على كثرة التجارب الشعرية التركية، إلا أنه لم يصل إلى المكتبة العربية حتى الآن، أغلب هذا التراث الشعري في جميع مراحله، وهو تراث ضخم بدأ منذ العصور القديمة التي أفرزت ملاحم شعرية عديدة، مرورًا بالعصر الإسلامي والدولة العثمانية التي اهتم سلاطينها بالشعر بشكل خاص، وصولاً إلى العصر الحديث الذي شهد ولادة تيارات وجماعات وثورات شعرية عديدة.
ولعل أبرز أسباب هذه القطيعة، هي محاولات “أتاتورك” عزل تركيا عن محيطها العربي، وربما كان الشاعر الكبير ناظم حكمت هو الاستثناء الوحيد في ذلك، فهو صاحب الحظ الأوفر في الترجمة إلى العربية، وربما يكون انتماؤه اليساري، سببًا في احتفاء اليسار العربي به، والسعي إلى ترجمته منذ أوائل الستينيات، لكن ذلك لم يحدث مع غيره من الشعراء الأتراك في أجيال مختلفة.
يعد الشعر أكثر الأنواع الأدبية تقدمًا في الأدب التركي وأقدمها أيضًا، منذ أن كانت قبائل الأتراك في آسيا الوسطى، وارتبط الشعر التركي القديم منذ نشأته بالموسيقى، ونظرًا لحياة الترحال التي عاشتها تلك القبائل، كان الشعر آنذاك وجدانًا جمعيًا، يرددونه في الاحتفال قبل الخروج إلى الصيد، وفي مراسم الجنازة أيضًا، وأُطلق على الشعراء آنذاك أسماء مثل “شامان” و”قَام” و”بَاكْسِي” و”أُزَان”، وحُفظت أشعارهم عن طريق التداول الشفهي قبل انتشار الكتابة.
الشعر التركي في ظل الحضارة الإسلامية
حتى القرن الحادي عشر، كان الشعر التركي محليًا وطنيًا، وبعد تعرُف قبائل الأتراك على الإسلام ونزوحهم إلى الأناضول، شهد الشعر بعض التغييرات، فعلى مستوى الشكل، بدأ التأثر بعلم العَروض العربي، ومع انتشار الطرق الصوفية في الأناضول، صارت كل طريقة تنظم آدابها على هيئة شعر، كما ظهر في أشعار خوجه أحمد يسوي، صاحب “ديوان الحكمة” والشاعر والمتصوف يونس إمره.
أغلب السلاطين العثمانيين كانوا يحبون شعر الديوان، وكتب كثير منهم شعرًا على هذه الطريقة
في المرحلة العثمانية بدأ الصراع بين تيارين أدبيين: تيار “الشعر القديم” للشعراء الشعبيين الذين يطوفون بآلة “الساز” مترنمين بالحكايات الملحمية لـ”داده كوركوت” و”سيد بطال غازي”، وقد سعوا إلى استخدام اللغة التركية البسيطة، وحافظوا على الأوزان الفلكورية القديمة، والآخر هو تيار “شعر الديوان” العثماني الذي تأثر ببحور العَروض والأدب العربي والفارسي بشكل عام، ويعد الشاعر خوجه دهاني أبرز شعراء الديوان.
أغلب السلاطين العثمانيين كانوا يحبون شعر الديوان، وكتب كثير منهم شعرًا على هذه الطريقة، فالسلطان محمد الفاتح كان يكتب باسم مستعار “عوني”، والسلطان سليمان القانوني كان يوقع شعره باسم “مُحبِي”، وياوز سلطان سليم “سليمي”، ومن أبرز هذه المرحلة: “فضولي” و”باقي” و”نفعي”، ولعل الفارق الأهم بين شعر الديوان والشعر الشعبي، هو أن الأول لم يكن يتناول المشاكل الاجتماعية، وكان معظمه في العشق الإلهي.
تجدر الإشارة إلى أن المرحلة العثمانية، شهدت ظهور شاعرات أيضًا، أبرزهن الشاعرة زينب خاتون التي عاشت في عهد السلطان محمد الفاتح وكتبت أشعارًا بالعثمانية والفارسية، وكانت تكتب أشعارها على لسان رجل.
عصر “التنظيمات” وتأثيرات الشعر الفرنسي
كان لإعلان فرمان “التنظيمات” عام 1839 في عهد السلطان عبد المجيد، أثر كبير على الشعر العثماني، حيث دخلت الدولة العثمانية عصرًا جديدًا قائمًا على محاكاة النموذج الغربي وبالأخص الفرنسي، وظهر ما يُعرف بـ”أدب التنظيمات” الذي تأثر بشكل كبير بالأدب الفرنسي، بعد ترجمة العديد من الأشعار الفرنسية من الطلاب العثمانيين المبعوثين.
