في الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار إلى التطورات الميدانية ومجريات القصف في لبنان، يدور حراك سياسي في الكواليس أو أمامها، وربما تقود التطورات العسكرية إلى رسم مشهد سياسي جديد، وإعادة رسم خريطة التحالفات في مرحلة قد يطلق عليها اسم “مرحلة ما بعد حزب الله”.
استطاع “حزب الله” خلال العقدين الماضيين تشكيل مشهد سياسي شبه ثابت في البلاد، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، وما يعرف بـ”انقلاب أيار” عام 2008، وقيامه بتحييد جميع المنافسين الأقوياء، وعلى رأسهم تيار المستقبل، عبر سلاحه الذي احتفظ به عقب اتفاق الطائف.
يمكن القول إن اتفاق الطائف سبتمبر/أيلول 1989 نظم إيقاع السياسة في لبنان في المرحلة ما بين دخوله حيز التطبيق وعام 2005، حين أصبح “حزب الله” الوريث الرسمي لحكم البلاد بالقوة، بعد انسحاب الجيش السوري من البلاد في أبريل/نيسان 2005، بموجب القرار الأممي 1559. ومنذ ذلك الحين، دخلت البلاد في حالة من الجمود السياسي على المستويات كافة، لا سيما في ملف الفراغ الرئاسي، الذي بقي محكومًا ليس بالتوافقات الداخلية فحسب، إنما بتوافقات خارجية معقدة بين عدة أطراف، وزادت الحرب الحالية من تعقيدات هذا الاستحقاق.
وفقًا لذلك، ربما تحتاج البلاد المزيد من الوقت لتتوضح مواقف الأحزاب السياسية بشكل عام من الواقع السياسي الجديد الذي قد تفرضه مجريات الحرب على لبنان، فلا تزال الأجواء مشوبة بالترقب والمفاجأة بعد عمليات الاغتيال التي عصفت برأس الهرم القيادي في “حزب الله”، الذي يستمد الجناح السياسي منه عوامل القوة.
ولفهم الواقع السياسي الحالي في لبنان، يحتاج المراقب إلى فهم المواقف الإقليمية والدولية ككل، بحسب ما يعتقد المحلل السياسي اللبناني، أمين بشير، الذي يعتبر اغتيال نصر الله منعطفًا بارزًا بسبب الثقل المحلي والإقليمي وحتى الدولي للأمين العام لـ”حزب الله”.
يقول بشير في حديثه لـ”نون بوست”، إن “إسرائيل” لم تقدم على خطوة اغتيال نصر الله بقرار فردي، بل لا بد أنها حصلت على ضمانات معينة بأن الأمور ستسير وفقًا لمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي أعلنه نتنياهو عقب معركة طوفان الأقصى، “وبالتالي، فإن اغتيال نصر الله يعد مؤشرًا واضحًا على قرار دولي تنفذه “إسرائيل” باقتلاع أذرع إيران من المنطقة، وبطبيعة الحال من لبنان”.
يضيف بشير: “وباعتبار أن “حزب الله” لا يشكل في لبنان مجرد حزب سياسي، إنما هو ميليشيا مسلحة كانت تسيطر على كل مفاصل الدولة اللبنانية، فإن التطورات الجديدة ستكون بالتأكيد متناسبة مع عدم وجوده في المشهد، رغم دعايات مناصريه بأنه لا يزال قويًا وقادرًا على استعادة زمام المبادرة”، ويعتقد بشير أن السؤال المطروح في الحاضنة الشيعية اليوم: من يستطيع ملء الفراغ بعد حسن نصر الله؟ وهل يستطيع نبيه بري أداء هذه المهمة؟
انعطافة جبران باسيل
في الوقت الحالي، ربما يشكل الموقف الجديد لجبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر، تحولًا لافتًا في المشهد السياسي اللبناني القائم قبل الحرب، وباكورة لإعادة تشكيل التحالفات بما يتناسب مع التطورات الميدانية.
