ينتظر الكونغوليون بفارغ الصبر نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت أمس الأحد، وشهدت أعمال عنف كبيرة راح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى، وتوصف هذه الانتخابات بالتاريخية، في بلد غني بالمعادن لكنه فقير، فهل تشهد الكونغو الديمقراطية أول تغيير ديمقراطي منذ 5 عقود؟
أول انتخابات سلمية في تاريخ البلاد
تعتبر هذه الانتخابات، أول انتخابات سلمية في تاريخ البلاد منذ الاستقلال في 30 من يونيو/حزيران 1960، ورغم وجود كلمة الديمقراطية في الاسم الجديد، فلم تعرف الكونغو التي كانت تسمى سابقًا “زائير”، أيّ انتقال سلمي للسلطة في تاريخها.
وتوجّه أمس نحو 40 مليون ناخب بالكونغو الديمقراطية في اختيار رئيس خلفًا لجوزيف كابيلا مع آمال في أول تغيير ديمقراطي منذ خمسة عقود، ويأتي إجراء هذه الانتخابات بعد تأخيرها سنتين وإرجائها ثلاث مرات.
ومن المقرر أن تُعلن نتائج الاقتراع الرئاسي أوليًا ليلة الثلاثاء، فيما يعلن عنها رسميًا في 15 من يناير/كانون الثاني المقبل، ليؤدي الرئيس الجديد اليمين الدستورية في الـ18 منه، حسب ما قالت مفوضية الانتخابات.
وأربكت “آلات التصويت” سير العملية الانتخابية في عدد من المكاتب، وتمكن هذه الآلات الناخبين من اختيار مرشحهم بالنقر على شاشتها، ثم طباعة بطاقة التصويت ووضعها في الصناديق، وقد نددت بها المعارضة التي وصفتها بأنها “آلات تزوير”.
ورفضت كينشاسا أي مساعدة لوجستية من الأمم المتحدة المنتشرة منذ 20 عامًا في الكونغو، كما رفضت أي بعثة مراقبين غربية في هذه الانتخابات، وغادر ممثل الاتحاد الأوروبي في الكونغو الديموقراطية مساء السبت بعدما أمرته السلطات الخميس بالرحيل.
استنكرت بعثة الأمم المتحدة للاستقرار في الكونغو (مونوسكو) العنف والوفيات التي أحاطت بالحملة الانتخابية
استعدادًا ليوم الانتخابات، أعلنت السلطة إغلاق حدودها البرية والبحرية والنهرية مع الدول التسعة المجاورة لها، من الكونغو برازافيل إلى أنغولا مرورًا برواندا، في المقابل، لم يتم قطع الإنترنت صباح الأحد، خلافًا لما يجري عادة في الأيام التي تشهد توترًا قويًا.
وسيعرف الشعب الكونغولي في هذه الانتخابات رئيسه الخامس على مدار تاريخ البلاد الممتد منذ نصف قرنٍ بعد نيل الاستقلال من المحتل البلجيكي، وما يلاحظ في هذه الانتخابات أن معظم المرشحين لم يخوضوا حملات انتخابية من شأنها أن توضح للناخبين البرامج الانتخابية التي يطرحها المرشحون.
وقررت مفوضية الانتخابات يوم الأربعاء الماضي، تأجيل عملية التصويت في ثلاث مدن، إلى غاية حلول مارس المقبل، لذا لن يكون متاحًا لها التصويت في الانتخابات الرئاسية، وستقتصر فقط على الانتخابات التشريعية.
والمدن الثلاثة هي بيني وبوتيمبو في الشرق، وترجع المفوضية السبب إلى انتشار مرض الإيبولا بكثافةٍ منذ أغسطس الماضي، إضافةً إلى مدينة يومبي التي تقع في الغرب، وسقط فيها أكثر من 100 قتيل في أعمال عنف عرقية الأسبوع الماضي.
