حالما تطئ قدماك أرض إثيوبيا إذا كنت قادمًا من المطار أو من منفذ بري لإحدى دول الجوار، لا بد أن تستوقفك رائحة القهوة التي يطلق عليها محليًا اسم “بُنّة”؛ فالقهوة في جمهورية إثيوبيا ليست مجرد مشروب تتناوله وتمضي لحال سبيلك، بل أحد معالم ثقافة شعوب عريقة استقرت منذ قرون طويلة في هذه البقعة ذات التاريخ التليد العامر بالحضارات المختلفة.
والمقاهي موجودة في كل مكان بإثيوبيا بدءًا من قارعة الطريق، فيكفي وجود صندوق خشبي وبعض الكراسي الصغيرة المصنوعة من الخشب أو جلد الماعز إضافة إلى مبخرة صغيرة و كراسي صغيرة ليكون أجمل مقهى تقليدي تفوح منه رائحة أصالة إثيوبيا وتاريخها الزاخر، ولا يقتصر وجود القهوة الإثيوبية على المقاهي الشعبية آنفة الذكر بل ستجدها حتى في الفنادق ذات الـ5 نجوم وفي قلب المجمعات التجارية الحديثة وداخل صالات مطار بولي بالعاصمة أديس أبابا والمطارات الداخلية، فالمواطن الإثيوبي لا يكتمل يومه إلا بتناول عدة فناجين من القهوة يوميًا منذ الصباح الباكر وقبل الخلود إلى النوم.
فتاة إثيوبية تقدم القهوة في أحد فنادق العاصمة أديس أبابا
ويُروى عن أحد الشباب الإثيوبيين قوله: “ليس لديّ أي شخص أتناول معه القهوة “، لا ننظر إلى العبارة حرفيًا، ولكن من الواضح أن هذا الشخص ليس لديه حبيبة أو أصدقاء جيّدين يمكن أن يثق بهم ويتناول معهم القهوة، ويشير ذلك إلى الدور الاجتماعي الذي تلعبه القهوة في إثيوبيا، وحقيقة أن الناس هناك غالبًا ما يتجمعون لحظة شرب القهوة من أجل إجراء محادثات تغطي كل ما يدور في الحياة اليومية والقضايا الخاصة والعامة على حدٍ سواء.
وحتى الذين يزورون إثيوبيا بغرض العمل أو السياحة، مؤكد أن لديهم ذكريات لا تُنسى مع هذا المشروب الساحر الذي يعد من أساسيات الحياة في إثيوبيا وجارتها إريتريا.
في هذا التقرير سنتطرق إلى أسطورة اكتشاف القهوة، وطقوس تناولها في إثيوبيا، كذلك أبرز الشركات المنتجة والمصدرة إلى جانب مساهمتها في الاقتصاد الإثيوبي.
كيف اكتشف الإثيوبيون القهوة؟
تعود قصة اكتشاف القهوة عالميًا إلى شعب الأورومو وهم أكبر الشعوب الإثيوبية تعدادًا، وإذا عدنا إلى الموروث الشعبي الإثيوبي نجد أن الرواية الأسطورية تتحدث عن أحد رعاة الغنم في القرن التاسع الميلادي، وهو شاب يُدعى “كالدي”، كان يرعى قطيعًا من الأغنام في غابات كافا المطيرة وارفة الظلال “جنوب إثيوبيا”، ثم لاحظ فجأة أن ماعزًا من القطيع أصبحت أكثر نشاطًا وحيوية وتكاد ترقص، بعد بحث واستقصاء، اكتشف أن الماعز أكلت ثمارًا حمراء تشبه الكرز الأحمر من الأشجار التي في الجوار، فقرر تجربتها والانضمام إلى الماعز فأحسّ بنشاط غريب ونكهة لم تكن مألوفةً لديه.
