تشهد أروقة مجلس الشعب التابع لنظام الأسد تغييرات غير مسبوقة، أسفرت عن الإطاحة بشخصيات اقتصادية بارزة من عضويته، إلى جانب منح الإذن بملاحقة قضائية لبعض الأعضاء النافذين اقتصاديًا وميليشياويًا الذين فازوا في انتخابات يوليو/تموز الماضي، ضمن الدورة التشريعية الرابعة للمجلس المكوّن من 250 عضوًا.
ورغم اعتماد النظام على مراجعة دقيقة للملفات الأمنية للمرشحين، بما في ذلك العاملين في مؤسسات الدولة أو النافذين في المجال الاقتصادي والعسكري، فإن إسقاط العضوية جاء نتيجة مخالفة لأحد الشروط المنصوص عليها في دستور 2012.
وأثار هذا الإجراء تساؤلات حول أبعاده وتوقيته، خصوصًا في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة، مثل الحرب الإسرائيلية ضد “حزب الله” وإيران، ومحاولات الدول العربية تطبيع العلاقات مع النظام السوري.
إسقاط عضوية وجوه بارزة
قبل أسبوع، صوّت أعضاء مجلس الشعب بالأغلبية المطلقة على إسقاط عضوية رجل الأعمال المقرب من نظام الأسد، محمد حمشو، بسبب حمله جنسية ثانية إلى جانب الجنسية السورية، وذلك خلال الجلسة السادسة من الدورة العادية الأولى المخصصة لمناقشة البيان الوزاري.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يُسقط فيها المجلس عضوية شخصيات بارزة مرتبطة بالنظام السوري. فقد سبق أن تم إسقاط عضوية شادي دبسي، وهو أيضًا رجل أعمال، بسبب حمله جنسية بلد آخر.
في أواخر يوليو/تموز الماضي، أصدر نظام الأسد مرسومًا بأسماء الفائزين في انتخابات مجلس الشعب للدورة التشريعية الرابعة، حيث كان دبسي قد فاز عن دائرة حلب، فيما فاز حمشو ضمن قائمة شام في دائرة دمشق.
وكشفت صحيفة “الوطن” الموالية للنظام أن كلاً من حمشو ودبسي يحملان الجنسية التركية إلى جانب الجنسية السورية، وهو ما أدى إلى إسقاط عضويتهما، ولم توضح الصحيفة تاريخ حصولهما على الجنسية التركية، على الرغم من أن حمشو كان عضوًا في مجلس الشعب منذ عام 2012، بينما انتُخب دبسي خلال الدورة التشريعية الثالثة في عام 2020.
بناءً على المادة 152 من الدستور الصادر في 2، فإنه “لا يجوز لمن يحمل جنسية أخرى، إضافة للجنسية العربية السورية، أن يتولى مناصب رئيس الجمهورية أو نائبه أو رئيس مجلس الوزراء أو نوابه أو الوزراء أو عضوية مجلس الشعب أو عضوية المحكمة الدستورية العليا”.
وفاز حمشو بعضوية مجلس الشعب عن قائمة شام التي تضم رجال أعمال سوريين مرتبطين به وبالدائرة الاقتصادية المقربة من نظام الأسد خلال الانتخابات التشريعية للدور الرابع، كما فاز بعضوية الدورين التشريعيين الأول والثاني 2012 و2016، لكنه انسحب من انتخابات الدور الثالث عام 2020 بسبب خلافات ترتبط مع الأمين القطري، هلال الهلال.
ويرأس حمشو “مجلس الأعمال السوري – الصيني” و”مجلس المعادن والصهر”، إلى جانب عمله أمين سر في “غرفة تجارة دمشق” و”اتحاد غرف التجارة السورية”، فضلًا عن رئاسته لـ”مجموعة حمشو الدولية” التي تعمل في مجال المقاولات والتعهدات السكنية والحكومية، ولها أكثر من 20 شركة فرعية، وتعد من الشركات المملوكة له.
حمشو مدرج على قائمة العقوبات الأمريكية منذ 2011 كما أدرجت شقيقته سيدة الأعمال سمية حمشو التي تحمل الجنسية القطرية، وعدد من أفراد عائلته، تنفيذًا لقانون “قيصر” منتصف يونيو/حزيران 2020، بسبب ارتباطهم بالفريق الاقتصادي لزوجة بشار الأسد، أسماء الأخرس، وقربه من شقيقه، ماهر الأسد.
كما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على حمشو في 2011 بسبب دعمه لنظام الأسد، فاعترض عليها ما أدى إلى رفعها بشكل مؤقت خلال عام 2014، لتعود مجددًا في عام 2015.
