ترجمة حفصة جودة
منذ الحرب العالمية الأولى وإعلان سايكس بيكو ووعد بلفور، كان الشرق الأوسط مسرحًا للصراعات الجيوسياسية والكشف عن القصص القومية التي ترنحت بشكل منحرف بين الفوضى والاستبداد.
وفي عام 1956 بعد الخلافة العثمانية، أزاحت الولايات المتحدة حلفاءها الأوروبيين الرئيسيين (فرنسا والمملكة المتحدة) كرعاة أساسيين لمصالح الغرب في المنطقة، وفي الوقت نفسه كانت تركز على احتواء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وتؤمن الوصول إلى النفط الخليجي وطرق التجارة العالمية والحفاظ على أمن “إسرائيل”.
ظهرت مرحلة أخرى بعد انتهاء الحرب الباردة، فقد حدثت هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة التي منحتها ذريعة لسلسلة من التدخلات الكارثية في المنطقة باسم الحرب على الإرهاب.
العنف والفوضى
ثم جاءت ثورات 2011 التي تكونت من سلسلة من الحركات الشعبية لإزاحة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة وتلاها تدخلات أجنبية وحروب بالوكالة وصراعات طويلة المدة ومعاناة هائلة للمدنيين في المنطقة، كانت نتائج تلك الثورات المناهضة للسلطة موجة من العنف المضاد للثورة والتوجهات القمعية المكثفة، أضف إلى ذلك عداء المحور الأمريكي السعودي الإسرائيلي لإيران الذي يهدد بانفجار حرب إقليمية شديدة الضراوة.
وسط هذا الاضطراب الهائل من الفوضى والعنف، كان صعود ترامب كرئيس للولايات المتحدة قبل عامين بمثابة ضخ للبنزين بشدة في النيران المشتعلة بالفعل في العالم العربي، وسرعان ما تحققت تلك المخاوف؛ فقد أعطى الضوء الأخضر للإمارات والسعودية لمقاطعة قطر ومساعدة “إسرائيل” في فرض دولة الفصل العنصري على الشعب الفلسطيني وبناء تحالف حربي مع الرياض وتل أبيب لإظهار بعض القوة أمام إيران.
الفلسطينيون يستعدون لحرق صورة ترامب وابن سلمان في مظاهرة بغزة
وكما أدرك العالم كله، فترامب أسوأ شخصية سياسية حكمت أمريكا، فمن الناحية الداخلية كانت سياساته متماسكة أيدولوجيًا وتميل إلى اليمين المتطرف في قضايا متنوعة مثل الهجرة والتجارة والضرائب والشرعية واحترام المبادئ الدستورية.
سلوكيات شاذة
في السياسة الخارجية كان هناك تبجح ترامبي وسلوك شاذ، ولم يكن هناك ما هو أكثر دمارًا من نقل السفارة الأمريكية للقدس، حتى الإعلان المفاجئ عن انسحاب 2000 جندي من القوات الأمريكية في سوريا قبل بضعة أيام.
هذه الخطوة هزت مؤسسة الأمن الوطني في واشنطن، ومن المفترض أنها قوضت الثقة في الدور الأمريكي العالمي بين حلفاء الناتو والأكثر من ذلك كله مع “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية، وفي تلك الحالة تجاوز ترامب النصائح الجماعية لمستشاريه ووزرائه وفشل في التفاوض مع حلفائه، كما برر هذا الانسحاب بأن ادّعى هزيمة الدولة الإسلامية في سوريا.
كما ظهرت ضخامة الأزمة الحكومية في إعلان الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع استقالته وأكد ذلك في رسالته التي يدين فيها نهج الرئيس الأمريكي، رسالة الاستقالة تلك كانت بمثابة الكتاب المقدس للديموقراطيين ودعاة الليبرالية مثل “سي إن إن” و”نيويورك تايمز”.
ترامب يمنح تأكيدات لوعود حملته المؤجلة بإنهاء التدخلات الأجنبية والتأكيد على استعادة نوعية الحياة في الولايات المتحدة
حتى إن مجموعة من الجمهوريين أدانوا سياسة ترامب الجديدة في سوريا وقالوا إنها خيانة للأكراد وتكافئ الروس ونظام الأسد، وبافتراض أن ترامب لا يسحب البساط من تحت أقدام مبادرته الخاصة فإنها تستحق المزيد من الاهتمام المتوازن، لقد كان الوجود الأمريكي في سوريا محل إشكالية دائمة؛ فهو متواضع لأن يكون سببًا في تغير قواعد اللعب لكنه كاف لإطالة المعاناة السورية.
انفصال سياسي أكبر
بالنسبة لداعش فلم يتم هزيمتها بعد لكن اللاعبين الرئيسيين في سوريا -الحكومة السورية وروسيا وإيران – لديهم دافع قوي لهزيمة داعش بشكل نهائي، كما أننا لا نعلم ما الذي ستفعله تركيا بشأن الأكراد الذين يعملون بالقرب من حدودها مع الشمال السوري ومن المفترض أنهم على علاقة بجماعة الكفاح المسلح “PKK” المتمركزة في جبال قنديل بالعراق.
