بعد 25 يومًا من التوعد والتهديد، شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر اليوم السبت 26 أكتوبر/تشرين الأول 2024، سلسلة من الغارات الجوية ضد أهداف عسكرية إيرانية بمحافظات طهران وخوزستان وعيلام، وسط تباين في التصريحات بين طهران وتل أبيب حول ما أحدثته تلك الضربات من أضرار وخسائر، وذلك ردًا على الضربة الإيرانية الأخيرة التي استهدفت عاصمة الاحتلال في الأول من الشهر الجاري.
وبحسب ما أعلنه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، فإن الهجوم بدأ قبيل الساعة الثانية فجرًا على طهران، وتضمن 3 موجات متتالية من الضربات، استهدفت في المقام الأول نظام الدفاع الجوي لإيران، فيما نقلت مصادر أخرى أن 20 موقعًا على الأقل استهدفوا في تلك العملية التي قال جيش الاحتلال إنها حققت أهدافها وأن الطائرات التي نفذت الهجوم عادت إلى قواعدها بسلام.
وبالتزامن مع تلك الضربة شنت طائرات الاحتلال قصفًا جويًا بدفعات من الصواريخ ضد مواقع في الجولان السوري والعاصمة دمشق، كذلك في وسط وجنوب لبنان، وفي الوقت ذاته استهدف طيران المحتل مواقع عسكرية في محافظة صلاح الدين شمالي العراق، وفي البصرة وعلى الشريط الحدودي مع إيران، فيما أعلنت وزارة النقل العراقية إيقاف حركة الطيران في جميع المطارات حتى إشعار آخر.
ورغم ضبابية المشهد وعدم توافر المعلومات الكافية بشأن نتائج تلك الضربة، وسط مبالغات إسرائيلية وتحجيم إيراني، إلا أن المؤشرات الأولية ورد الفعل الإيراني يشيرات إلى أنها لم تكن على مستوى التهديد والوعيد الإسرائيلي، وأن هناك مسافة شاسعة بين تصريحات نتنياهو وغالانت بشأن الرد المتوقع ومستواه وحجمه وبين ما جرى بالفعل، الأمر الذي يشير إلى مقاربات وضغوط ربما رضخت لها حكومة الحرب الإسرائيلية والقيادة السياسية لضبط الرد والرد المضاد على البوصلة الأمريكية، تجنبًا لانزلاق المنطقة نحو حرب مفتوحة.
تفاصيل ما حدث.. تباين في التصريحات
كعادة مثل هذه النوعية من الضربات، تباينت التصريحات بين إيران و”إسرائيل” حول تأثيرها وما حققته من نتائج، فبحسب الرواية الإسرائيلية فإن العملية جاءت ردًا على سلسلة من الهجمات التي شنتها إيران ضد “إسرائيل” خلال الأشهر الأخيرة، وأنها تمت بناءً على توجيه استخباري، وأنها حققت أهدافها كاملة.
أما عن المواقع المستهدفة فأشار بيان المتحدث باسم جيش الاحتلال إلى أن العملية استهدفت مواقع إنتاج صواريخ إيرانية كانت قد أُطلقت نحو “إسرائيل” خلال العام الماضي، كذلك أنظمة صواريخ أرض-جو وقدرات جوية إيرانية تهدف إلى تقييد حرية العمل الجوي الإسرائيلي، وذلك من بين مجموعة واسعة من الأهداف من مختلف الأنواع كانت قد حددتها الاستخبارات الإسرائيلية، منوهًا إلى أن العملية تمت بعشرات الطائرات (100 طائرة بحسب صحيفة “معاريف” العبرية) بما “يدل على حرية العمل الجوية التي يتمتع بها سلاح الجو في إيران”.
وأضاف المتحدث: “يمكنني الآن تأكيد اكتمال الرد الإسرائيلي على الهجمات الإيرانية. نفذنا هجمات دقيقة ومركزة ضد أهداف عسكرية في إيران وأحبطنا تهديدات فورية على دولة إسرائيل”، لافتًا إلى أن الضربة حملت رسالة واضحة مفادها “كل من يهدد أمن إسرائيل ويسعى لتصعيد الأوضاع سيدفع ثمنًا باهظًا، نحن مستعدون للهجوم والدفاع لحماية دولة إسرائيل ومواطنيها”، بحسب البيان.
وعلى الجانب الإيراني، فأعلن مقر الدفاع الجوي الإيراني في بيان رسمي له أن “إسرائيل” هاجمت فجر السبت أجزاءً من المراكز العسكرية في محافظات طهران وخوزستان وإيلام، فيما نقلت عنه وكالة “تسنيم” الإيرانية للأنباء بأنه قد تصدى للهجوم الصاروخي ونجح في تلك المهمة التي ألحقت أضرارًا محدودة في بعض الأماكن، ويجري التحقيق في أبعاد هذه الحادثة.
