إشارات لا تخطئها الأعين، إيران في المقدمة، وبعدها يأتي ذي القربي من أصحاب الفواتير السياسية المتراكمة منذ 8 سنوات، هكذا تتحدث خبايات الكلمات التي ألقتها حكومة بشار الأسد على وسائل الإعلام قبل أيام، لتعلن من خلالها تفضيلها للشركات الإيرانية، في إعادة إعمار سوريا، بعد انتهاء الأزمة الطاحنة في البلاد، منذ انطلاق رياح الربيع العربي بالمنطقة.
إيران قبل الجميع
وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السوري محمد سامر الخليل، كان صاحب العلامة الكاملة خلال الساعات الماضية، حيث سيطر الرجل على اهتمام وسائل الإعلام العالمية، واحتلت تصريحاته مقدمة الأخبار التي تُبث عن سوريا، بعد لقائه في طهران بغلام حسين شافعي رئيس غرفة التجارة والصناعة والمناجم والزراعة، وكشفهما معًا عن إجراءات جديدة، ستدفع بالعلاقات بينهما إلى مساحات واسعة للأمام، عبر فتح حسابات متبادلة وبنوك مشتركة، والبحث عن آليه مرنة للتعامل بين المصرفين المركزيين في سوريا وإيران، بما يُفعل سريعًا من اتفاقية التعاون الاقتصادي التي وقعاها خلال الزيارة.
زيارة الخليل لإيران قبل أيام ليست الأولى، ولا هي المؤسسة للعلاقات الاقتصادية المفتوحة مع طهران الآن، ولكنها كانت مجرد تتويج لمجهود بُذل وكثُف منذ بداية العام الماضي
“الأولوية في إعادة الإعمار بسوريا للشركات الإيرانية” يرسخ الوزير السوري بهذه الكلمات التي اتخذها عنوانًا لزيارته، الدور الإيراني وأحقيته في التفرد بحصد المكاسب الاقتصادية، مكافأة على دوره التاريخي في إنقاذ عنق النظام السوري وترميم عظامه التي تهالكت كثيرًا، وكانت في أوقات مختلفة من السنوات الماضية على وشك التحلل.
زيارة الخليل لإيران قبل أيام ليست الأولى، ولا هي المؤسسة للعلاقات الاقتصادية المفتوحة مع طهران الآن، ولكنها كانت مجرد تتويج لمجهود بُذل وكثُف من بداية العام الماضي، وانتهت نتائجه إلى تشكيل غرفة التجارة الإيرانية فريق لإعادة الإعمار في سوريا، بالتعاون مع بعض الغرف التجارية الإقليمية، لتوفير الخدمات الفنية والهندسية للشركات الإيرانية، خاصة في بناء السدود والجسور ومحطات الطاقة والمصافي وإمدادات المياه وصناعة الأغذية والزراعة والسياحة الصحية وبناء الطرق ووحدات سكنية.
السعودية بديل للولايات المتحدة
تبدو المحاولة السورية لتمكين إيران من مكاسب متوقعة، إذا دارت عجلة الإعمار، غير مجدية من اللاعبين الدوليين الذين لديهم خطط أخرى، ولا تملك سوريا إلا الاستسلام لأوامر ترامب الذي نصّب السعودية وحليفتها الإمارات، أوصياءً على هندسة إعادة سوريا، نيابة عن الولايات المتحدة التي تبعد عن سوريا بنحو 5000 ميل، على حد تعبير ترامب.
كانت الرياض قد تعهدت في أغسطس الماضي، بالمساهمة بقيمة 100 مليون دولار، ضمن حملة تدعمها الولايات المتحدة من أجل تحقيق الاستقرار في شمال شرق سوريا، وهو مبلغ ضئيل لا يرضى به ترامب، ولا يرضى للحليفة الكبرى بأقل من تمويل صندوقه بالكامل، ويبلغ حجمه 230 مليون دولار، ويخصصه لبرنامج المساعدات المدنية لسوريا.
وكعادة ترامب، حتى يورط السعودية، أفصح للإعلام عن اتفاقاته السرية معها، وكشف عن تناقض كبير بين ما ستدفعه المملكة بشكل حقيقي، وما أعلنته، فوضعها في حرج شديد، لذا سارعت بالتصريح على لسان عبد الله العساف الكاتب والمحلل السياسي المقرب من الرياض، موضحًا أن موافقة السعودية على تمويل إعادة إعمار سوريا، مشروط بتقدم الحل السياسي ووضوح الرؤية والوضع في سوريا من حيث الدستور والانتخابات ووضع المعارضة وغيرها من الأمور الخلافية.
ما بعد إيران.. أين الكبار من الغنيمة السورية؟
حتى الآن، لا يمكن فهم الدافع من انسحاب ترامب من سوريا، ثم الزج بالخليج في مربع واحد مع الأسد، بعد عداء دام بينهما 8 سنوات، إلا على اعتباره الفصل الأخير، مما بات يعرف في الإعلام الغربي بـ”خطة الدور النهائي” التي تسعى من خلالها دول الخليج في المنطقة، لمحاربة إيران في مساحات النفوذ العربية التي سيطر عليها الفرس مؤخرًا.