ثم توجه كالدي من فوره إلى عمه الراهب في دير مجاور، مسرورًا يكاد يطير فرحًا بهذا الاكتشاف الجديد، ويقول سكان كافا الذين يتناقلون الرواية كما سمعوها من أجدادهم: “ألقى الرهبان الثمار في النار خوفًا من “الأرواح الشريرة”، ولكن عندما تسللت رائحة القهوة المحمصة إلى أنوفهم، انتابهم الشعور الذي انتاب كالدي من قبل، وتراجعوا عن رأيهم بعد أن تصوروا الحماسة التي ستضفيها هذه الطاقة الجديدة على الطقوس الدينية، ثم أخبروا أفراد القبيلة بالقصة، وعرضوا النبتة على الكهنة واستُخدمت كعلاج للاكتئاب والعجز والخمول ثم استخرج البن منها، ورويدًا رويدًا انتقل إلى باقي المناطق في إثيوبيا ومن هناك إلى العالم لتصبح القهوة المشروب الأكثر شعبية.
مَزارع القهوة.. جنوب إثيوبيا
الذين يعتقدون بصحة أسطورة كالدي يرون أن اسم القهوة باللغة الإنجليزية Coffee أُخذ من اسم مكان اكتشافها الذي سبق ذكره “غابات كافا”، الواقعة في منطقة أوروميا جنوب البلاد على مقربة من مدينة جيمّا التاريخية، وغرب مدينة هوّاسا عاصمة إقليم الجنوب.
طقوس القهوة الإثيوبية
لا تقل مراسم إعداد القهوة في إثيوبيا أهمية عن تناولها، حيث تبدأ الفتاة التي تتولى إعداد القهوة في الأُسرة برش المكان ونثر العشب الأخضر أو “قيطما” كما يطلقون عليه باللغة الأمهرية كرسالة للفأل الحسن كما يعتقد الإثيوبيون، ولا بد أن ترتدي الفتاة صانعة القهوة الزي التقليدي ليكون مكمن سعادتها أن تعد المشروب الأول وسط حضور أسري ومشاركة من الجيران والضيوف الذين يتصادف وجودهم.
توضع حبوب البن الطازجة أولًا على طبق من الفخار لتجف في الشمس، ثم تُغسل وتُحمص في آنية مسطحة من الحديد على النار باستخدام الفحم، ثم تُمرِّر الفتاة، البن المحمص على الضيوف والبداية تكون بالأكبر سنًّا لاستنشاق الرائحة المحببة إلى النفس، ولتعطي الحاضرين إحساسًا بجودة البن وطيب نكهته، بعدها تقوم بطحن حبوب القهوة يدويًا وتضعها في إبريق القهوة الإثيوبي التقليدي الذي يعرف باسم “الجَبَنة” وتقدم مع طازجة الفشار وبعض المكسرات.
طقوس إعداد القهوة الإثيوبية في أجواء عائلية تراثية
ويقوم الحاضرون الذين ينتظرون احتساء فنجان القهوة بمتابعة معدّة القهوة وهي تقوم بعملها بشيء من الاحترام والتقدير، وعند تقديمها لهم في الفناجين يفترض أن يقوموا بشكرها والتعبير عن إعجابهم بجودة البن فيقولون “كونجو بنة” أي قهوة جميلة باللغة الأمهرية أو “طعوم بنة” كما في التغرينية.
وتمثل جلسات القهوة في إثيوبيا مزيجًا من الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية وحتى السياسية، وهو ما يعكس تميز القهوة الإثيوبية ليس لجودتها فحسب وإنما كونها جزءًا أصيلًا من ثقافة وحضارة الشعب الذي يعتبر نفسه المكتشف الأول لنبتة البن في العالم.
أشهر شركات البن الإثيوبي
الذي يتجول في المدن الإثيوبية وخاصة العاصمة أديس أبابا يلاحظ كثرة متاجر القهوة التي تبيع المشروع الأول في عبوات جاهزة، وتتنافس الشركات المصنعة للبن في اجتذاب الزبائن من داخل البلاد وخارجها؛ وغالبًا ما تضم هذه المتاجر ركنًا لتناول القهوة الطازجة قد يكون الركن كبيرًا أو صغيرًا على حسب حجم المتجر لكنه ضروري بطبيعة الحال ربما لتأكيد جودة البن للزبائن وللمساهمة كذلك في تقليل تكلفة استئجار المكان والإيفاء بالتزامات العاملين فيه.