وردًا على ما أثارته بعض وسائل الإعلام العبرية بشأن استهداف مراكز للحرس الثوري الإيراني، نفت وكالة تسنيم كل ما يتردد في هذا الشأن، لافتة إلى أنه حتى هذه اللحظة، لم يتم إصابة أو ضرب أي صواريخ على المراكز العسكرية للحرس الثوري في غرب وجنوب غرب طهران، فيما نقلت عن مصادر مطلعة قولها إن التقديرات الأولية تشير إلى أن العدوان في طهران وخوزستان وإيلام الليلة كان ضعيفًا.
وأرجعت الوكالة الإيرانية الأضرار التي وقعت بأنها بسبب الإجراءات الدفاعية والاستعدادات المتخذة التي قامت بها أنظمة الدفاع الجوية في تعاملها مع الهجوم الإسرائيلي، لافتة إلى أن الاعتداء تم من خارج حدود إيران، منوهة أن “ادعاء الجيش الإسرائيلي باستهداف 20 نقطة في إيران هو أمر غير واقعي ويدخل في إطار الحرب النفسية”.
وبعد قرابة 4 ساعات من الإعلان عن بدء الهجوم الإسرائيلي عادت الأمور إلى طبيعتها في شوارع طهران وخوزستان وعيلام والمناطق المحيطة بها، فيما أعلنت هيئة الطيران المدني الإيرانية عودة الرحلات الجوية من وإلى إيران بشكل طبيعي بعد توقفها لعدة ساعات، الأمر الذي يشير إلى انتهاء العملية بشكل رسمي.
كما فعلت طهران من قبل.. تل أبيب تُبلغ بالهجوم مسبقًا
كما فعلت طهران في ضربتيها السابقتين حين أبلغت الإسرائيليين عن طريق الولايات المتحدة بموعد الضربة والأهداف المحتملة لها، فعلت تل أبيب الموقف ذاته إزاء عملية فجر السبت، إذ نقل موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين قولهم إن “إسرائيل” أرسلت رسالة إلى إيران أمس الجمعة، أي قبل ساعات قليلة من الضربة، محذرة الإيرانيين من الرد، في محاولة للحد من تبادل الهجمات المستمر بين البلدين ومنع تصعيد أوسع، وفقًا للمصادر.
وكشفت المصادر بحسب الموقع الأمريكي أن “إسرائيل” أوصلت رسائل تفصيلية لطهران عن حجم ومستوى الضربة، وأنها عبارة عن 3 موجات من الغارات الجوية، الموجة الأولى تستهدف نظام الدفاع الجوي الإيراني، في حين تركز الموجتان الثانية والثالثة على قواعد الصواريخ والطائرات المسيرة ومواقع إنتاج الأسلحة، وهو ما منح الدفاع الإيراني الفرصة للتصدي لتلك الهجمات وإيقاع أضرار محدودة.
وكان وزير الخارجية الهولندي، كاسبر فيلدكامب، واحدًا من 3 قنوات حملت الرسالة الإسرائيلية لطهران، بحسب “أكسيوس”، حيث كتب على منصة “إكس” قبل ساعات من الهجوم الإسرائيلي “تحدثت مع وزير الخارجية الإيراني حول الحرب والتوترات المتزايدة في المنطقة. حثثت على ضبط النفس، يجب على جميع الأطراف العمل لمنع المزيد من التصعيد”.
الالتزام بالبوصلة الأمريكية
بات واضحًا أن الرد الإيراني السابق والضربة الإسرائيلية الحالية التزم بشكل كبير بالبوصلة الأمريكية الذاهبة صوب التهدئة، كما جاء على لسان المتحدث باسم مجلس الأمن القومي شون سافيت حين قال: “هدفنا هو تسريع الدبلوماسية وتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، نحث إيران على وقف هجماتها على إسرائيل حتى تنتهي دورة القتال هذه دون مزيد من التصعيد”.
بطبيعة الحال ليس في مصلحة الأمريكان الذهاب بالمنطقة نحو حرب مفتوحة في هذا التوقيت على الأقل، حيث الانتخابات الرئاسية بعد عشرة أيام تقريبًا، كذلك ما يحمله هذا التصعيد من توتير الأجواء الإقليمية وتوسعة دائرة الصراع بما يهدد مصالحهم في الشرق الأوسط، هذا بخلاف استثمار المعسكر الشرقي بقيادة الصين وروسيا لهذا النزاع في تقوية شوكته عبر استقطاب العديد من القوى للتعامل بندية مع المعسكر الغربي، على المستويين السياسي والاقتصادي، وربما العسكري ذلك.
ولا تختلف المقاربات الأمريكية مع نظيرتها الإيرانية فيما يتعلق بتجنيب التصعيد وخرق قواعد الاشتباك، حيث تلقت طهران ضربات قاسية منذ بداية الحرب في غزة، وضعت النظام هناك في مأزق سياسي وعسكري كبير، وأجبرته على الرد، لكنه كان الرد المنضبط الذي يراعي حزمة من الحسابات والاعتبارات التي يحاول بها الملالي الحفاظ على مكتسباته ومشروعه النووي وعدم الانجرار لحرب قد تطيح بالجمهورية الإسلامية.
