رسالة إلى أبي …………….في مقابر الأرقام
اسمي مؤمن .. سمّاني والدي بهذا الاسم لشغفِهِ بفلسطين.. وحُبّه لهذا الوطن السليب.. صَحَوتُ على الدنيا وأنا يتيم.. فوالدي اغتيل منذ أثني عشر عاماً في مدينة الخليل ..
والـدي الحـبيب..
كم هي بائسةٌ هذه الحياةُ التي حرمتني من وداعك الوداع الأخير.. كم أنا شقيٌّ … سامحني يا أبي.. أنتَ ترقد الآن إلى جوار إخوانك وأحبابك في مقبرة الأرقام.. وأنا وأمي لا نستطيع حتى زيارة ضريحِكَ .. وقراءة الفاتحة لروحك الطاهرة..
ليست هذه رسالةً عاديةً يبعثها طفل الى أبيه الأسير، بل هي أقسى من ذلك، هي رسالةُ بعث بها نجل الشهيد عادل عوض الله الى جثمان والده المحتجز في مقابر الأرقام.
ومن المقرر أن تسلم قوات الاحتلال الإسرائيلي رفات الشهيدين عماد وعادل عوض الله من مدنية البيرة مساء اليوم الثلاثاء، بالإضافة الى جثمان الشهيد توفيق محاميد من قرية دير أبو ضعيف شرق مدينة جنين و رفات الاستشهادي عز الدين المصري من بلدة عقابا بمحافظة طوباس.
لا يُعلم تاريخ استشهاد الشقيقين عوض الله اذا ما زالت تفاصيل اغتيالهما غامضة، لكنّهما مختطفان من قبل قوات الاحتلال منذ عام 1998، أمّا الشهيد توفيق محاميد فقد ارتقى شهيدا عام 2002 ويعود جثمانه لذويه بعد اثني عشر عاما و الشهيد عز الدين المصري ارتقى خلال عملية استشهادية نفذّها في مطعم سبارو بشارع يافا وسط القدس المحتلة في شهر آب أغسطس من العام 2001، وقتل فيها 19 إسرائيليًا، وجرح 120 آخرين بحسب اعترافات الاحتلال وبذلك يعود لأهله بعد غياب دام أكثر من اثني عشر عاما.
ما هي مقابر الأرقام؟
تحتجز دولة الاحتلال أعداداً غير معروفة من جثث الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين استشهدوا في مراحل مختلفة من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
و لغاياتٍ مختلفة أقامت دولة الاحتلال مقابر سرية عرفت باسم مقابر الأرقام، هدفت منها الى معاقبة ذوي الشهداء وحرمانهم من لحظة وداع لأبنائهم، إذ إنّ “حكومة الاحتلال لا تكتفي بمعاقبة الأحياء، بل بمعاقبة الأموات بعد موتهم، ومعاقبة أهاليهم وأطفالهم الذين يفتقدون إلى قبرٍ لابنهم يضعون عليه ورداً أو يزورونه في أيام العيد” ، ويرى مراقبون أن من الغايات الأخرى لمقابر الأرقام محاولة الاحتلال الإسرائيلي التغطية على جرائمه بحقّ أفراد يختطفهم ثم يقضون تحت التعذيب فيحتفظ بجثثهم تجنبا لفضائح دولية، وسعياً “لإخفاء حقائق ومعطيات تثبت ممارساته التعذيب الشديد، وأن كثير من الشهداء قد اعدموا بعد أسرهم”، ويأتي احتجازهم اخفاءً لهذه الحقائق وهروباً من المسؤولية الدولية، كما يبرز سبب آخر أكثر خطورة يتعلق بسرقة أعضاء من أجساد الشهداء كما كشف صحفيّ سويدي في تقرير له نشر عام 2009.
إلى يومنا هذا كشف الاحتلال الإسرائيلي عن أربع مقابر أرقام، فضلاً عن احتجازه لعدد آخر من الجثث في ثلاجات الموتى، وبحسب المصادر المختلفة فأن:
- المقبرة الأولى والأقدم أقيمت في نهاية السبعينيات قرب جسر آدم في غور الأردن كما كشفت مصادر صحفية إسرائيلية، وهي محاطة بجدار، فيه بوابة حديدية معلق فوقها لافتة كبيرة كتب عليها بالعبرية ” مقبرة لضحايا العدو ” ويوجد فيها أكثر من مائة قبر، وتحمل هذه القبور أرقاماً من (5003 – 5107) -ولا يعرف إن كانت هذه الأرقام تسلسليه لقبور في مقابر أخرى أم كما تدعي “إسرائيل” بأنها مجرد إشارات ورموز إدارية لا تعكس العدد الحقيقي للجثث المحتجزة في مقابر أخرى.