يمكننا أن نأمل بأن أردوغان منح ترامب تأكيدات بشأن عدم التصعيد ضد أكراد سوريا، وفي ضوء انسحاب نصف الوحدات القتالية الأمريكية في أفغانستان بعد يوم واحد من الانسحاب في سوريا؛ نعتقد أن ترامب يمنح تأكيدات لوعود حملته المؤجلة بإنهاء التدخلات الأجنبية والتأكيد على استعادة نوعية الحياة في الولايات المتحدة.
إذا كان هذا هو الوضع الحاليّ فسيكون بمثابة أخبار سيئة للسعودية و”إسرائيل”، حيث يتوقعان من ترامب قيادة هذا التحالف الغريب إلى أبواب طهران، ربما ليس بالوسائل العسكرية لكن على الأقل بشكل مكثف من الدبلوماسية القسرية.
مقاتلون سوريون تدعمهم تركيا يسيرون بالقرب من الحدود
لم يفز ترامب بالكثير من الاستمرار في نفس المسار، لكن حتى الآن يبدو أن انسحابه من سوريا جزء من عملية انفصال سياسي أكبر عن المغامرات العسكرية الفاشلة في البلدان البعيدة التي جاءت بتكلفة كبيرة ولم تحقق أي نتائج سياسية.
شرق أوسط أكثر حرية
بالتأكيد ما يظهر لنا ليس صورة جميلة، لكن هناك دلالات أكثر إيجابية من ردود الفعل السلبية للحلفاء السياسيين في أمريكا وأوروبا، فانحساب أمريكا من التدخل العسكري الأجنبي أمر طال انتظاره، نظرًا للفشل السياسي وحجم المعاناة التي تسبب فيها هذا التدخل.
الأهم من ذلك – ولا شك في أنه ليس جزءًا من مراجعة إستراتيجية كبيرة لترامب – أن إمكانية الحد من التدخلات السياسية للولايات المتحدة سوف يشجع على تحرك إقليمي نحو الاعتدال وتقرير المصير والتعايش، هذا الانفصال يسمح لواقع الشرق الأوسط ما بعد الاستعمار بكسر القيود الجيوسياسية.
ومع مرور الوقت ربما تشعر القيادة الإسرائيلية بضرورة إعادة النظر في نهجها مع الحركة الوطنية الفلسطينية وتغير من تركيزها على السعي نحو نصر عنصري إلى تصور تحقيق تسوية سياسية تفترض المساواة بين كلا الشعبين.
تسبب التدخل السعودي المروع في اليمن بدعم من الولايات المتحدة في معاناة كبيرة للشعب اليمني وهدد بحدوث أسوأ مجاعة في الـ100 عام الأخيرة
يتوافق سياق الانسحاب من سوريا أيضًا مع انحراف العديد من التطورات الإقليمية، فبداية كانت حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في السفارة السعودية بإسطنبول قد جعلت التعاون مع القيادة السعودية في الرياض أقل جدوى، وكذلك ترسيخ التحالف المناهض لإيران مع “إسرائيل” والولايات المتحدة.
وفي الاتجاه نفسه، تسبب التدخل السعودي المروع في اليمن بدعم من الولايات المتحدة في معاناة كبيرة للشعب اليمني وهدد بحدوث أسوأ مجاعة في الـ100 عام الأخيرة، وتتجه التحركات الحاليّة نحو وجود الأمم المتحدة لفتح الميناء اليمني الرئيسي في الحديدة الذي يتعامل مع 80% من واردات الطعام، مما يعني التراجع خطوة عن التسبب في وقوع أكبر كارثة إنسانية.
إذا استمر هذا التراجع فإنه سيعزز الشعور بفك الارتباط الجيوسياسي المرتبط الآن بإزالة القوات الأمريكية من سوريا، ويتعلق أيضًا بإنهاء التورط الأمريكي في حرب اليمن.
شكوك عميقة
هذا المستقبل الإيجابي للشرق الأوسط في 2019 تتخلله شكوك عميقة، فبغض النظر عن ترامب الذي يستسلم لضغوط عسكرية مضادة، هناك إمكانية بأنه عبر الخط الأحمر لتسامح الحزب الجمهوري، وربما يعني ذلك إجبار ترامب على التخلي عن السلطة بطريقة أو بأخرى واستبداله بنائبه مايك بنس الذي يشترك مع ترامب في نفس الإيدولوجية الداخلية، لكنه ليس مستعدًا لمقاومة مؤسسة الأمن القومي في وضعها العالمي فهو لديه إيمان لا يتزعزع في فعالية القوة العسكرية الأمريكية.
هناك احتمالات أخرى للتشهير بالشرق الأوسط، من بينها قيام داعش بهجمات إرهابية في أوروبا وأمريكا الشمالية، ووقوع حمام دم في سوريا تزامنًا مع انتصار دمشق، وهجوم تركي كبير ضد الأكراد في شمال سوريا، جميع هذه التطورات لا يمكن استبعادها، وإذا حدثت فسوف يتغير كل ما نأمله للمنطقة في عام 2019 للأسوأ.
ومع قدوم 2019 في جو من التوتر والجدل، ما زال ممكنًا أن نتمسك بالأمل وأنت تتمكن القوى المعتدلة من إحلال السلام والاستقرار في المنطقة أكثر من أي وقت مضى في القرن الـ21.
المصدر: ميدل إيست آي