واصطدمت المقاربات الأمريكية والإيرانية معًا بعنجهية نتنياهو وجنرالاته، وأوهام النصر المطلق التي تهيمن على عقليتهم، خاصة بعد الضربات الموجعة التي وجهها جيش الاحتلال لحزب الله، حيث تبني خطابًا خشنًا، سياسيًا وعسكريًا، ضد طهران، وتصعيدًا واضحًا في لغة الوعيد والتهديد تجاوزت كل الخطوط الحمراء الموضوعة والتي تنذر – إذا تم تنفيذها بالفعل – بحتمية نشوب حرب مفتوحة.
وعليه جاءت التحركات الأمريكية خلال الأيام الماضية لتلجيم نتنياهو واليمين المتطرف الرامي إلى شن عملية تصعيدية ضد طهران تستهدف منشآتها النووية والنفطية، وهو ما رفضته إدارة بايدن بشدة، وفقًا للمقاربات سالفة الذكر، والتي مارست ضغوطًا شديدة ضد الحكومة العبرية للاكتفاء برد يحفظ لها ماء وجهها دون تجاوز الخطوط الحمراء، وهي الضغوط التي رفضها رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية بداية الأمر، قبل أن تكشف عملية السبت عن الرضوخ لها لاحقًا.
نتنياهو في مأزق
وضعت العملية الإسرائيلية، المحدودة فيما يبدو بحسب المؤشرات الأولية، نتنياهو في مأزق سياسي كبير، كونها تتناقض شكلًا ومضمونًا مع سيل التهديد والوعيد الذي لم يتوقف منذ عملية الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، فلطالما صرح رئيس الحكومة بأن الرد سيكون قاسيًا وغير متوقع وأنه سيقضي تمامًا على مقدرات طهران العسكرية ويضع مستقبلها على المحك، وهو ما لم يحدث بطبيعة الحال، ما يعني أن القيادي المنتشي بأوهام النصر المطلق قد رضخ للضغوط والمقاربات عكس اللغة العنترية التي اعتاد ترديدها مؤخرًا.
لا ينكر متابع رغبة نتنياهو الجنونية في التصعيد، وعدم الممانعة في تجاوز كل الخطوط الموضوعة، وإحداث أي اختراقات في جدار قواعد الاشتباك التقليدية، حتى لو كان ذلك عكس عقارب الساعة الأمريكية، لكن في المقابل فإن استهداف المنشأت النفطية أو النووية الإيرانية عملية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتم بمعزل عن الدعم اللوجستي الأمريكي، مقارنة بالعمليات النوعية الأخرى التي يمكن لجيش الاحتلال القيام بها بشكل منفرد بعيدًا عن الضوء الأخضر الأمريكي.
كما أن الرسائل الضمنية التي بعثت بها طهران لتل أبيب من خلال حزب الله ومحور المقاومة الذي نجح في إرباك حسابات “إسرائيل” عبر التطور اللافت في تكتيكات المواجهة واستهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ والمسيرات التي وصلت إلى قلب تل أبيب وحيفا وأحرجت القيادتين، السياسية والعسكرية، الإسرائيلية بشكل غير متوقع، كان لها دورها في دفع الكابينت لإعادة تقييم المشهد وفق تلك المستجدات الطارئة.
وهذا ما يفسر التأخر الإسرائيلي في الرد على الضربة الإيرانية رغم التصريحات المتتالية، حيث شهدت الأسابيع الثلاث الأخيرة سجالًا قويًا بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، إذ حاول نتنياهو الحصول على مباركة واشنطن لتنفيذ عملية قاسية ضد طهران يعزز بها حضوره السياسي ويواصل من خلالها استثمار الانتصارات التي حققها على حساب “حزب الله” مؤخرًا، لكن يبدو أن الموقف الأمريكي هذه المرة كان أكثر حزمًا في عدم الانصياع لطموحات رئيس الحكومة الإسرائيلية الجنونية، والتشديد على الاكتفاء بضربة رمزية تُبقي على معادلة الردع دون أي اختراقات تُشعل المنطقة.
وسواء كانت مسرحية أم معركة منضبطة ببوصلة المقاربات، فإنه من المتوقع أن تبتلع طهران تلك الضربة، أيًا كانت تداعياتها، وأن تُسدل الستار على مسرح العمليات المباشرة مع دولة الاحتلال، لتوصل المعركة عبر وكلائها وأذرعها في لبنان والعراق واليمن، لكن في الجهة الأخرى فإن ما حدث حتمًا سيكون له تداعياته على السلوك الإسرائيلي ميدانيًا، إذ من المرجح أن يكثف من إجرامه ووحشيته في استهداف المدنيين في القطاع وعلى الجبهة اللبنانية، وذلك ضمن استراتيجيات القفز على الفشل التي يجيد الإسرائيليون ممارستها بشكل كبير.