فوضى وقتلى
كما كان متوقعًا، لم تمرّ هذه الانتخابات دون تسجيل ضحايا وأحداث عنف في مناطق متفرقة من البلاد، حيث قتل أمس أربعة أشخاص على الأقل بينهم شرطي وموظف يشرف على عملية التصويت في محافظة جنوب كيفو (شرق)، طبقًا لما صرح به مدير حملة مرشح المعارضة فيليكس تشيسيكيدي لوكالة الأنباء الفرنسية، واتهم الرئيس السابق للجمعية الوطنية فيتال كامرهي، الموظف القتيل بالتزوير لصالح إيمانويل رامازاني شاداري، وقال بهذا الصدد إن الموظف الانتخابي أغلق الغرفة وصوت مرارًا لصالح شاداري.
بدورها، قالت الجمعية الكونغولية للوصول إلى العدالة، إنها سجلت 10 حالات وفاة منذ إطلاق الحملة الانتخابية في 22 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كما أشار المنظمة غير الحكومية إلى 152 حالة من حالات انتهاك حقوق الإنسان خلال هذه الفترة.
سقوط العديد من القتلى خلال الانتخابات وقبلها
واستنكرت أحزاب المعارضة عمل بعض المسؤولين المحليين الذي اتسم بترهيب الناخبين والاستيلاء على صناديق الاقتراع وملء بطاقات الاقتراع لصالح معسكر السلطة، فضلاً عن محاولة الاستيلاء على الآلات للتصويت.
من جهتها، استنكرت بعثة الأمم المتحدة للاستقرار في الكونغو (مونوسكو) العنف والوفيات التي أحاطت بالحملة الانتخابية، في أكبر بلد في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ذات التاريخ المضطرب، وقبل موعد الانتخابات بيوم رفض مرشحا المعارضة التوقيع على وثيقة تهدف إلى منع أعمال العنف بعد الانتخابات، وُضعت بوساطة المراقبين الأفارقة.
من يخلف جوزيف كابيلا؟
هذه الانتخابات، من المنتظر أن تكشف عن خليفة الرئيس المنتهية ولايته جوزيف كابيلا الذي تقلّد الحكم إثر اغتيال والده لوران ديزيريه كابيلا مطلع 2001، وقاد كابيلا الابن حينها مرحلة انتقالية انتهت بانتخابه رئيسًا في عام 2006 ثم أعيد انتخابه في 2011، وفي المرتين اتهمته المعارضة بتزوير الانتخابات وأيدتها في ذلك منظمات دولية راقبت تلك الاستحقاقات.
ويتنافس 21 مرشحًا على أعلى منصب في الدولة الغنية بالمعادن ولكنها تعاني من الفقر، لكن من المتوقع أن تتاح فرصة الفوز أمام ثلاثة مرشحين فقط هم: وزير الداخلية السابق إيمانويل رامزاني شادري، مرشح الحزب الحاكم المدعوم من الرئيس المنتهية مدة ولايته جوزيف كابيلا، ولم ينتظر شادري إعلان النتائج وقال: “أنا الرئيس من الليلة”.
المرشح الثاني على قائمة المرشحين الأوفر حظًا هو رئيس حزب “المشاركة من أجل التنمية والديمقراطية” المعارض مارتن فايولو الذي قال عقب الإدلاء بصوته: “هذا يوم كبير بالنسبة لي لأنه يوم نهاية الديكتاتورية والاستبداد، يوم نهاية 18 عامًا من نظام جوزيف كابيلا”.
وكان زعماء المعارضة في جمهورية الكونغو الديمقراطية قد اختاروا في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، رجل الأعمال والمشرّع مارتين فايولو كمرشح عنهم في هذه الانتخابات خلال محادثات جمعتهم في جنيف، استضافتها مؤسسة كوفي عنان، وقال فايولو حينها: “أنا فقط متحدث باسم المكافحين من أجل الحرية والديمقراطية، وأنا مقتنع بأننا سننجح في جعل بلادنا ديمقراطية وحرة ومستقلة”.
عرفت البلاد في العقدين الأخيرين حربين أسفرا عن مقتل أكثر من خمسة ملايين شخص
والاسم الثالث الذي برز بعد تخلي كابيلا عن المطالبة بولاية ثالثة يحظرها الدستور، هو المرشح المعارض البارز فيليكس تشيسيكيدي، لكن تشيسيكيدي يبقى مجرّد شخصية مستجدة على المشهد السياسي الكونغولي رغم انتخابه عضو برلمان عام 2011 امتنع عن خدمته بدافع المعارضة، وانتخابه خلفًا لوالده إتيين تشيسيكيدي مؤسس حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي.