شن باسيل هجومًا لاذعًا على “حزب الله” في مقابلة مع قناة “العربية” السعودية، واعتبر أن إسناد غزة ووحدة الساحات كانا بمثابة خطأ إستراتيجي، وأن “حزب الله” أضعف نفسه وتسبب بخسارة لبنان لقوته، وكان لافتًا أن باسيل اتهم حليفه السابق “حزب الله” بأنه الذي بدأ الحرب ضد “إسرائيل”، مؤكدًا أن “التيار الوطني الحر” ليس في وضع تحالف مع الحزب الله، محذرًا من أن لبنان أمام خطر حقيقي لفتنة داخلية وخطر وجودي.
وقال باسيل في تغريدة على حسابه بمنصة “أكس”: “ردًا على سؤال عن استمرار التحالف مع حزب الله: كلا، التحالف يحصل عندما نكون على موقف واحد من المواضيع، لكننا اختلفنا أولًا بموضوع بناء الدولة، وثانيًا بالشراكة في الوطن بالرئاسة والحكومة، وثالثًا بحرب إسناد غزة ودخول لبنان في حرب لا قضية وهدف لبناني فيها إنما فقط تحت عنوان وحدة الساحات”.
ردا على سؤال عن استمرار التحالف مع حزب الله: كلا، التحالف يحصل عندما نكون على موقف واحد من المواضيع، لكننا اختلفنا اولا بموضوع بناء الدولة وثانيا بالشراكة في الوطن بالرئاسة والحكومة وثالثا بحرب اسناد غزة ودخول لبنان في حرب لا قضية وهدف لبناني فيها انما فقط تحت عنوان وحدة الساحات
— Gebran Bassil (@Gebran_Bassil) October 22, 2024
ورغم أن هذه التصريحات قرئت على أنها مقدمة لتحالفات جديدة يعتزم باسيل الدخول فيها، فإنه ثمة من يرى أن هذه التصريحات لا يعول عليها، وأنها تعكس نهج التيار الوطني الحر منذ تأسيسه على يد العماد ميشيل عون وحتى اليوم، بحسب ما يرى المحلل السياسي اللبناني جورج العاقوري.
يوضح العاقوري لـ”نون بوست”، أن تيار باسيل برع منذ نشأته بالتلون والتقلب السياسي بغية تأمين المصالح، وأنه حين لمس تراجع قوة “حزب الله” يحاول اليوم “غسل يديه” ونفي تحالفه مع الحزب، ويضيف العاقوري: “ولكن شراكته مع الحزب هي ما أوصل لبنان إلى وضعه الحالي، لأنها كانت شراكة بين سلاح الحزب والمصالح الضيقة للتيار الوطني الحر، الذي منح تغطية سياسية لحزب الله سمحت له بممارسة فائض القوة وعنجهية السلاح على كل المكونات اللبنانية”، مؤكدًا: “ومع ذلك، فإن هذا لا ينفي أننا أمام خريطة قوى جديدة في لبنان في مرحلة ما بعد الحرب، مستبعدًا بقاء “حزب الله” مسيطرًا بشكل كلي على المشهد السياسي والعسكري كلاعب وحيد يمثل المصالح الإيرانية بالبلاد.
ويستأنف بالقول: “صحيح أننا لا نزال في خضم هذه الحرب، وأن الوقت لا يزال مبكرًا لتحديد طبيعة المشهد السياسي القادم، إلا أنه من المؤكد أن هناك تغيرات في الخريطة السياسية اللبنانية، وأن مرحلة ما قبل السابع من أكتوبر، طويت إلى غير رجعة”.
ضبابية التيار السني
في ظل سعي كل طرف إلى تحقيق ثقل ووجود يؤسس لمرحلة “ما بعد حزب الله”، يبدو التيار السني بزعامة “تيار المستقبل”، هو الأكثر ضبابيةً والأقل فاعلية، وهذا ما يرسخ بالفعل واقع التيار منذ إعلان سعد الحريري انسحابه من العمل السياسي في يناير/كانون الثاني 2022، وباستثناء إدانة الحريري عملية اغتيال زعيم “حزب الله” حسن نصر الله واعتبار أن الاغتيال سيدخل “لبنان والمنطقة في مرحلة عنف جديدة”، لم تظهر للحريري أي تفاعلات أو آراء أو توجهات إزاء ما يجري في لبنان.