شعراء المرحلة الأولى لعهد التنظيمات غيروا فقط في الموضوعات الشعرية مع الحفاظ على شكل شعر الديوان، أما شعراء المرحلة الثانية لذلك العصر، فقد لجأوا إلى الرمز في قصائدهم، خوفًا من المحاكمة
من بين هؤلاء الشاعر إبراهيم شِنَاسِي، أول رواد حركة التغريب الذي ترجم كثيرًا من الشعر الفرنسي، وعبر في شعره عن الديمقراطية بالمفهوم الغربي، كما ظهر في قصائد شعراء تلك المرحلة موضوعات مثل: الحقوق والعدالة والحرية، ويتجلى ذلك في شعر نامق كمال الملقب بـ”شاعر الوطن”.
لكن شعراء المرحلة الأولى لعهد التنظيمات غيروا فقط في الموضوعات الشعرية مع الحفاظ على شكل شعر الديوان، أما شعراء المرحلة الثانية لذلك العصر، فقد لجأوا إلى الرمز في قصائدهم، خوفًا من المحاكمة، في ظل إرسال عدد كبير من الشعراء إلى المنفى في عهد السلطان عبد الحميد، ومن أبرز شعراء هذه المرحلة: عبد الحق حميد طرهان الملقب بـ”الشاعر الأعظم”، وظهرت في هذه المرحلة أولى محاولات كتابة الشعر غير المُقَفى، على يد الشاعر رجائي زاده أكرم.
شهدت هذه المرحلة العديد من المعارك والخلافات الأدبية، كالخلاف على أهمية استخدام القافية، ومعركة “تصفية اللغة”، فرأت مجموعة من الشعراء أنه يجب تصفية الشعر من الكلمات والتراكيب العربية والفارسية، ومجموعة أخرى رفضت ذلك، وظهرت أفكار المجموعة الأخيرة في مجلة “ثروة الفنون” التي صدرت عام 1896، وكان الشاعر توفيق فكرت رئيسًا لتحريرها.
الشعر في مرحلة القومية التركية
ظهرت أولى ملامح القومية في الشعر التركي في مقالات مجلة “الأقلام الشابة” منذ عام 1910، ويعد الشاعر والمُنظر القومي ضياء جوك ألب، أبرز شعراء هذا الاتجاه، حيث اهتم بمسألة اللغة باعتبارها أحد أهم دعائم القومية، وحاول استبعاد الكلمات غير التركية من شعره، متأثرًا بما حدث في الإمبراطورية الألمانية من عملية تطهير لغوي منظم للكلمات الفرنسية الدخيلة، في المقابل استمر تيار الشعراء المتمسكين بالعروض، وأبرزهم، أحمد هاشم، أحد رواد المدرسة الرمزية.
التغيير الحقيقي في مسيرة الشعر التركي على مستوى الشكل والرؤى والأساليب، جاء لاحقًا نتيجة عدة عوامل، من بينها، تبني الأبجدية اللاتينية لتحل محل العربية
وقد ظهرت أسماء شعرية بارزة في هذه المرحلة، لكنها لم تنتسب إلى أي من هذه الجماعات الشعرية، وأبرزها الشاعر محمد عاكف إرصوي، المعروف بميوله الإسلامية وصاحب نشيد الاستقلال، والشاعرة خالدة نصرت زورلوتونا التي كتبت شعرًا شعبيًا، وامتلأت أشعارها بالأحاسيس الوطنية في فترة حرب الاستقلال التركية.
لكن التغيير الحقيقي في مسيرة الشعر التركي على مستوى الشكل والرؤى والأساليب، جاء لاحقًا نتيجة عدة عوامل، من بينها، تبني الأبجدية اللاتينية لتحل محل العربية، واستخدام الوزن المقطعي، والمثير للدهشة أن هذا التجديد لم يأت من كل الجماعات الشعرية الموجودة آنذاك، حيث قاد عملية التغيير شاعران يعد النقاد الأتراك كل واحد منهما مدرسة شعرية مستقلة: ناظم حكمت ونجيب فاضل.
نجح ناظم حكمت في توسيع آفاق الشعر التركي، حيث غير الشكل والمضمون المتعارف عليهما آنذاك، فقد أدخل التفعيلة الحرة إلى الشعر التركي، وهجر “وزن الهجا” الذي يعتمد على تكرار عدد معيد من المقاطع الصوتية، واستطاع حكمت أن يؤسس لتيار الواقعية الاجتماعية في الشعر التركي، وله أثر واضح على أجيال لاحقة من شعراء هذا التيار، مثل أحمد عارف وحسن حسين.