يذكر أن لجنة الانتخابات حرمت في أغسطس/آب الماضي زعيم المعارضة جان بيير بيمبا، من الترشح، بعد أن كان يُعد أحد المرشحين الأوفر حظًا لخلافة الرئيس المنتهية ولايته كابيلا، وكان بيمبا من أمراء الحرب السابقين، وعاد إلى العاصمة الكونغولية كينشاسا في أغسطس لتقديم أوراق ترشحه للرئاسة بعد أن قضى عشر سنوات في السجن في لاهاي بسبب إدانته بارتكاب جرائم حرب، من المحكمة الجنائية الدولية.
مدخرات كبيرة على أمل استثمارها لصالح البلاد
يأمل الكونغوليون أن تمرّ هذه الانتخابات بسلام، وتقطع مع العنف وعدم الاستقرار في البلاد، إذ تعدّ الكونغو الديموقراطية من الدول الأكثر اضطرابًا في القارة الإفريقية، حيث لا تزال مئات المجموعات المسلحة تنشط في شرقها.
ومن شأن انتشار الأمن والاستقرار في البلاد وانتخاب رئيس جديد لها، أن يمنح هذا البلد الإفريقي الغني الذي لم ينعم بالاستقرار بعد منذ عقود طويلة، فرصة التطور والتقدم، وتعاني جمهورية الكونغو الديمقراطية من عدم الاستقرار السياسي والافتقار إلى البنية التحتية وانتشار الفساد، وتعاني من قرون من الاستغلال التجاري والاستعماري على حد سواء، دون تنمية كلية.
وكانت الكونغو الديمقراطية ثاني أكثر دولة تصنيعًا في إفريقيا بعد دولة جنوب إفريقيا، حيث كان قطاع التعدين الذي يمثل نصف صادراتها مزدهرًا كما كان قطاعها الزراعي مثمرًا نسبيًا، غير أن الصراعات، خفضت الإنتاج الوطني بشكل كبير، وتراجعت معه عائدات الحكومة، وزادت الديون الخارجية.
وعرفت البلاد في العقدين الأخيرين حربين أسفرا عن مقتل أكثر من خمسة ملايين شخص، وانتشرت المجاعة والمرض وسوء التغذية الذي يؤثر على ما يقرب من ثلثي سكان البلاد، كما تم خلال الحرب الثانية اغتيال الرئيس لوران ديزيريه كابيلا على يد أحد حراسه الشخصيين.
ساهمت الحروب في تراجع البلاد
تقع أكبر المناجم في الكونغو في محافظة شبعا، بالجنوب، وتعد الكونغو أكبر منتج في العالم لخام الكوبالت، ومنتج رئيسي من النحاس والماس الصناعي، وهذه الأخيرة القادمة من مقاطعة كاساي في الغرب، وتمتلك الكونغو 70% من الكولتان في العالم (المصدر الرئيسي للالتنتالوم، الذي يستخدم في تصنيع المكونات الإلكترونية في أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة)، وأكثر من 30% من احتياطي الماس في العالم.
وتمتلك الكونغو أيضًا مساحات كبيرة من الغابات وأنهار كثيرة يمكن أن توفر طاقة كهربائية لكامل القارة، ورغم كل هذه المدخرات، فإن مستوى التنمية البشرية في جمهورية الكونغو الديمقراطية هو 176 من أصل 187 بلدًا، وفقًا لمؤشر التنمية البشرية لعام 2016.
تعتبر هذه الانتخابات التي تُجرى بشقيها الرئاسي والتشريعي، أبرز حدث في تاريخ البلاد الحديث، حيث ستشكل منعطفًا في مصير البلاد، فإما أن تفضي إلى عمليةٍ ديمقراطيةٍ سليمةٍ تضع الكونغو الديمقراطية في المسار الصحيح، أو تؤدي في النهاية إلى انزلاق البلاد في أتون صراعات لا يعرف لها نهاية.