- المقبرة الثانية تعود للعام 2000 بحسب مصدر صحفي إسرائيلي أيضاً ، وتقع بجوار معسكر «عميعاد » العسكري في شمال فلسطين المحتلة، وجسر ” بنات يعقوب ” عند ملتقى الحدود السورية – اللبنانية، وتفيد بعض المصادر عن وجود ما يقرب من 500 قبر فيها لشهداء فلسطينيين ولبنانيين غالبيتهم ممن سقطوا في حرب 1982، وما بعد ذلك.
- المقبرة الثالثة ” ريفيديم ” وتقع في غور الأردن.
- المقبرة الرابعة مقبرة ” شحيطة ” وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا الواقعة بين جبل أربيل وبحيرة طبريا. غالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965 – 1975. وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة ينتشر نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً.
حالة هذه المقابر:
المقابر السرية عبارة عن مدافن بسيطة، محاطة بالحجارة بدون شواهد، ويكون مثبتا فوق القبر لوحة معدنية تحمل رقماً معيناً، ولهذا سميت بمقابر الأرقام لأنها تتخذ الأرقام بديلاً لأسماء الشهداء. ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسؤولة، ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد.
إدعاءات إسرائيلية حول آلية الدفن:
تدعي مصادر صحفية إسرائيلية أنّ جثمان كل ضحية، وفقا لامر قائد المنطقة العسكري، ينقل الى معهد التشريح، حيث تؤخذ منه عينات دم وتنشأ له بطاقة تحفظ في ملفات قيادة المنطقة و” وزارة جيش الاحتلال ” أيضا.
ويسجل في البطاقة كل التفاصيل المعروفة عن الشهيد، بما في ذلك اسمه ورقم تشخيصه. ويتم تصوير الجثة،ثم لفها ببطانية ثم بالنايلون وفي النهاية في شبكة. وتدفن الجثامين على انفراد في صناديق خشبية تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي وتدفن أرقامها التعريفية معها على شكل قطعة حديدية موضوعة داخل زجاجة او إطار.
وتدعي المصادر أن القبر يسجل على خريطة و تنصب فوقه يافطة مع رقم تعريف الجثة.
إدعاءات كاذبة:
نقلت تقارير أجنبية عن شهود عيان أنّ المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرضها للانجراف، فتظهر الجثامين منها، لتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والوحوش الضارية. وفي مقابلة مسجلة بثها التلفزيون الاسرائيلي مع البروفيسور الإسرائيلي يهودا الرئيس السابق لمعهد التشريح “أبو كبير” قال إن المقابر” تقع جميعها في مناطق عسكرية مغلقة، و يتم دفن الشهداء في قبور لا يزيد عمق القبر فيها عن 50 سم، القبور فيها متلاصقة، وقد انكشفت هذه القبور بفعل العوامل الطبيعية من مياه الأمطار و الرياح و انجرافات التربة، ما أدى إلى اختلاط عظام الشهداء بعضها ببعض “
عيسى قراقع وزير شؤون الأسرى والمحررين في رام الله بدوره يفند الرواية الإسرائيلية في مقال له إذ يقول:
” أحد شهود العيان وصف كيف تأتي الحيوانات المفترسة وتغرس أنيابها في أجساد الموتى بعد أن تنبش القبور، وكيف تنقض عليها الطيور الجارحة، مشاهد تقشعر لها الأبدان…
الجثث الأسيرة تسحبها الحيوانات أو سيول الأمطار، ويسحبها النسيان السياسي وغياب هذا الملف الإنساني الكبير عن أجندة المفاوضات وأروقة الأمم المتحدة ولجان حقوق الإنسان…
النمس كان أشرس الحيوانات التي تدخل إلى مقابر الأرقام، ويقوم بالحفر ثم يستخرج الجثة يمزقها ويأكلها وينعفها في المكان.
