته على مقعده في الأمم المتحدة، فضلاً عن حضوره لكل التشاورات المتعلقة بالأزمة، لذا فإن تجاوز أنقرة له والاصطدام معه، يُقيّم على أنه اعتداء سافر على السيادة السورية، وبالتالي انتهاك صارخ لمواثيق الأمم المتحدة، ما يعرضها لهجمات دبلوماسية وقانونية لا تقدر على مواجهتها.
في حال ركنت تركيا إلى مبدأ “مسؤولية الحماية” كما تم في “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، فإن ذلك المبدأ يمكّنها من تنفيذ عمليتها في تل الأبيض فقط
ويختلف الأمر عن عملية “غصن الزيتون” التي جاءت بتنسيق مع موسكو التي منحت تركيا حق التدخل في عفرين مقابل صياغة معادلة متناغمة من طموح الطرفين في إدلب، وباتباع الطرق الدبلوماسية في إعلام النظام السوري بالعملية عبر قنصليته في إسطنبول تطبيقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تمنح الدول حق التحرك المشترك في مواجهة المنظمات المسلحة التي تهدد الأمن القومي لكليهما أو لواحدة منهما، غير أن البوادر الإعلامية والدبلوماسية توحي بعدم وجود توجه روسي نحو منح أنقرة هامش تحرك واسع شرقي الفرات.
وفي حال ركنت تركيا إلى مبدأ “مسؤولية الحماية” كما تم في “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، فإن ذلك المبدأ يمكّنها من تنفيذ عمليتها في تل الأبيض فقط، حيث صدرت الكثير من التقارير الدولية، لا سيما عن منظمة العفو الدولية، تشير إلى ممارسة وحدات الحماية الكردية عمليات “تطهير عرقي” بحق العرب في هذه المناطق، وقد تتعاون تركيا في التوجه نحو تل الأبيض مع بعض العشائر العربية التي أسست، بدعمٍ تركي، ما يُسمى بـ”تجمع عشائر الشرقية” أو “تجمع درع الشرقية” في 19 من أبريل/نيسان من العام الماضي، حيث يمكّنها المناداة بدعمها الإنساني والحقوقي لأصحاب الأرض.
ـ الموقع الدبلوماسي لأنقرة في الساحة الدولية:
تُقيّم أنقرة في الساحة الدولية على أنها دولة إقليمية، وبالتالي فهي بحاجة دومًا لغطاءٍ دبلوماسي من دولة عظمى أو كبرى، يجعلها قادرة على التحرك دون التعرض لضغوطٍ سياسية أو اقتصادية أو حقوقية أو إعلامية تُحرجها.
ـ إيمان أنقرة بالحل الوسطي وخشيتها من خسارة المكتسبات:
ما حصلته أنقرة في سوريا حتى اليوم إنما جاء بتنسيق مع الدول الكبرى، وبعد تراجعها عن عدة مواقف كتقييم سقوط حلب خط أحمر، وكالمطالبة بإسقاط النظام، وغيرها، فلقد باتت أنقرة ترى بعين العقلانية وبهاجس إستراتيجي ذاتي، أن خروجها عن إطار الحل الوسطي أو التسوية القائمة على ضرورة تنسيق إرادتها السياسية مع إرادات الدول الأخرى، قد يكلفها بعض المكتسبات التي حصلت عليها، كسيطرتها على إدلب مثلاً.
قد تتجه إيران لعدة أساليب استخباراتية، كحرب العصابات وتحريك عناصر نائمة في مناطق سيطرة تركيا ودفع بعض ميليشياتها تحت الغطاء الشرعي للنظام، انطلاقًا من تخوفها من اتساع نطاق التمدد الميداني والنفوذ السياسي التركيين
ـ نضوج الطبخة في مطابخ الدول الكبرى:
انطلاقًا من كون أنقرة دولة إقليمية، فإن دورها في إنضاج المعادلة الخاصة بالمنطقة محدود جدًا، فهي دولة تنظر وتراقب وتحاول توقع المعادلة الدولية وفقًا لتحركات الدول الكبرى، ولا تستطيع صنعها بشكلٍ كامل، لذا يبقى الموقف التركي رهن التشاورات والاتفاقيات الروسية ـ الأمريكية التي لم تنضج بشكلٍ كاملٍ بعد، وتُظهر عدة مؤشرات أنها تتجه نحو منح النظام ووحدات الحماية وغيرها من الفواعل المحلية، دور يحول دون إجراء تركيا عملية عسكرية تتجاوز فيها تحركات النظام، حتى يتم الحيلولة دون بزوغ نتائج لا تحمد عقباها على أصعدة متعددة.
ـ التعطيل الروسي المباشر أو غير المباشر:
عندما أرادت موسكو تعطيل التحرك التركي لما بعد الباب في أثناء عملية “درع الفرات”، اتجهت نحو دفع قوات النظام السوري لجنود أتراك، وتحريك قواتها نحو الريف الغربي لحلب، ومن ثم من خلال استهداف مجموعة من الجنود الأتراك في 9 من فبراير/شباط 2017 عن طريق “الخطأ”، واليوم تتبع ذات الأسلوب من خلال تحضيرات لقوات الجيش السوري لدخول منبج التي تُشكّل بوابة رئيسية لتقدم القوات التركية نحو شرق الفرات، ومن خلال إجراء تشاورات مع “ب ي د” وواشنطن من أجل نشر بعض قوات النظام داخل منطقة شرقي الفرات.
وكما أسلف ذكره، في حال تواجدت قوات النظام أمام القوات التركية، فإن الأخيرة لا تستطيع استهدافها أو تجاوزها، لأن ذلك يأتي في إطار الاعتداء الاحتلالي السافر.
ـ التحرك الإيراني الاستخباراتي:
أيضًا، قد تتجه إيران لعدة أساليب استخباراتية، كحرب العصابات وتحريك عناصر نائمة في مناطق سيطرة تركيا ودفع بعض ميليشياتها تحت الغطاء الشرعي للنظام، انطلاقًا من تخوفها من اتساع نطاق التمدد الميداني والنفوذ السياسي التركيين، واللذين قد يؤثران سلبًا على مشاريعها الجيوسياسية والاقتصادية في سوريا مستقبلاً.
في الختام، تبقى تركيا دولة إقليمية يتسم تأثيرها في مسار رسم المعادلات الإقليمية والدولية بالفعالية ومرتبط بالتوجهات الدولية للدول الكُبرى، لا سيما موسكو وواشنطن، وانطلاقًا من ذلك، فإن المُتوقع ابتعاد أنقرة عن الإقدام على تحدي الإرادتين الروسية والأمريكية في حال قررتا تحقيق حل وسط يقوم على نشر بعض قوات النظام السوري إلى جانب القوات المحلية الفاعلة شرقي الفرات، كما تم في منبج سابقًا، عندما همت تركيا بالتقدم نحوها بعد سيطرتها على الباب.