كثيرًا ما تتداول الدوريات الثقافية العربية أن أورهان باموق هو من وضع تركيا على خريطة الأدب العالمية بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 2006، ونلاحظ أنه كثيرًا ما يتم اختزال الرواية التركية من القارئ العربي في تجربة أورهان باموق (جاورته إليف شفق في العقد الأخير).
إلا أن المتابع لتاريخ الرواية التركية، سيلاحظ أن روائيين آخرين تُرجمت أعمالهم إلى لغات عديدة قبل باموق بعقود، بالتأكيد، لا يعني هذا التقليل من حجم تجربة الروائي التركي الأشهر، صاحب رواية “اسمي أحمر” التي تعد تجربة فارقة في تاريخ الرواية العالمية وليس التركية فقط، بقدر ما هي محاولة لرؤية المشهد الروائي التركي بصورته الواسعة.
الروائي التركي أورهان باموق
على سبيل المثال، الروائي يشار كمال، تُرجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة قبل باموق بعقود، ورُشّح أكثر من مرة لجائزة نوبل، وحصل على العديد من الجوائز العالمية، ولمع اسمه في الأوساط الأدبية العالمية منذ الستينيات، ينتمي كمال لما يُعرف بـ”تيار الريف” الذي ظهر في منتصف الخمسينيات، وهو يعد رائدًا لهذا التيار، حيث عالجت رواياته قضايا المجتمع الريفي التركي والكردي.
كتب يشار كمال عدة روايات عن معاناة الفلاحين في سهل “تشوكوروفا” بجنوب شرق تركيا، تجسد ذلك في رباعيته المعروفة “ميميد الناحل”، وهي ملحمة للصراع بين الفلاحين والإقطاعيين، وظهر أثر التراث الشعبي في أغلب أعماله، حيث كان مسكونًا بقصص وأساطير هذا التراث منذ طفولته، كما ظهرت أيضًا روحه الثورية في جميع أعماله، ومن بين أعماله التي وصلت إلى المكتبة العربية أيضًا، رواية “صفيحة” التي ترجمها السوري الراحل عبد القادر عبداللي.
هناك العديد من النماذج مثل يشار كمال، ذائعة الصيت في العالم قبل أن تحصل تركيا على نوبل للآداب، ومن المعروف أن تاريخ الرواية في تركيا يعود إلى “عصر التنظيمات” الذي بدأ عام 1839 بهدف تنظيم شؤون الدولة العثمانية على غرار الدول الأوروبية، وإن كان بعض المختصين في تاريخ الأدب التركي، ذكروا أن كتابات أدبية عديدة كُتبت بشكل قريب من الرواية قبل هذه المرحلة، ولكن دون أن تُسمّى “رواية”.
على أي حال بدأت معرفة الأتراك بالرواية على شكلها اليوم بعد اطّلاعهم على الأدب الفرنسي المُتَرْجَم، وجاءت أولى محاولات ترجمة الرواية على يد منيف باشا الذي قام بترجمة “البؤساء” لفيكتور هوجو، باسم “حكاية المغدورين” لكنه أطلق عليها “قصّة”، وتأثر الروائيون الأتراك في المرحلة الأولى من عصر التنظيمات بالمدرسة الرومانسية في فرنسا.
جاءت أول محاولة لكتابة الرواية التركية على يد شمس الدين سامي، وهي رواية “تعشُّق طلعت وفتنة” عام 1873، وبحكم طبيعة البدايات كانت حبكة الرواية بسيطة، ولكن يُحسب لها الجرأة في الخروج على التقاليد القديمة في المجتمع العثماني آنذاك.
إلى جانب تياري الرومانسية والواقعية، ظهر تيار جديد في المرحلة التي باتت تُعرف في الأدب التركي باسم “ثروة الفنون” (نسبة إلى المجلة التي صدرت عام 1896 بنفس الاسم)
تطورت الرواية بعد ذلك على يد أحمد مدحت أفندي المعروف بـ”المعلم الأول”، وقد استخدم تقنية مخاطبة القارئ في رواياته دون إخفاء شخصيته، ويعتبر النقاد أن رواية “الإنكشاريون” لمدحت أفندي التي صدرت عام 1871 أولى نماذج الرواية التاريخية التركية، كما بدأ أيضًا كتابة الرواية البوليسية التركية في روايته “أسرار الجناية”.
تأثر كتّاب المرحلة الثانية من عصر التنظيمات بالمدرسة الواقعية الفرنسية، فكتب رجائي زاده محمود إكرم أول رواية تركية واقعية وهي “غرام العربة” عام 1889، ومن أبرز روائيات هذه المرحلة، فاطمة عليا، وهي أول روائية تركية، كتبت رواية مشتركة مع أحمد مدحت أفندي ثم كتبت رواية مستقلة عام 1892.