ويمكن تقسيم البن العالمي إلى نوعين أساسيين، هما أرابيكا وروبوستا، وتكمن الفوارق الأساسية بينهما في الطعم وأماكن الزراعة والسعر، وتستحوذ إثيوبيا على حصة كبرى من إنتاج بن الأرابيكا، فهي تحتل المركز الخامس في هذا الصدد واحتكرت شركات عالمية حق شراء البن الإثيوبي بكميات كبيرة كما سيأتي بيان ذلك بالتفصيل لاحقًا.
من أكبر الشركات المنتجة للبن في إثيوبيا:
1- توموكا (Tomoca): واحدة من أشهر شركات إنتاج البن الإثيوبي، قهوتها داكنة سوداء عالية الجودة من نوع البن الهرري “نسبة إلى مدينة هرر”، وهي قهوة 100% من نوع أرابيكا سابق الذكر، تُعبأ في أكياس سعة 500 جم أو كيلوجرام، ويمكن العثور عليها في متاجر الشركة المنتشرة في العاصمة أديس أبابا وفي الولايات أو في السوبر ماركت ومحلات التجزئة، وللموجودين خارج إثيوبيا يمكنهم طلبها عن طريق موقع التجارة العالمي “أمازون”.
2- أبيسينيا (Abissinya) وهي كلمة لاتينية تعني الحبشة؛ لذا أُطلقت على العديد من المحال التجارية والشركات ومن بينها هذه الشركة الشهيرة حيث يأتي الزبائن إلى متاجرها ـ خاصة فرع بولي مدهني يلّم القريب من المطار – للاستمتاع بالمشروبات المفضلة التي يتم تقديمها مع الخدمة المتميزة في بيئة مريحة وودية، فمقاهي أبيسينيا توفر أماكن دافئة وجذابة حيث يمكن للجميع قضاء أوقاتهم والاسترخاء وتذوق أفضل أنواع القهوة والشاي أيضًا، ولدى الشركة خط إنتاج عالمي تصدر منه البن المحمص الجاهز إلى شتى أنحاء العالم.
3- مانكيرا (Mankira): واحدة من الشركات التي تمتلك وجودًا قويًا في الداخل الإثيوبي، فمتجرها الذي يقع في منطقة بياسّا التاريخية ـ على سبيل المثال ـ يعد المَعلَم الأشهر في الضاحية الشهيرة، وعُرفت مانكيرا بمنتجاتها ذات الأسعار المنخفضة نسبيًا مقارنة بالشركات الأخرى لذلك تعد محلاتها ومقاهيها الملاذ المفضل للطلاب وغيرهم من ذوي الطبقات المتوسطة، ولديها كذلك خط إنتاج تصديري إلى خارج البلاد.
4- ترابوكّا (Trabocca): تتميز بأنها تعمل جنبًا إلى جنب مع المزارعين والتعاونيات والمصدرين لتوفير القهوة عالية الجودة والقابلة للقياس إلى المحامص في جميع أنحاء العالم، أي أنها تركز على التصدير وليس لديها متاجر محلية حتى الآن، إذ تُعرّف نفسها بالقول “نحن حريصين على تحسين سلسلة التوريد بأكملها من خلال إقامة علاقات وثيقة بين المزارعين والمحامص”.
5- Cerealia: وهي كذلك واحدة من الشركات الكبرى المتخصصة في تصدير وتسويق البن الإثيوبي من نوع أرابيكا إلى أسواق أوروبا ومختلف أنحاء العالم، وتعمل الشركة على خدمة السوق بمنتجات ذات جودة عالية، مستخدمة التقنية العالية والتكنولوجيا الحديثة لتلبية احتياجات عملائها وموظفيها والمساهمين وأصحاب المصلحة الآخرين.
أحد متاجر القهوة في أديس أبابا
كانت تلك مجرد عينة بسيطة من شركات البن الإثيوبية، ولا ننسى أن هناك سلسلة مقاهي تعد أكبر من الشركات مثل سلسلة “كالدي”، التي لا تقل عن “ستار باكس” الأمريكية في الداخل الإثيوبي من حيث الانتشار والجودة، فحيثما توجهت ببصرك تجد أمامك أحد محلات كالدي التي يفضلها الناس على الدوام، وتمثل ملتقى ثابتًا لكل فئات المجتمع والزوار الأجانب.