أما نجيب فاضل المعروف بـ”سلطان الشعراء”، الذي مثل الاتجاه المحافظ في الشعر التركي، بدأ حياته الشعرية بتناول الموضوعات الميتافيزيقية، ثم انتقل بعد ذلك إلى الشعر الديني، ورغم استخدام فاضل لـ”وزن الهجا” التركي القديم، فإنه استخدمه بشكل غير تقليدي، حتى قال عنه النقاد إنه الشاعر الوحيد الذي وُفق في استخدام الهجا وأمده بروح جديدة.
تيار الحداثة في الشعر التركي
في مطلع أربعينيات القرن العشرين، تشكل تيار “غريب” الشعري، على يد الشاعر أورهان ولي،ورفيقيه الشاعرين: مليح جودت وأوكتاي رفعت، وهو تيار شعري حداثي، قام بتغيرات جذرية في الشعر التركي، حيث دعوا لتحرر الشعر من الغنائية ورأوا أن الشعر يجب أن يُستوحى من الواقع اليومي ويُسائل العالم بطريقة عبثية، تهزأ من كليشيهات الشعر التقليدي، كما رفضوا استخدام الوزن والقافية وكل الأساليب الشعرية القديمة.
من أبرز التجارب الشعرية في تركيا اليوم: شكري أرباش وحيدر أرجولان وكوتشوك إسكندر، ويتناول شعرهم حياتهم الخاصة في ظل الأحداث العامة.
كتب الأصدقاء الثلاث شعرهم بلغة رجل الشارع، وعبروا عن آرائهم بجرأة في مقدمة ديوانهم المشترك الذي صدر عام 1941 بعنوان “الغريب”، وتعد مقدمة هذا الديوان بمثابة البيان الشعري، وقد لاقى شعراء “غريب” هجومًا حادًا آنذاك، إلا أنهم حظوا باعتراف كثير من الأدباء فيما بعد، ولُقب أورهان ولي بـ”رائد الحداثة” في الشعر التركي.
وفي عام 1952 تشكلت جماعة “مافي” (بمعنى أزرق)، كتيار مضاد لتيار “غريب”، حيث رفضوا وضوح المعاني الشعرية ودعوا إلى تعميقها، ولجأ هذا التيار إلى استخدام السينما والرسم في الشعر، وتبنوا مذهب الفن من أجل الفن، ومن أبرز هؤلاء الشعراء، إيجى أيهان وجمال ثريا وتورجوت أويار وأديب جانسفير وآتيلا إلهان.
خلال هذه الفترة أيضًا، ظهرت أصوات شعرية مهمة، كالشاعرة جولتان أكين التي تأثرت بالأدب الشعبي وعبرت عن مشاكل المرأة شعرًا، والشاعر جان يوجال، صاحب النزعة الاشتراكية الذي استخدم السخرية والنكتة السوداء في شعره، وفي جيل السبعينيات، برزت الشاعرة نيلجون مرمرة، وقد تأثرت بالشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، ليس في شعرها فقط الذي بات يُعرف بالشعر الاعترافي أو شعر التجربة الشخصية، ولكن في طريقة حياتها ونظرتها إلى العالم، ووصفها النقاد بأنها “وريثة بلاث في الشرق”، وقد ماتت منتحرة أيضًا.
استمر وجود التيار الشعري القائم على النزعة السياسية إلى جانب تيار آخر حاول أن تكون لغته الشعرية متخففة من الشعارات السياسية، وفي جيل التسعينيات لجأت الشاعرة ديدام ماداك إلى تقنية الكتابة عن العادي واليومي والمُعاش، ومن أبرز التجارب الشعرية في تركيا اليوم: شكري أرباش وحيدر أرجولان وكوتشوك إسكندر، ويتناول شعرهم حياتهم الخاصة في ظل الأحداث العامة.
أخيرًا، فإن الشعرية التركية غنية ومتعددة الاتجاهات، ومن الصعب الإلمام بجميع ملامحها في مقالة واحدة، ولكن مما ينبغي الإشارة إليه، أنه إذا كانت القصيدة التركية قد استجابت إلى دعوات التجديد والابتكار في الأساليب والألفاظ وتقويض المعايير الجمالية الثابتة، إلا أنه من الواضح أن شعراء اليوم، على وعي كبير، بكيفية الاستفادة من جماليات الماضي.