في 26 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1994 كانت منطقة وادي عربة جنوب الأردن تعج بالوفود الرسمية الدولية استعدادًا لحضور حفل توقيع رسمي لمعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية التي عُرفت لاحقًا باسم اتفاقية “وادي عربة”، ليبدأ الشرق الأوسط بعدها مرحلةً أخرى في علاقته مع الاحتلال الإسرائيلي، بانقلاب مثلث الأقطاب الأعداء للحلفاء الشركاء، وليصبح الأردن الطرف العربي الثالث بعد مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية الذي يوقع معاهدة سلام، تُنهي حالة الحرب والصراع مع “إسرائيل”.
خلال حفل التوقيع ترددت مصطلحات “نهاية عصر الحروب” و”حان الوقت من أجل السلام” و”سلام الشجعان” على شاكلة سلام عرفات ورابين، والازدهار الاقتصادي والتجاري والسياحة المفتوحة على غرار سلام السادات وبيغن.
لكن بعيدًا عن الشعارات، كانت المعاهدة التي صمدت حتى اليوم، ببنودها التي خرجت إلى النور لاحقًا وبشكلٍ مخفف وموارب خشية من اضطرابٍ شعبي في غير وقته، تعبيرًا حقيقيًا عن تنافسٍ بين الزعماء العرب في الظهور بمظهر “اليد اليمنى” للولايات المتحدة الأمريكية، والخوف من التجاهل والاستبعاد من “لعبتها الكبرى” المتواصلة منذ عقود.
وبطبيعة الحال، فإن “اليد اليُمنى” لم تكن بالضرورة يُمنى مع شعوبها، وإنما كانت يُمنى للولاية الأمريكية الواحدة والخمسون في الشرق الأوسط، ولأمنها القومي واستقرارها الاقتصادي وتفوقها الذي بدأ مع لحظة التفاوض الأولى حتى البنود النهائية.
في السطور التالية نستعرض بنود اتفاقية وادي عربة، وموقعها السياسي والأمني والاقتصادي بعد 30 عامًا بالنسبة لواقع الأردن الحالي، ولمسار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومن ثم لبنان، ومآلات توسعها عسكريًا وجغرافيًا وسياسيًا.
السلام المتدحرج
لا يمكن النظر لاتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية كوحدةٍ منفصلةٍ عن محيطها وما أحاطه من ملابسات وحروب وصراعات عربية-عربية، وعربية-إسرائيلية أمريكية، وفلسطينية-إسرائيلية، وأردنية-فلسطينية، فالمستوى السياسي الأردني يحاجج مرارًا وتكرارًا أنه ليس البادئ في مد اليد للعدو، فقد سبقته مصر في خروجها من الحظيرة العربية.
كما أنه لم يكن الأكثر هوجائية وتسرعًا وانبطاحًا، فقد فاقته منظمة التحرير بذلك أشواطًا ضوئية، لكنه قدم نفسه باعتباره يتبنى الخيار الأسلم لمصالح شعبه واستقرار أمنه، وهو ما عبرت عنه الصحف الأردنية بشكلٍ شامل قبيل وخلال وبعد توقيع الاتفاقية، بالقول “إنها بداية فجر جديد ستنتهي بشروقه الحرب الطويلة المرهقة، ويبدأ الازدهار الاقتصادي والسياسي”.
في ظل هذه الموجة كان المستوى الرسمي الأردني ضمن أنه خرج بأقل الخسائر بعد توقيعه الاتفاقية، فلم يتم استثنائه من “اللعبة الكبرى في الشرق الأوسط” والتي كانت تتضمن موجة سلامٍ عربي مع “إسرائيل” يكون فيها آخر من يحضر هو الخاسر الأكبر.
وعاد إلى المستوى العربي بحزمة مساعدات اقتصادية أمريكية ضخمة نأت به عن الحاجة إلى أمراء النفط، بعد عزلٍ خليجي صارم إثر مساندته لصدام حسين في غزوه للعراق، وأعادت له الكثير من ماء وجهه بعدما سحب منه ياسر عرفات دوره في المفاوضات الأردنية الفلسطينية في مدريد بتوقيعه اتفاق أوسلو، كما ضمن مكانته في القدس الشرقية ووصايته التي لطالما حاول الأخير التلميح بسحبها منه.