ملاحقات قضائية
لم تمض ساعات على إسقاط عضوية حمشو، ليوافق مجلس الشعب على طلب منح إذن الملاحقة القضائية بتصويت الأغلبية، وفق كتاب مقدم من وزير العدل، أحمد السيد، بحق العضوين في مجلس الشعب خالد الزبيدي ومجاهد إسماعيل، حسب ما نشرت صحيفة الوطن الموالية على موقع فيسبوك، دون توضيح أسباب إذن الملاحقة القضائية بحق العضوين.
ويشغل خالد الزبيدي رئيس مجلس الأعمال السوري-الجزائري الذي تأسس في منتصف عام 2022، بعد تطبيع العلاقات الجزائرية مع نظام الأسد، بهدف تفعيل النشاط الاستثماري التجاري والصناعي والزراعي، إلا أن المجلس كان دوره في سياق تعويم النظام أكثر من نشاطه الاقتصادي.
ويملك الزبيدي “شركة زبيدي للتطوير” التي تأسست عام 2017، ويدير شركتي “إنجاز للاستثمار”، و”عقار للاستثمار” التي تأسست عام 2018، كما أنه مدير عام لـ”شركة زبيدي والطويل للمقاولات”، ويشغل منصب مدير عام وشريك مؤسس في “شركة إبداع للاستثمارات”، وشريك مؤسس في “شركة زبيدي وقلعي”، وكذلك شريك مؤسس في “شركة عقاركم للتطوير والاستثمار العقاري”.
شكل قرب الزبيدي من رجل الأعمال، نادر قلعي، شريك واجهة نظام الأسد الاقتصادية سابقًا، رامي مخلوف، بوابة لدخول الساحة السورية الاقتصادية الداعمة لنظام الأسد، خاصةً بعد تحييد مخلوف عن المشهد ووفاة قلعي، ليتحول الزبيدي إلى واجهة النظام الاقتصادية في مجالي السياحة والعقارات.
بدأ نجم الزبيدي المنحدر من محافظة ريف دمشق يلمع خلال عام 2018 تحديدًا، بعدما شرع في تنفيذ مشروع “غراند تاون” السياحي بمحيط مدينة المعارض وقصر المؤتمرات على طريق مطار دمشق الدولي.
في يناير/كانون الثاني 2019 أدرج الزبيدي على قائمة العقوبات الأوروبية بسبب مشاركته في صفقات إعادة الإعمار، بينما في يونيو/حزيران 2020 أدرج على قائمة عقوبات قيصر، بسبب مشاركته إلى جانب النظام في التغيير العمراني للأبنية والأراضي التي صادرها من أصحابها المهجرين بعد حملات التهجير ضد السوريين في أرياف دمشق، حسب ما أورد بيان وزارة الخزانة الأمريكية.
أما مجاهد إسماعيل الملقب بـ”أبي حافظ”، والملاحق قضائيًا، فقد عين قبل أسبوعين تقريبًا، من قبل القيادة المركزية لحزب البعث، قائدًا لما يسمى بكتائب البعث (قوات رديفة تقاتل إلى جانب قوات نظام الأسد) إلى جانب عضويته الدائمة في اللجنة المركزية للحزب الحاكم، وكان قبل فوزه في انتخابات العضوية نائبًا لقائد “كتائب البعث” وقائدها في منطقة ريف دمشق.
ينحدر إسماعيل من عائلة معروفة في منطقة القرداحة الواقعة في محافظة اللاذقية، بسبب والده العقيد فؤاد ماجد إسماعيل الذي كان يشغل منصب قائد اللواء الميكانيكي 21، والذي لعب دورًا بارزًا في قمع احتجاجات الثمانينيات إلى جانب الأسد الأب، فضلًا عن روابط العلاقة العائلية مع عائلة الأسد الحاكمة.
وأدرج مجاهد على قائمة العقوبات الأمريكية بسبب الانتهاكات بحق السوريين ومشاركته في قمع التظاهرات والاحتجاجات السلمية المناهضة لنظام الأسد خلال عام 2011، بينما اشتهر قبلها باختطاف وابتزاز مادي بحق التجار السوريين، مستغلًا سلطته التي حصل عليها من والده.
رسائل دولية للخروج من العباءة الإيرانية
شكل اتخاذ مجلس الشعب قرار إسقاط العضوية عن شخصيات بارزة وداعمة لنظام الأسد جدلًا واسعًا، لا سيما أن أجهزة النظام تستنفد كل طاقاتها لتقديم دراسات أمنية شاملة بحق المرشحين لعضوية المجلس، كما هو الحال في مختلف مؤسسات ودوائر الدولة.
وكشفت تقارير إعلامية عن عمليات تزوير ضخمة جرت خلال الاقتراع ضمن انتخابات الدورة التشريعية لعام 2024، كانت معظمها لصالح رجل الأعمال محمد حمشو، بعدما أظهرت النتائج فوز كل مرشحي مجموعة شام بينما لم يفز سوى مرشح واحد من قوائم دمشق، قبنض، المستقبل، الياسمين بحسب صحيفة “الشرق الأوسط”.