ولا تحصر مجموعة كالدي خدماتها في القهوة فقط فهي تقدم كل المشروبات الساخنة الأخرى من الشاي والشوكولاتة الساخنة والكابتشينو وغيرها، ومع ذلك تعد المقاهي التقليدية الأكثر انتشارًا وجذبًا للزبائن لرخص سعر القهوة هناك ولأن البن الموجود فيها طازج ومتجدد كما يقول هؤلاء، إلى جانب تقديمه في الهواء الطلق وليس في أماكن مغلقة كالكافيهات الحديثة المفضلة لمحبي الهدوء ولفئة العشّاق من الشباب.
مساهمة قوية للقهوة في الاقتصاد الإثيوبي
أيًّا كان مكانك وأنت تستمتع بفنجان قهوتك الصباحية الدافئة أو الساخنة، عليك أن تتذكر أن إثيوبيا هي مصدر هذه النكهة الفريدة للقهوة، فهي أكبر مصدر للبُن بالقارة الإفريقية وعلى مستوى العالم، إذ يعمل أكثر من 25 مليون مواطن إثيوبي في زراعة وصناعة وتصدير البن بإنتاجٍ يصل إلى 400 ألف طن سنويًا، وتعد إثيوبيا خامس أكبر منتج للبن بعد البرازيل وفيتنام وكولومبيا وإندونيسيا، لكنّها “إثيوبيا” تتميز بالإنتاج عالي الجودة الذي يتفوق على الدول الأربعة أعلاه.
وأظهر تقرير صدر في مايو/أيار الماضي أن إثيوبيا حصلت على نحو 560 مليون دولار عائدات تصدير البن خلال 9 أشهر وهو رقم ضئيل نسبيًا مقارنة مع 880 مليون دولار حصلت عليها البلاد العام الماضي، ما يشير ربما إلى تأثر قطاع البن بالصراعات الداخلية التي تشهدها مناطق عديدة، إلى جانب تأثير التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة مقارنة بالأعوام الماضية.
ويوفر تصدير البن نحو 31% من العملات الصعبة، إذ يشكل هو وشركة الخطوط الجوية الإثيوبية العمود الفقري لاقتصاد أديس أبابا، مع ملاحظة أن تصدير البن يستوعب قرابة ربع السكان، وتعتبر القهوة الإثيوبية من أجود الأنواع على مستوى العالم كما ذكرنا، حيث تستحوذ إثيوبيا على 95% من إنتاج البن عالي الجودة، وتحتكر عدة شركات عالمية حق شراء كميات كبيرة منه، وعلى رأسها “ستار باكس” الأمريكية التي وقعت عقدًا مدته 40 سنة بدأت منذ العام 2007.
ولهذا تهتم السلطات الإثيوبية بسلعة البن وتسويقها، ففي مطلع ديسمبر/كانون الأول 2018 استضافت أديس أبابا معرض القهوة الدولي للتداول بشأن فرص السوق ومناقشة العوامل الدافعة لنمو سوق البن في إثيوبيا وفقًا لهيئة القهوة والشاي الإثيوبية .
كالدي.. النسخة الإثيوبية من سلسلة ستار باكس الأمريكية
إذًا، هي القهوة المشروب الأول في إثيوبيا والمفضل لكل مكونات الشعوب الإثيوبية وللسياح الذين يزورون إثيوبيا باستمرار، مهما كانت دياناتهم ومعتقداتهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية، فقراء كانوا أم أغنياء، فـ”القهوة” أشبه ما تكون بإكسير الحياة للإثيوبيين ولا يبدأ اليوم إلا بتناولها في الصباح الباكر وعند الوصول إلى العمل وبعد الظهر في المنزل بالجلسة التي سبق لنا وصفها، وفي الأمسيات تحلو جلسات القهوة للصغار والعشّاق من الشباب، ولفئة كبار السن في المدن والأرياف الإثيوبية كافة في الموسمين موسم الأمطار الذي يبدأ من أبريل/نيسان ويستمر حتى أكتوبر/تشرين الأول، وموسم الشتاء الذي يبدأ من نوفمبر/تشرين الثاني حتى مارس/آذار فما أطيب القهوة الإثيوبية الحاضرة في كل المواسم والأوقات وما أجمل جلساتها!