وهكذا، بدت معاهدة وادي عربة حتى على المستوى الشعبي نوعًا من الإنقاذ وعودة إلى الضوء، ونأيًا عن التنازل وهو ما عبر عنه مستشار الملك حسين، بالقول: “نحن لا نفاوض عن القدس، بل عن عمان”، وعلى وقع ذلك تم إقرار المعاهدة والاحتفاء بها رسميًا.
وخلال أسابيع كانت الاتفاقية متاحة للاطلاع والتفحص، بنصوصها الأصلية التي نشرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية كاملة، ويلاحظ المتفحص لبنود الاتفاقية احتمالها لعناصر عدة، فهي شاملةٌ جدًا “وفق النظرة الإسرائيلية” تستقرء المستقبل تمامًا كما تدفع التاريخ تحت البساط لإخفائه، ولا تترك مجالًا للعثرات أو حتى التراجع، فإما التفاوض وإما التحكيم، ينطبق ذلك على قضايا “الحدود الدولية” و”المياه” و”النقل والمواصلات” و”التعاون البيئي” و”الأماكن والموارد الأثرية والثقافية”.
ولكل بندٍ فيها شروطه ومعاييره التي تتيح تحقيق المنفعة المتبادلة، دون أن تمس بمبدأ “الكرامة” للطرفين، وهو ما أشارت إليه الديباجة بالقول إن الاتفاقية “تتخطى الحواجز النفسية وتعزز الكرامة الإنسانية” لأطرافها.
في عناصر الاتفاقية التشابه الكبير مع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية “كامب ديفيد“، ويُلاحظ أن هذا التشابه لا يمكن أن ينطبق على اتفاقية السلام الفلسطينية الإسرائيلية “أوسلو”، حيث تُظهر الصياغة في وادي عربة وكامب ديفيد حالة من التوازن والتوازي بين الطرفين (دولة مقابل دولة ورئيس حكومة مقابل رئيس حكومة).
يعبر عن ذلك استخدام المصطلحات: “تنمية علاقات صداقة وتعاون بحسب مبادئ القانون الدولي” و”العلاقات الدولية” و”سيادة كل دولة في المنطقة وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسي” و”الحدود الدولية، المياه الإقليمية، المجال الجوي”، وغيرها من المصطلحات.
على العكس من اتفاقية أوسلو التي لا ترقى صياغتها للمستوى نفسه، ولا تُظهر بنودها أكثر من تراجع مجموعةٍ متمردة عن عصيانها سلطةٍ حكومية نافذة، وبمجرد الاطلاع على صياغة البنود الأساسية يمكن التأكد من ذلك، فـ”إعادة الانتشار والترتيبات الأمنية، والشؤون القانونية والمدنية، والانتخابات، والإفراج عن السجناء والموقوفين” جميعها لا تصلح لأن تكون جزءًا من اتفاقية سلام بين دولة ودولة بالصياغة والطرح الموجود.
ويمكن تفسير ذلك باعتبار اتفاقية وادي عربة امتدادًا لاتفاقية كامب ديفيد المصرية، بل إن نصوص كامب ديفيد أكدت أن أي اتفاقية سلام في المنطقة بين “إسرائيل وجيرانها العرب” ستنطلق من الأسس نفسها، ففي ديباجة كامب ديفيد تم الإشارة إلى أن “إطار الاتفاقية لا يُقصد به أن يكون أساسًا للسلام ليس بين مصر وإسرائيل فحسب، بل أيضًا بين إسرائيل وأي من جيرانها العرب – كل فيما يخصه – ممن يكون على استعداد للتفاوض من أجل السلام معها على هذا الأساس”.
وفي واقع الحال، يمكن النظر لاتفاقية وادي عربة باعتبارها نموذجًا أوليًا مُحدثًا عن كامب ديفيد، أو فقرةً في دحرجة “السلام” مع العدو والذي وصل لاتفاقيات أبراهام 2020 مع كلٍ من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وهو صحيحٌ في بعض الجوانب وخاطئ في الجوانب الأخرى، فاتفاقيتا مصر والأردن هما “اتفاقيات سلام” وإعلان بانتهاء حالة العداء وتأسيس للتعاون والصداقة، المحكومة بالحدود والجغرافيا المشتركة وتاريخ مع الحروب العسكرية المتبادلة.