وكان التزوير بإشراف شخصيات مقربة من إيران، ما يعني أن هناك دفعًا مباشرًا من إيران إلى فوز رجالاتها بعضوية مجلس الشعب، لا سيما أن حمشو يرتبط بعلاقة وطيدة مع إيران، من خلال صلات اقتصادية، إلى جانب دعمه لميليشيا تقاتل إلى جانب نظام الأسد والميليشيات الإيرانية، إضافةً إلى حضور دعمه الإغاثي والاقتصادي لسكان أحياء شيعية في دمشق مثل السيدة زينب، وبلدتي نبل والزهراء شمال حلب، وكفريا والفوعة التابعتين لإدلب.
ويرى الباحث في مركز الحوار السوري، أحمد قربي، أن مجلس الشعب واجهة صورية لا أكثر، ودوره يكمن في خدمة السلطة الأمنية والعسكرية وليس الشعب، وأي تغيير ضمن أعضاء المجلس، يعتبر تغييرًا في الشكل والديكور بما يتماشى مع المرحلة دون الاقتراب من بنية سلطة الأسد الأساسية.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “نظام الأسد يسعى لإزالة شخصيات مقربة أو متعاونة مع إيران بما يناسب المرحلة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وسوريا بالتحديد، لا سيما الاستهداف الإسرائيلي لرجالات إيران”.
وأضاف: “هذه السياسة تشكل خطوة للسير نحو المطالب العربية في سياق إبعاد الشخصيات المقربة من حليفه الإيراني عن مراكز صنع القرار في نظامه رغم دورها الشكلي”، مشيرًا إلى أنها استجابة للضغوط العربية التي تهدف إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، ما قد يسمح بتمرير شخصيات أو واجهات اقتصادية جديدة تكون مقربة من البلدان العربية التي تسعى لاستعادة النظام من حضن إيران.
وكان نظام الأسد قد بدأ سلسلة من التحركات الداخلية منها عسكرية وأمنية وإدارية، فقد أصدر قرارات في إطار إعادة هيكلة مؤسسته العسكرية، نصت على التسريح والعفو عن الفرار الداخلي والخارجي، وصولًا إلى إنهاء الاحتفاظ لمن أتموا الخمس سنوات خدمة التي يبدأ تنفيذها مطلع نوفمبر/تشرين الثاني القادم. بينما على الجانب الآخر أعلن فتح باب التطوع وقدم حوافز مالية مغرية للمتطوعين.
ويرى الباحث في مركز الشرق للسياسات، سعد الشارع، أن نظام الأسد يدرك العامل الجغرافي لسوريا لأن التحالفات التي شهدتها المنطقة أوقعته ضمن دائرة الحرب الإسرائيلية الإيرانية، واحتمالية التأثر بارتداداتها في حال توسعت المعركة وارد جدًا، لذلك يحاول تغيير جزء من سياسته التي كان يظهر بها سابقًا أمام المجتمع الدولي.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست: “نظام الأسد يسعى إلى استمالة عدة أطراف، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، حيث يفرضان عقوبات على الشخصيات التي أسقطت عنها عضوية مجلس الشعب وأخرى لوحقت قضائيًا، ما يعني أنها محاولة لتبديل الواجهات الاقتصادية”.
وأضاف: “الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي يتابعان الشخصيات الداعمة لنظام الأسد اقتصاديًا، فضلًا عن رصد محاولاتها في الالتفاف على قانون العقوبات المفروضة عليها، وكشف ارتباطاتها بالدورة الاقتصادية الإيرانية في المنطقة وارتكاب بعضها جرائم ضد الإنسانية، وهذا ما يدركه النظام فعليًا”.
وتابع أن الشخصيات التي أسقطت عنها العضوية انتهى دورها فعليًا، إذ لا يمكن أن تسير إلى جانب نظام الأسد للأبد، كما أنه استفاد منها خلال فترة معينة، لكن عندما أصبحت عبئًا عليه بدأ يسقطها واحدة تلو الأخرى، في سياق تنظيف داخلي ربما يطال شخصيات مقربة ومن صلبه، بهدف المحافظة على بشار الأسد، والدائرة الصغيرة المحيطة به، ومن الممكن أن يقدم قرابين جدد كان لها دور فاعل في استمراره سلطته.
ورغم عدم فاعلية مجلس الشعب في تنفيذ القرارات التشريعية بما يتماشى مع تطلعات الشعب بسبب سيطرة نظام الأسد عليه بالكامل، فإن التحركات تكشف مساعيه الحثيثة للحفاظ على سلطته في ظل ما تشهده المنطقة من حرب إسرائيلية ضد إيران و”حزب الله” في الجنوب اللبناني، وما يسعى إليه العرب في إطار إعادة تطبيع العلاقات، وعلى رأسها سحبه من حضن حليفه الإيراني، وهذا ما يضع الأسد أمام خيارات معقدة.