إلى جانب تياري الرومانسية والواقعية، ظهر تيار جديد في المرحلة التي باتت تُعرف في الأدب التركي باسم “ثروة الفنون” (نسبة إلى المجلة التي صدرت عام 1896 بنفس الاسم)، تخلّى أدباء هذا التيار عن مذهب الفن للمجتمع وتبنّوا مذهب الفن للفن، ويرى كثير من الباحثين في تاريخ الأدب التركي، أنه من ضمن أسباب ابتعاد أدباء هذه الفترة عن تناول القضايا الاجتماعية وتوجههم نحو الذاتية، هو ضغط السلطات الرقابية آنذاك.
ومن أبرز كتّاب هذه المرحلة، خالد ضياء صاحب رواية “العشق الممنوع” الشهيرة، وأطلق عليه “أسطى النثر”، كما كتب محمد رؤوف رواية “أيلول” التي يعتبرها النقاد أول رواية تنتمي إلى مذهب التحليل النفسي، وفي السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، بدأ ظهور بوادر القومية التركية في الرواية، وتجلى في روايات خالدة أديب الصحافية التي كانت تغطي أخبار المناطق المحتلة في الحرب آنذاك، وكتبت أول رواية عن حرب الاستقلال بعنوان “القميص الناري”.
بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، ظهرت إشكاليات الهوية وصراع “الشرق والغرب” في الرواية التركية، وبرزت المقارنة بين إسطنبول القديمة والحديثة، والمدنية التي جاءت بها الجمهورية، ويلاحظ ظهور أنقرة في هذه الروايات كعاصمة جديدة بدلاً من اسطنبول، وقد كتب يعقوب قدري روايته المعروفة “أنقرة”، وتناولت أسس الحياة الاجتماعية في العاصمة الجديدة بعد إنشاء الجمهورية.
تناول رائد تيار الواقعية صباح الدين علي، في رواياته خلافات المثقفين في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية بشأن مسألة اليمين واليسار (المترجم السعودي جهاد الأماسي ترجم له روايتين: “مادونا صاحبة المعطف الفرو” 2015 و”يوسف القويوجاكلي” 2016.
ويعتبر المختصون في تاريخ الأدب التركي، رواية “المضجع الخارجي التاسع” للروائي بيامي صفا، أفضل رواية في التحليل النفسي في بدايات مرحلة الجمهورية، وتتحدث عن الأزمات النفسية التي مر بها الكاتب بعد تعرضه لمرض خطير في طفولته.
نلاحظ تأثير الحياة السياسية على الرواية في تركيا بشكل واضح في أجيال مختلفة، ففي عقدي الثلاثينيات والأربعينيات تناول رائد تيار الواقعية صباح الدين علي، في رواياته خلافات المثقفين في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية بشأن مسألة اليمين واليسار (المترجم السعودي جهاد الأماسي ترجم له روايتين: “مادونا صاحبة المعطف الفرو” 2015 و”يوسف القويوجاكلي” 2016.
كما برز في الخمسينيات، اسم الروائي أورهان كمال، أحد أبرز كتّاب الواقعية الاشتراكية، تناولت أعماله حياة البرجوازية الصغيرة، ومسألة هجرة أهل القرى إلى المدينة، وجدير بالذكر أن الشاعر ناظم حكمت كتب أيضًا بعض الروايات التي تنتمي إلى الواقعية الاجتماعية، مثل: “الحياة جميلة يا رفيقي” و”الدم لا يتكلم” و”التفاح الأخضر”.
بدءًا من الستينيات، استمر وجود تيار الرواية الواقعية جنبًا إلى جنب مع رواية التحليل النفسي التي مثّلها يوسف أتيلجان في روايته “الرجل الضال”، وقد ظهر بوضوح أثر الصراع السياسي المحتد بين تياري اليمين واليسار على الرواية، فظهر الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا عام 1960 على عدنان مندريس، وأثره على المجتمع التركي، وتجلى ذلك في روايات وداد ترك علي ومليح جودت وإردال أوز.
الروائي أوغوز أتاي صاحب رواية “ألعاب خطرة”
ومن بين الروائيين الذين اتجهوا إلى رواية التحليل النفسي في السبعينيات، أوغوز أتاي صاحب رواية “ألعاب خطرة”، وعدالات أغا أوغلو وهي من أبرز كاتبات الرواية في تركيا، وقد أدخلت جماليات النزعة الإيروتيكية لروايات هذه المرحلة، وفي الثمانينيات، اعتمدت الرواية التركية على تقنيات حديثة، فظهرت الفانتازيا في الرواية على يد لطيفة تكين التي تكتب رواية ما بعد الحداثة.