أما الاتفاقيات الإبراهيمية، فهي اتفاقيات تطبيع ونقل الحالة الدبلوماسية من القطيعة إلى القبول والترحاب والتعايش، وتحقيق اختراق في العلاقات من المستويات الرسمية إلى المستويات الشعبية والثقافية والأكاديمية وغيرها.
على مستوى البنود، فخلال الـ30 عامًا كان للأردنيين قدرة تفحص التزامهم الدقيق بالاتفاقية على العكس من الجانب الآخر الذي ما فتأ ينتقص من بنودها ويخل من سلامتها، ففي بند الحدود الذي افتُتح بتنازل أساسي بالتخلي عن مجرد التفاوض على إعادة بلدة أم الرشراش على خليج عقبة التي احتُلت بعد هدنة عام 1948، والتي أصبحت اليوم ميناء إيلات. وهو ما يعتبر تنازلًا عن أراضٍ وطنية ومياه إقليمية وعن المنفذ البحري الوحيد للبلاد والذي أصبح امتداده الجغرافي صفر، إضافةً للتنازل عن الاتصال الجغرافي الوحيد مع مصر، ينطبق ذلك على الباقورة والغمر اللتين تم التنازل عنهما تحت مسمى “الاستئجار”، ودون التأكد من المزاعم الإسرائيلية بالتملك فيهما – تمت استعادتهما عام 2019 -.
وفي بند المياه، تنازل الأردن للجانب الإسرائيلي على كل حقوقه المائية في المصادر المائية الشمالية للمياه العذبة من منابع نهر الأردن حتى بحيرة طبريا، ما يُقدر بـ100 مليون متر مكعب، كما ترك أيضًا من حصته 5 ملايين متر مكعب لري المزروعات الإسرائيلية في الباقورة والغمر، باعتبارهما أراضي له لكن بتأجير إسرائيلي.
ولم يحصل في المقابل سوى على حقوق بتحلية المياه جنوب طبريا والتي تُعتبر غنية بالترسبات والأملاح على العكس من المياه الشمالية العذبة، فيما تنازل للإسرائيليين عن 25 مليون متر مكعب من مياه نهر اليرموك، رغم أنه حدٌ مائي يربط بين الأردن وسوريا وفي الحدود الانتدابية لا اتصال له بفلسطين.
أما في بند اللاجئين، الذين تتزايد أعدادهم لتشكل أغلبية في بعض المدن الأردنية، وأقلية لا يمكن الاستهانة بها في مدن أخرى، فقد نقل الأردن من خلال المعاهدة حقه في المساهمة بإقرار حق اللاجئين في العودة والتعويض والملكية من خلال البند الثامن، معتبرًا إياها مجرد نتاج للنزاع في الشرق الأوسط ذي الطابع الإنساني، مع احتفاظه بمقعدٍ استشاري في النقاش فقط.
بل وترك خيارات التباحث والحل فيها للجنة الرباعية، ولمصر ومنظمة التحرير والمجموعة الدولية المتعددة الأطراف، مع التزامه بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين والنازحين “بما في ذلك المساعدة في توطينهم”.
ويبدو أن الاتجاه الأردني قد اعتمد على الموقف الفلسطيني الذي رحّل مسألة اللاجئين للمراحل النهائية من أوسلو، لكنه دفع الثمن الأكبر من هذه الخطوة، لا سيما أن الاتفاقية لا تتطرق إلى حق العودة أو التعويض، ولم تقدم للأردن أي دعم اقتصادي أو سياسي نتيجة استقباله للعدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، مع ما يترتب على ذلك من عبء اقتصادي يدفع الأردن ثمنه بشكلٍ متزايد في العقدين الأخيرين.
حتى في البنود الأخرى التي نظمت القضايا الموازية مثل العلاقات الاقتصادية، وأوجه التبادل الثقافي والعلمي، ومكافحة الجريمة، والنقل والطرق، والطيران المدني وحرية الوصول إلى الموانئ والسياحة والبيئة، دفع الأردن فيها ثمنًا كبيرًا للسياسات الإسرائيلية التي تجاهلت الاتفاقية وأسس التعايش و “الصداقة وحُسن الجوار”.
فمن مطار رامون الذي افتتحته السلطات الإسرائيلية مخترقًا بذلك المجال الأمني والجوي لمطار العقبة ومحيطه، في انتهاك لاتفاقية عربة ومواثيق الطيران الدولية، إلى اتفاقيات المياه التي تسببت في انخفاض حصة الأردن وارتهانه للمياه الإسرائيلية التي ثبتت رداءة نوعيتها، وحتى صفقات الغاز التي رهنت الصناعة الأردنية بالغاز الإسرائيلي.