المصير المجهول لم يعد فقط في الحياة، وإنما أيضاً في التراب، لا أسماء ولا هوية ولا شواهد ولا استقرار ولا من يبحث عن الشهداء سوى النمس الجريء الذي يتخطى الأسلاك المكهربة وحظر منع الدخول.”
وهناك شواهد أخرى أكثر قوة تفند الرواية الإسرائيلية المزعومة، منها التحقيق الذي نشره الصحفي السويدي “دونالد بوستروم” الذي كشف عن سرقة أعضاء للشهداء، وعن عائلات فلسطينية يعود لها أبنائها وقد شقت أجسادهم على طولها، وبعض الجثامين التي تعود محشوّة بالقطن.
الإسرائيليون أنفسهم اعترفوا بالأمر، ففي تقرير نشرته القناة الإسرائيلية الثانية ذكر أنه في سنوات التسعينات استأصل خبراء الطب الشرعي في معهد أبو كبير الجلد، القرنيات، صمامات القلب والعظام من جثث فلسطينيين وعمال أجانب وجنود من جيش الاحتلال، وغالبا دون إذن من الأقارب.
وهذا ليس بغريب، فبحسب تقرير نشره موقع الجزيرة فإنّ عدداً من الأسرى المرضى يشتكون من قيام عيادة السجن بإجراء تجارب طبية ودوائية عليهم واتهموا ما تسمى بمصلحة السجون بإجراء تجارب طبية عليهم ومعاملتهم كالفئران من خلال الحقن وبعض الأدوية التي تؤدي لتدهور أوضاعهم الصحية. إذ بعث 22 أسيرا فلسطينيا مريضا قبل قرابة شهرين برسائل لذويهم اشتكوا فيها من الإهمال وسوء المعاملة وطالبوهم بتحضير أكفانهم، هكذا يعامل الصهاينة الأحياء فلماذا قد يحترمون الأموات؟
دلال المغربي شاهداً:
بتاريخ 16 من تموز عام 2008، نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية تقريرا زعمت فيه أن رفات الشهيدة المغربي قائدة عملية الشهيد “كمال عدوان” الفدائية التي نفذت عام 1978 قرب مدينة حيفا في الداخل المحتل، قد اختفى من القبر الجماعي الذي دفنت فيه مع أفراد مجموعتها الاستشهادية في مقبرة الأرقام.
وكانت الصحيفة نشرت في عنوان صفحتها الاولى “الجثة التي اختفت”، و نقلت عن مصدر أمني إسرائيلي ادعاءه “أن الوحدات الاسرائيلية المسؤولة عن نبش القبور لم تعثر على جثمان دلال المغربي خلال عملية نقل رفات الشهداء من مقابر الأرقام” في اطار عملية التبادل مع حزب الله.
وأشارت الصحيفة الى أن الأطباء أكدوا “أن جميع الجثامين التي تم نقلها من داخل القبر الجماعي الذي دفنت فيه دلال مع أفراد مجموعتها، كانت جثثا لرجال”.
مصدر إسرائيلي كبير في الحاخامية العسكرية علّق على هذه الحادثة قائلا” إحدى المشاكل هي انه في المقبرة لضحايا العدو لا توجد بنية تحتية من الاسمنت مثلما في المقابر المدنية والعسكرية “
الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء:
بتاريخ 27 آب/أغسطس من العام 2008 أطلق مركز القدس للمساعدة القانونية و حقوق الإنسان الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب والكشف عن مصير المفقودين وكان قد تقدم والد أحد الشهداء للمركز بطلب متابعة قضية ابنه لدى المحكمة الصهيونية، فارتأى مجلس إدارة المركز أن لا تكون متابعة القضية كقضية فردية ما دامت تشمل مئات الشهداء و المفقودين، ومن هنا انطلقت الحملة التي أثمرت جهودها عن تحرير 118 شهيدة و شهيد، 27 منهم بفعل الجهود القانونية ،و البقية بفعل الجهود السياسية و الدبلوماسية التي بذلتها السلطة الفلسطينية.
هذا التقرير يأتي ضمن سلسلة تقارير مشتركة بين نون بوست وشبكة قدس الإخبارية