في هذه المرحلة أيضًا، برز اسم أورهان باموق بعد صدور روايته “جودت بك وأبناؤه”، وهي رواية عائلية ترصد تغيرات المجتمع التركي منذ مطلع القرن العشرين حتى انقلاب 1971، عبر ثلاثة أجيال، كما برز لاحقًا اسم إليف شفق صاحبة رواية “قواعد العشق الأربعون” الشهيرة.
الروائي زولفو ليفانلي، وتتناول أعماله القضايا الشائكة في الشرق الأوسط، مثلما فعل في روايته “اللاطمأنينة” التي عالج فيها قضية الطائفية من خلال قصة حب فتاة سورية إزيديّة مع شاب تركي سني من أصل كردي.
استطاعت شفق أن تحظى بأكبر عدد من القراء، من خلال طرحها للقضايا السياسية والاجتماعية بجرأة عرّضتها للمحاكمة بعد صدور روايتها “لقيطة إسطنبول” عام 2006، حيث تناولت الرواية تاريخ عائلتين تركية وأرمنية تربطهما علاقة حميمة، وتعرضت لموضوع “مذابح الأرمن” وهو من الموضوعات شديدة الحساسية في تركيا.
أسماء عديدة في الساحة التركية اليوم، تمثل اتجاهات مختلفة، من بينها، عائشة كولين التي تعتمد على تقنية اختيار أبطال رواياتها من بين شخصيات حقيقية لعبت دورًا ما في المجتمع، والروائي زولفو ليفانلي، وتتناول أعماله القضايا الشائكة في الشرق الأوسط، مثلما فعل في روايته “اللاطمأنينة” التي عالج فيها قضية الطائفية من خلال قصة حب فتاة سورية إزيديّة مع شاب تركي سني من أصل كردي.
الروائي التركي أحمد أوميت
ويعد أحمد أوميت من أبرز كتاب الرواية التاريخية البوليسية في تركيا اليوم، حيث يمزج الأحداث الواقعية بالخيال، ويلعب دور المحقق في أعماله التي يخوض في أحداثها التاريخية من أجل الوصول إلى النتائج، ويتجلى ذلك في روايته المعروفة “قتل السلطان” التي تتناول قضية موت السلطان محمد الفاتح، من خلال التعمق في حياته لكشف أسرار لغز موت السلطان.
تحقق كتب أوميت أرقامًا قياسية في تركيا اليوم، إلى جانب إليف شفق وأورهان باموق وصباح الدين علي الذي عادت كتاباته إلى الساحة من جديد رغم رحيله عام 1948، وينبغي الإشارة إلى أنه على الرغم من تعدد اتجاهات الرواية التركية في الأجيال المختلفة، فإن نسبة الروايات التركية التي تُرجمت إلى العربية ضئيلة جدًا.
أن اطلاع العرب على الثقافة التركية، يتم دائمًا عبر وسيط أوروبي، وأبرز مثال على ذلك، أن رواية “اسمي أحمر” لأورهان باموق، تُرجمت إلى العربية قبل أن تترجم إلى الفرنسية بعام، لكنها لم تلق رواجًا في العالم العربي إلا بعد صدورها بالفرنسية
فكما ذكر عبد القادر عبداللي في مقالته “ترجمة الرواية: التركية نموذجا”، وهو من أبرز مترجمي الأدب التركي إلى العربية، فإنه باستثناء بعض الأسماء القليلة التي تُرجمت بشكل عشوائي لم يعبر عن مراحل تطور الرواية التركية، فلم تترجم أي رواية من مرحلة بدايات الرواية التركية، وفي مرحلة تأسيس الجمهورية لم تترجم إلا رواية واحدة، على الرغم من تطور الرواية في هذه المرحلة، وتُرجم فقط بعض الأسماء في جيل الخمسينيات ولم يحدث ذلك في الأجيال اللاحقة.
وأخيرًا، يبدو أن أكثر الأسباب منطقية لهذه الإشكالية، هو ما يُرجعه عبداللي نفسه إلى أن اطلاع العرب على الثقافة التركية، يتم دائمًا عبر وسيط أوروبي، وأبرز مثال على ذلك، أن رواية “اسمي أحمر” لأورهان باموق، تُرجمت إلى العربية قبل أن تترجم إلى الفرنسية بعام، لكنها لم تلق رواجًا في العالم العربي إلا بعد صدورها بالفرنسية.