مرورًا بالمنتجات الإسرائيلية الزراعية والتجارية الملوثة، وتحويل مسار المياه العادمة من طبريا إلى مدن أردنية، وانتهاك السيادة المتكرر في الأغوار وعلى الحدود السورية المشتركة، وللوصاية الأردنية على القدس والتي ترنحت تحت وطأة صفقة السلام الإبراهيمي ومساعي التطبيع مع السعودية، وللجرائم الإسرائيلية بحق مواطنين أردنيين بدءًا من مشعل مرورًا بالقاضي زعيتر وحتى اعتداء حارس السفارة الإسرائيلية على مواطنين أردنيين وقتلهم، والاحتفاء الإسرائيلي المستفز به.
أمام كل بندٍ من البنود، هناك اختراقٌ إسرائيلي يعرفه الأردنيون جيدًا، وتدركه حتى منظومتهم السياسية التي تنأى بنفسها عن السياسة الإسرائيلية المتطرفة، لكنها في الوقت ذاته أهدرت معظم أوراق قوتها بدءًا من إنهاء جميع التدريبات الدفاعية وأنظمة مكافحة التجسس والعمالة الإسرائيلية وإلغاء نظام خدمة العدو، مرورًا بإغلاق مكتب حماس في الأردن وطرد ممثليها، وقطع العلاقات معها (وهي ورقة قوة يستخدمها القطريون اليوم).
وانتهاءً بترك الاقتصاد الأردني حبيسًا بأغلال إسرائيلية، ممثلًا بالموانئ والمعابر والمطارات التي أقرت الاتفاقية حرية اعتبارها منفذًا عاديًا للآخر، وسمحت بنقل البضائع والسفن والمنتجات عبر الممرات المائية الدولية والموانئ والمعابر البرية والملاحة الجوية.
وبأكثر من 3 آلاف عامل أردني، يدخلون يوميًا عبر معبر رابين الحدودي الجنوبي شمال مدينة إيلات للعمل في البناء والرعاية الصحية والزراعة وخدمات التنظيف في الفنادق والمنشآت السياحية، عبر شركات توظيف أردنية وإسرائيلية تقدم للاقتصاد الإسرائيلي خدمة سد النقص في العمالة لديه، بينما يعانون من انخفاض الأجور وغياب الحماية القانونية والتمييز وصعوبة الحصول على السكن والنقل.
30 عامًا وما زال التدحرج قائمًا
يسترجع الكاتب الأردني ناهض حتر ذكرياته عن ضُحى يوم التوقيع، وعن حجم المعارضة الأردنية ومداها في ذلك اليوم بالقول: “كنا بضعة وثلاثين لا غير، يساريين وقوميين وإسلاميين، في باحة المسجد الحسيني الكبير وسط عمان.. لم ينضم إلينا أحد من خارج صفوفنا، أقصد من الشعب.. أما الحقيقة المرة التي كنا نعرفها ونشيح عنها، فهي أن ذلك الجمهور كان، في أغلبيته الكبرى، يؤيّد المعاهدة”.
الحقيقة أن هذه المعارضة الشجاعة كانت أيضًا تعبيرًا عن وهمٍ عربي وأردني وفلسطيني كبير، يتجاوز المستويات الرسمية إلى الشعبية، بإمكانية تحقيق السلام وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب الأردن، وتحقيق الازدهار الاقتصادي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وممارسة الوصاية الأردنية بأريحية مطلقة على الحرم المقدسي الشريف.
لكن هذا الوهم لم يطل، فبعد اغتيال رابين وتصدر بنيامين نتنياهو وجه السياسة الإسرائيلية، ومجازره في قانا ومحاولة اغتيال خالد مشعل، كان قد تسرب القليل من الوعي إلى ذهنية المواطن الأردنية بصعوبة الحصول على السلام الكامل والشامل مع الإسرائيليين، وعاد للأردنيين بوصلتهم الأولى التي تزايدت مع كل انتهاكٍ إسرائيلي للروح والأرض الفلسطينية.