المثير أن لعبة التوازنات التي يمارسها ترامب تسبب له بعض الأرق، وأصبح يخاف من ارتكاب السعوديين خطأ كارثي في إطار لعبة المكايدة مع إيران، عبر تحويل الأموال إلى نظام الأسد، تحت ضغوط مكثفة من الإمارات
تستهدف الخطة وضع سوريا تحت مظلة قوات عسكرية عربية، مقابل تمويل وإعادة بناء سوريا، وحتى يؤكد الخليج ـ باستثناء قطر ـ أنه دائمًا، جزء من الحل، بمشاركة الجامعة العربية التي تتأهب هي الأخرى لإعادة دمشق من جديد إلى مقعدها، بعد طردها ردًا على تصاعد هجماتها الوحشية على المتظاهرين قبل ثمانية أعوام.
دعمًا للحلف الخليجي والعربي، يمارس ترامب بالتعاون مع بوتين، ضغوطًا مكثفة على إيران، لتقليل دعمها لنظام الأسد، ومغادرة البلاد بأقصى سرعة، مقابل مساعدة “جميع الأطراف” في المنطقة، على المضي قدمًا في طريق المسار السياسي، بما يساهم في إعادة وحدات حماية الشعب، إلى النظام السوري، وإبعادها عن طريق الجماعات الإرهابية كما كان الحال في الماضي.
المثير أن لعبة التوازنات التي يمارسها ترامب تسبب له بعض الأرق، وأصبح يخاف من ارتكاب السعوديين خطأ كارثي في إطار لعبة المكايدة مع إيران، عبر تحويل الأموال إلى نظام الأسد، تحت ضغوط مكثفة من الإمارات، ومقابل ذلك توّسع شرعية بشار الأسد، بما ينعكس ولو بشكل غير مباشر على زيادة دور إيران من جديد داخل البلاد.
إعادة الأعمار.. الحل السياسي والغنائم أولاً
تتوقع الجهات الدولية المعنية بالأزمة السورية، وصول تكاليف إعادة البناء في سوريا بين 250 مليار و400 مليار دولار، بما فيها إنشاء الآليات المالية والاقتصادية المطلوبة للبدء في عملية الإعمار، فالتأخير عنها أصبح محفوفًا بالمخاطر والمشاكل الخطيرة، على رأسها عودة نشاط الإرهابيين المهزومين، وخاصة الفقراء منهم غير القادرين على تدبير سبل العيش.
أكثر ما يشير إلى التوافقات الدولية الجديدة الداعية إلى التعاون مع الأسد، رفض روسيا والصين التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي سعى إلى تمديد الموافقة على تسليم المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى الأراضي السورية، التي سيطر عليها الإرهابيون منذ بداية عام 2014 ، واعتبارهما أن نص القرار السويدي الكويتي الذي يسعى إلى ذلك، عتيقًا ومنفصلاً عن الواقع، في ظل تغيير الأوضاع بشكل غير مسبوق على الأرض في سوريا.
أصبح الحديث عن اندلاع حرب اقتصادية من أجل السيطرة على الكعكة السورية، ليس محل قصص من الخيال أو تأويلات من وحي الصراع الدائر، بل معطيات واضحة لما يدور على الساحة من تجاذبات بين القوى العالمية للحصول على حق إعادة إعمار سوريا
وليس الخليج وحده الذي يهرول حاليًّا إلى مساندة الأسد، وإنما الدول الغربية أيضًا التي طالبت مؤخرًا بحل سياسي، ورهنت موافقتها على دعم الأسد ورفع العقوبات عنه، بجانب موافقتها على تمويل جزء من إعادة إعمار سوريا، بالتوصل إلى حل سياسي، في ظل تأكدها من صعوبة رحيل الأسد، وبالتالي فإعادة الإعمار يجب أن يرعاها المجتمع الدولي بأكمله، وليس حلفاء الأسد وحدهم، حتى يضمن العالم تضميد جراح سوريا، بعملية سياسية ـ على هوى الغرب ـ دون شك.
ورغم أن المال العربي، هو ما سيعمر سوريا من جديد حتى الآن، فإن موافقة الغرب على العملية السياسية، هي المسلك الوحيد لإعادة سوريا، ولن ترضى أوروبا تحديدًا، إلا بتمكين رؤيتها وأفكارها السياسية والاجتماعية من سوريا الجديدة، بجانب المزايا الاقتصادية التي ستحصل عليها من المشاركة في مشاريع البنية التحتية المستقبلية.
وتنظر أوروبا بعين الاعتبار إلى مشروعات الغاز والنقل، وتعرقل بكل ما أوتيت من قوة سعي الصين الجامح لإعادة الإعمار بمفردها مقابل منحها تفويضًا مفتوحًا لعمل ما تراه، وحصد الثمار وحدها، عبر السيطرة على الاقتصاد السوري لعقود طويلة، وهو كابوس تعيشه أوروبا وأمريكا حاليًّا، وحتى روسيا نفسها، ترفض سيطرة الصين على سوريا وانفرادها بفرض مشروعها، وحصاد ثمنه بالآجل.
من المعطيات السابقة، أصبح الحديث عن اندلاع حرب اقتصادية من أجل السيطرة على الكعكة السورية، ليس محل قصص من الخيال أو تأويلات من وحي الصراع الدائر، بل معطيات واضحة لما يدور على الساحة من تجاذبات بين القوى العالمية للحصول على حق إعادة إعمار سوريا؛ المملكة العربية السعودية والإمارات من جانب، وإيران وتركيا والصين من جانب آخر، في الوقت الذي تقف فيه أوروبا بالمرصاد للجميع.