تحدثت مجلة فورين بوليسي الأمريكية عن تأثير توترات الأوضاع في أحدث دول العالم (جنوب السودان) على سياسات واحدة من أقدم دول العالم (الصين).
وقالت المجلة إن الصين التي ظلت لعقود طويلة ملتزمة في نهجها بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، قد غيرت وجهتها أخيرًا وبدت مستعدة للقيام بدور نشط وعلى نحو متزايد في الأزمة التي تعيشها جنوب السودان.
فالمبعوث الصيني لأفريقيا “تشونغ جيانهو” زار المنطقة في محاولة للمساعدة في صياغة حل للصراع في جنوب السودان، في تناقض واضح مع موقف بكين السابق من أزمة دارفور عندما لم تعلق على تصرفات الحكومة السودانية لأن الخرطوم كانت ملتزمة بإرسال النفط للصين، تشونغ قال إن تدخل الصين في جنوب السودان يمثل “فصلاً جديدا” في السياسة الخارجية لبكين، وفي وقت سابق هذا العام، عرض تشونغ أن يلعب دور الوساطة بين الفصائل المتحاربة في البلاد بهدف الحد من القتال.
وتقول المجلة نقلاً عن أستاذ في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية إن أزمة جنوب السودان مجرد اختبار للدبلوماسية الصينية التي تريد أن تدير المفاوضات وأن تكون قوات حفظ سلام وأن تحصل على دور عالمي أكبر.
بكين، بالفعل، كانت قد رفعت وبشكل حاد، من ماركتها في أنشطة حفظ السلام والجهود الدولية التابعة للأمم المتحدة، لكنها دومًا ما كانت تلعب في مساحات لوجستية بعيدة عن الخطوط الأمامية، لكن ولأول مرة أرسلت الصين قوات قتالية في مالي للمساعدة في تخفيف حدة التوتر في شمال البلاد إبان الحملة الفرنسية على الجهاديين هناك.
الوضع في جنوب السودان يختلف قليلاً، فالدافع وراء الرغبة الصينية للتدخل ينبع من حقيقة بسيطة: الصين تشتري 80٪ من صادرات النفط في جنوب السودان، والقتال الحالي في البلد الأفريقي أثر بشكل مباشر وحاد على صادرات النفط، فقد هبط معدل التصدير اليومي من 480 ألف برميل عام 2010 إلى حوالي 160 ألف برميل يوميًا اليوم.
وكجزء من الضغط على حكومة جنوب السودان، قام المتمردون بمخاطبة شركات النفط ومطالبتهم بالرحيل عن البلاد في استراتيجية تهدف لقطع شريان الحياة الاقتصادية الرئيسي لحكومة جنوب السودان.
لا يبدو أمام الصين خيارات كثيرة، فمحاولة وقف إطلاق النار انهارت خلال الأسبوع الماضي، وسيطر المتمردون على مدن رئيسية في المناطق المنتجة للنفط، وعلقت الصين في المنتصف بين “رياك مشار” قائد التمرد وبين “سيلفا كير” قائد جنوب السودان، فقد اختطفت قوات مشار عاملين صينيين الأسبوع الماضي، وأُمرت الشركات الصينية بمغادرة البلاد.
الأمريكيون قلقون أيضًا، فقد وصفت “سامنثا باور” سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة الوضع بأن “أحدث دول العالم تقف على حافة الهاوية”.
الصينيون أدانوا بشدة أعمال القتل التي قامت بها قوات مشار، ودعت الأطراف المعنية للحوار بهدف تحقيق المصالحة، كما طالبت الحكومة بتوفير حماية أفضل للشركات الصينية في البلاد.
لكن بكل الأحوال، لا تقلق أسواق النفط بشدة من انقطاع إنتاج جنوب السودان مثلما أصابهم الهلع أواخر العام الماضي عندما هدد المتمردون بمهاجمة حقول النفط لأول مرة، جزء من سبب الهدوء العالمي هو التوترات في أوكرانيا، التي تشكل ثقلاً أهم كثيرًا من جنوب السودان في مجال الطاقة العالمي، وأيضًا لأن جنوب السودان قد بدأت تخرج من معادلة النفط العالمية مع استقلالها عن الشمال عام 2011.
لقد انخفض الإنتاج حينها بمقدار النصف، حتى في الأوقات الهادئة نسبيًا، كما انخفضت الصادرات بسبب الخلافات بين جوبا والخرطوم، خاصة بشأن اقتصاد عائدات النفط، لأن الخط الوحيد للبحر يمضي شمالاً عبر السودان، وهو ما لا يمكن لجنوب السودان التي تعتمد في عائداتها على النفط بنسبة 97٪ أن تتحمله.
وعلى الرغم من أنها كميات قليلة للغاية بالنسبة للصينيين، إلا أن الصين اشترت ما يقرب من 260 ألف برميل يوميًا من جنوب السودان، مما وفر عليها قرابة 5٪ من احتياجها من الطاقة، كان ذلك في عام 2011، أما في آخر سنة مسجلة، 2012، فإن جنوب السودان صدرت قرابة 50 ألف برميل يوميًا، أو ما يوازي 1٪ من واردات الصين من النفط.
إن جنوب السودان – في حالة تصديرها بكامل قوتها – ستوفر للصين أكثر مما توفره الكويت أو العراق للولايات المتحدة، وهو ما يؤكد أهميتها على المدى الطويل بالنسبة لبكين.
هذا النوع من العلاقات شكل دومًا بوصلة السياسة الخارجية الصينية بدءًا من السودان ودعمها لنظام عمر البشير، ومرورًا بليبيا وميانمار وانتهاء بكوريا الشمالية التي تواجه حزمًا متوالية من العقوبات المفروضة من قبل الغرب، لكن الكثير من ذلك تغير مع الربيع العربي، والانتفاضة في ليبيا حين اضطرت الصين لإعادة النظر في دعمها لنظام القذافي، بل إن الصين أيدت عقوبات الأمم المتحدة على مسؤولين ليبيين من نظام معمر القذافي.
على كل حال، لا توجد مؤشرات كافية عن أن دبلوماسية الصين النشطة في جنوب السودان قد تكررت في دول أخرى، حيث حافظت بكين على كف يدها عن أزمات دول أخرى مثل سوريا أو أوكرانيا، وما زالت الرحلات الدبلوماسية الصينية مهتمة فقط بضمان تدفق موارد الطاقة، غير عابئة بسياسات الدول الداخلية.