وفيما كان المسجد الحسيني في وسط البلد بوصلتهم، أصبحت السفارة الإسرائيلية في قلب العاصمة الأردنية عمان وجهتهم، يحيطونها بغضبهم ومطالبهم بسحب السفير الإسرائيلي، وإلغاء المعاهدة، وقطع العلاقات، مدفوعين بالانتصار للحق في الأرض والمقاومة، أو الحق في المياه النظيفة، أو الأراضي الأردنية الصميمة (الباقورة والغمر)، أو الأسرى الأردنيين في السجون الإسرائيلية، أو غيرها من القضايا التي تجمع الأردنيين ولا تفرقهم.
وحتى على الصعيد الرسمي فإن العلاقة الأردنية الإسرائيلية لم تعد يومًا إلى ما كانت عليه ضُحى عام 1994، بل إنها اتسمت بالتدهور المستمر لا سيما مع انخراط نتنياهو بقضية الفتنة التي كادت تُطيح باستقرار الأردن وأمنه السياسي، ومساعيه لضم الضفة الغربية والأغوار، ما يترك حدود الأردن مشرعةً بالكامل أمام مخططات التوسع الإسرائيلية.
وأخيرًا إعاقته زيارة ولي العهد الأردني الأمير الحسين إلى المسجد الأقصى المبارك مطلع عام 2021 للصلاة فيه في ذكرى الإسراء والمعراج، ما اُعتبر مسًّا بالوصاية الأردنية على الحرم المقدسي، وبحرية الدخول العربي الإسلامي له، لا سيما أن الاحتلال اشترط عددًا محددًا من المرافقين، ما دفع موكب الأمير للعودة من جسر الملك حسين وإلغاء الزيارة.
في الحقيقة ورغم حساسية الوضع وتطرف الخيارات المطروحة شعبيًا في ظل ازدياد حالة الارتهان الأردني بالجانب الإسرائيلي في ملفات حيوية مثل الغاز والطاقة والمياه، وما يتم الاحتشاد حوله من دعوات لإنهائها يبدو حتى اللحظة أنها لا تتجاوز حدود الشارع وأن حسابات القمة تختلف عن حسابات الميدان.
فرغم الخطاب الرسمي الحاد تجاه الاحتلال وحرب الإبادة المتواصلة في غزة، فإن النظام الأردني ما زال يتعامل مع الجانب الإسرائيلي بالكثير من الحرص والحذر والمشي على الحبال، فهو يرفع نغمة التصريحات لكنه يواصل دعم الاحتلال من خلال الممر البري (الأردني-الخليجي)، واستمرار دخول العمال، واستخدام الموانئ الأردنية للتخزين والتوزيع، كما يواصل دوره في تصدير الغاز الإسرائيلي إلى الدول المجاورة.
وأمام كل تمردٍ للفعل المقاوم يُسارع النظام لتفعيل أدوات القمع بالاعتقال والمحاكمة وحصار الحراك الشعبي وتحديد سقفٍ لتحركاته، ورفع الخطاب المطالب بتجنيب الأردن كلفة المواجهة ومؤونة عدم الاستقرار، محاولًا النأي بنفسه عن دعم الفلسطينيين تمامًا كما ينأى بنفسه عن الصواريخ الإيرانية.
جغرافيا المنتصف: معضلة الأردن ما بين الصواريخ الإيرانية والحرب الإسرائيلية
ولا تُطرح على الطاولة مستوياتٌ من النقاش ما بين الرسمي والشعبي، فالأول يواصل الانحناء حتى تمر موجة الإبادة لعله يكون الناجي الآخير دون إدراكٍ منه أنه قد يكون التالي على سُلم الاستهداف، أما الثاني فيُطالب بإلغاءٍ كاملٍ للمعاهدة من دون طرح إمكانية تعديل بنودها أو تعطيل بعضٍ منها أو التدرج السلس، غير مدركٍ لتبعات ما يتم طرحه.
والواقع أن حال الأردن اليوم ليس هو الحال نفسه نهاية 1993، فاليوم يحتكم الأردن لسلسلة واسعة من الاتفاقيات ومعاهدات الدفاع العسكري المشترك تحت المظلة الأمريكية التي تتصل ضمنًا بالجانب الإسرائيلي، وعلى أراضية 11 قاعدة أمريكية وأكثر من 3000 جندي أمريكي.
والاعتماد الأردني على المساعدات الأمريكية يتجاوز الحدود المعقولة، فما بين الأعوام 2016-2020 بلغت قيمة المساعدات 6.5 مليار دولار، ومؤخرًا تم توقيع مذكرة تفاهم تُقدم فيها الولايات المتحدة مساعدات مالية سنوية بقيمة 1.45 مليار دولار حتى عام 2029.