صدر عن الرئيس سعد الحريري البيان الاتي؛
اغتيال السيد حسن نصرالله ادخل لبنان والمنطقة في مرحلة عنف جديدة. إنه عمل جبان مدان جملة وتفصيلًا من قبلنا، نحن الذين دفعنا غاليًا من أحبتنا حين صار الاغتيال بديلًا للسياسة. رحم الله السيد حسن وأخلص التعازي لعائلته ورفاقه. اختلفنا كثيرًا مع…— Saad Hariri (@saadhariri) September 28, 2024
وقبل أيام، عادت معرفات التواصل الخاصة بقناة “المستقبل” الناطقة سابقًا باسم التيار للظهور مجددًا في مواقع التواصل، ما قرأه البعض على أنه تمهيد لعودة سعد الحريري للمشهد مجددًا، وهو ما يبدو مستبعَدًا بالوقت الحالي، بحسب المحلل السياسي أمين بشير، الذي يجزم أنه لا توجد مؤشرات على عودة قريبة للحريري للمشهد في لبنان، لا سيما أن ذلك مرهونًا بدعم مالي خليجي سعودي، وهو ما ليس مطروحًا حاليًا.
“والدليل على ذلك أن الذراع الإعلامية للحريري لم تعد فعليًا، إنما عادت منصاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، ولو كان هناك دعم مالي سعودي لرأينا عودة قناة المستقبل”، وفق اعتقاده، بالإضافة إلى ملف الخلاف وتباين وجهات النظر بينه وبين أخيه بهاء، الذي يبدو أكثر سعيًا للعودة للمشهد من خلال نشاطاته الاجتماعية واللقاءات السياسية التي عقدها خلال شهر يوليو/تموز الماضي، في أثناء زيارته للبنان.
“مرحلة مفصلية”
وفقًا للواقع الحالي، يظهر حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، كأكثر الأطراف استعدادًا لمرحلة “ما بعد حزب الله”، باعتبار أنه كان خلال السنوات الماضية بمثابة رأس حربة في مواجهة سياسة الحزب، ويمتلك أكبر تمثيل مسيحي في البرلمان.
يكثف جعجع في الوقت الحاليّ مساعيه لإثبات أن الحزب لا يمثل الطائفة الشيعية في لبنان، في محاولة لسحب البساط من إيران ونفوذها السياسي، ونشر في حسابه الشخصي بمنصة “أكس” أن “القضاء على الطائفة الشيعية هو موضوع يتم تسويقه من قبل محور الممانعة فقط”.
وأضاف: “هناك دولة اسمها إيران تقوم بجهود حثيثة لتثبيت قواعد لها في الدول العربية كافة، وقاعدتها في لبنان هي حزب الله المرتكز على البيئة الشيعية. ولتمكنه من الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأصوات، يعمل على إقناع بيئته برفض طروحاتنا لأننا نكره الشيعة، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق”.
“القضاء على الطائفة الشيعية” هو موضوع يتم تسويقه من قبل محور الممانعة فقط. هناك دولة اسمها إيران تقوم بجهود حثيثة لتثبيت قواعد لها في الدول العربية كافة، وقاعدتها في #لبنان هي حزب الله المرتكز على البيئة الشيعية. ولتمكنه من الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأصوات، يعمل على إقناع…
— Samir Geagea (@DrSamirGeagea) October 23, 2024
ووفقًا للعاقوري فإن حزب القوات وغيره من المكونات السياسية اللبنانية، تتجهز لمرحلة ما بعد الحرب، “كي تكون مرحلة مفصلية في مشروع العبور إلى الدولة، في ظل عدم إمكان استمرار البلاد في حالة الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويختم العاقوري بالقول: “المرحلة القادمة سوف تكون مرحلة حاسمة، لأن هناك إصرارًا لدى عدة مكونات سياسية في لبنان، على الانتقال إلى بناء وطن قائم على تطبيق الدستور واتفاق الطائف”.