كما لا تنحصر المساعدات في الجانب العسكري فقط، بل تشمل التعليم ومنها بناء أكثر من 28 مدرسة وتوسيع 120 أخرى لخدمة أكثر من 200 ألف طالب، وتوظيف ما يقرب من 10% من معلمي الأردن، وفي الجانب الصحفي تحديث أكثر من 349 عيادة وقسم حكومي.
وإصلاح البنى التحتية المزودة للمياه لأكثر من مليوني نسمة، وتقليل فاقد المياه وزيادة أثر مياه الديسي الجوفية وتمكين ضخ 100 مليون متر مكعب إضافية من المياه إلى عمان وشمال الأردن، وتقديم 75 مليار دولار كضمان للقروض، وتأسيس أكثر من 432 مشروعًا صغيرًا و750 مشروعًا منزليًا للسيدات، وتأسيس ما يزيد على الـ5 آلاف فرصة عمل.
هذا الكم المهول من المساعدات ليس تعبيرًا عن الاهتمام الأمريكي المفرط باقتصاد الأردن أو مشروعات سيداته أو توفير بيئة تعليمية مناسبة لأطفاله، إنما هي الثمن لاتفاقية وادي عربة، وللاستمرار في التعاون العسكري والاستخباري بما يخدم وجود الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط والعالم، ولا يختلف بحالٍ من الأحوال عن كم المساعدات وتجاوز قضايا حقوق الإنسان الذي تمارسه الولايات المتحدة مع كلٍ من مصر والدول الخليجية.
أما على الصعيد السياسي، فحتى النظام الانتخابي والنيابي تغير إلى نظام الصوت الواحد الذي لا يتيح لأي كتلة الاستفراد بالتركيبة الحكومية، وفي المقابل يقلص مساحات المناورة والاستعراض السياسي أمامها.
وعلى الصعيد العربي، يدرك النظام الأردني أن إدارته الظهر للاتفاقية مع الاحتلال ستعيده وبأثرٍ رجعي إلى أمسيات 1993 حين كان يعاني من العزلة والتهميش الخليجي والعربي، لا سيما أن الأنظمة العربية اليوم متفقة دون استثناء على مواصلة دعم مصالح أمريكا وربيبتها في المنطقة، سواءً كان ذلك وفقًا لاتفاقيات مثل الإمارات والبحرين، أم دونها مثل قطر والسعودية.
الشاهد على ما سبق، أن المساعي الشعبية لا تكفي، وحتى في ظل زخمها الحالي فلا يمكن اعتبارها ضغطًا حقيقيًا، والدعوة لإلغاء المعاهدة قد لا يكون أفضل الطرق، فإن كان الخط المستقيم هو أقصر الطرق فلا يعني ذلك أنه أفضلها.
يتطلب الوضع الحالي من الأردن إعادة التشبث بنقاط القوة وهي موجودة، ومحاولة تخفيف الاعتماد على المحيط العربي والدعم الغربي دون الارتماء المنغمس فيه، وتوسيع قاعدة المطالبة الشعبية بتهميش البنود الشعبية من المعاهدة على أقل مستوى، مثل التجارة والاقتصاد والعمالة الأردنية والطريق البري، وحينها يمكن التحول لمناقشة الاتفاقية وطرح إمكانية حلها أو تعديلها.
أما دعوات الإطاحة بين يومٍ وليلة بمعاهدة أُسست على إثرها أنظمة وسياسات في المنطقة ودُعمت بمصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية وحكومية فهو هذرٌ لا طائل منه، لا سيما أن الجانب الإسرائيلي لا يخفي بأي حالٍ من الأحوال نظرته لأي تغيير سياسي على الضفة الشرقية واستعداده السريع للتدخل حينها.
في المحصلة، يدفع الأردنيون ثمن صمتهم، ويدفع الفلسطينيون ثمن صمتهم وسذاجتهم، وتدفع أمريكا و”إسرائيل” للحفاظ على نتائج الصمت والسذاجة، ولتجاوز ذلك يحتاج الطرفان لأكثر من لافتة ومظاهرة ومنشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، لتسقُط وادي عربة يجب أن تسقط أوسلو أولًا، هل يدرك أحدٌ منا ذلك؟