في وقت سابق من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، جمع مؤتمر الأمم المتحدة الأول عن الهجرة، في مدينة مراكش المغربية، قادة من جميع أنحاء العالم للتصدي للهجرة العالمية، بعد يومين من المداولات، وقَّعت 150 دولة الاتفاق العالمي للهجرة (GCM)، الذي دعا إلى تنفيذ سياسات أكثر إنسانية لضمان الهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة.
لكن المؤتمر والاتفاق كانا إلى حد كبير منبرًا لازدواجية الغرب، فالدول الأوروبية والولايات المتحدة لا تهتم حتى الآن “بأمان” المهاجرين واللاجئين الذين يتوجهون إلى حدودهم، بل إن أوروبا، وخاصة قوتها اليمينية المتصاعدة، تبنت بشكل متزايد أسلوب “إسرائيل” في التعامل مع السكان “غير المناسبين”.
أصبحت أوروبا بشكل متزايد واحدة من الأسواق الرئيسية لتكنولوجيا الحرب والأمن الإسرائيلية
في الواقع، إن صناعة أمن الحدود في أوروبا والولايات المتحدة مزدهرة، وفي كلا المكانين، تعمل “إسرائيل” بسياساتها الأمنية العسكرية سيئة السمعة كنموذج يحتذى به ومورد تكنولوجي رئيسي؛ لذلك، ليس من المستغرب أن تصبح آليات مراقبة الحدود الأوروبية والأمريكية على نحو متزايد وحشية وغير إنسانية مثل “إسرائيل”.
في حالة أوروبا، لا فرق في أن بعض قادتها قاموا بمحاولات وديعة لانتقاد استخدام “إسرائيل” للقوة غير الملائمة ضد الفلسطينيين وحصارها المدمر على غزة الذي ظل قائمًا منذ ما يقرب من 12 عامًا، وعلى الرغم من ذلك، أصبحت أوروبا بشكل متزايد واحدة من الأسواق الرئيسية لتكنولوجيا الحرب والأمن الإسرائيلية، وهي نفس التجربة التي جرى اختبارها واستخدامها ضد الفلسطينيين والمهاجرين واللاجئين الذين يحاولون الوصول إلى الحدود الإسرائيلية.
العنصرية المشتركة بين “إسرائيل” وأوروبا
“من واجبنا حماية حدودنا ضد المتسللين غير الشرعيين، هذا ما فعلناه، وهذا ما سنواصل القيام به”، قال ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بيان للصحافة، معلنًا أن “إسرائيل” لن تنضم إلى ميثاق الهجرة الدولي للأمم المتحدة الذي تم توقيعه من معظم حكومات العالم.
ومن المعروف أن “إسرائيل” دولة تمارس العنصرية ضد السكان الفلسطينيين الأصليين على أساس العرق والدين، وفي السنوات الأخيرة، أضاف تدفق المهاجرين الأفارقة واللاجئين الذين حاولوا اللجوء في “إسرائيل” عبر حدود سيناء، عنصرًا جديدًا للعنصرية الإسرائيلية، الذي ارتكز على اللون.
يتطابق الخطاب العنصري الإسرائيلي على نحو متزايد مع اليمين المتطرف الأوروبي
في مارس/آذار من العام الماضي، وصف أكبر حاخام شرقي إسرائيلي يتسحاق يوسف، خلال تلاوته إحدى الصلوات التلمودية، أصحاب البشرة السوداء بـ”القردة، مستخدمًا الكلمة العبرية المُهينة “كوشي”، وبعدها استخدم كلمة “قرد” لوصف شخص أسود البشرة، وانضم نتنياهو، إلى جانب مسؤولين إسرائيليين آخرين، إلى الخطبة العنصرية في مناسبات عديدة، وقال إن تدفق المهاجرين من إفريقيا أسوأ بكثير “من أعمال الإرهاب المنبثقة عن سيناء”، وفي الحالتين، يتطابق الخطاب العنصري الإسرائيلي على نحو متزايد مع اليمين المتطرف الأوروبي.
“انتهى الحفل” هو شعار متكرر يستخدمه وزير الداخلية الإيطالي وزعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف ماتيو سالفيني لنقل فكرة مضللة تمامًا ترى أن اللاجئين أناس يريدون “العيش” على قوت الشعب الإيطالي، ولطالما وصف أعضاء حزب “لاليغا نورد – رابطة الشمال”، أكبر حزب يميني متطرف في إيطاليا يرأسه سالفيني، وبصورة مخزية، سيسيل كينجي – أول وزيرة إيطالية من أصل إفريقي تتولى منصب وزيرة التكافل بـ”القرد” و”العاهرة”، وتلك كلمات مرعبة ضمن مفردات عنصرية متزايدة باستمرار تستخدمها الأحزاب اليمينية المتطرفة في البلاد.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني
لم يكن من المفاجئ إذًا أن تجد سالفيني، النجم الصاعد لما يمكن اعتباره حركة فاشية جديدة في إيطاليا، ضيفًا مرحبًا به في “إسرائيل”، وفي أول زيارة له إلى تل أبيب في مارس/آذار 2016، حاول الوزير الإيطالي أن يبيض سمعته الملطخة بالعنصرية ومعاداة السامية التي ارتبطت تاريخيًا باليمين المتطرف في إيطاليا، وأشاد بـ”إسرائيل” على أنها تتمتع بـ”أكثر الديمقراطيات تطورًا في العالم، ونموذج يحتذى به في سياسات الأمن ومكافحة الإرهاب”.
في يونيو من هذا العام، أصبح سالفيني وزيرًا جديدًا للداخلية في إيطاليا، وبصورة مجادلة، أقوى سياسي في البلاد، وهكذا، عندما عاد إلى “إسرائيل” في وقت سابق من الشهر الماضي، كانت “صداقته” مع نتنياهو مصدر فخر لكليهما، وجاءت رحلته إلى “إسرائيل” مباشرة بعد مؤتمر مراكش، حيث انضمت الدولتان أيضًا إلى جهود لمقاومة السياسات التي تعمل نحو الهجرة “الآمنة” والكرامة.
لم تفوِّت الحكومة الإسرائيلية فرصة عرض أمن حدودها لسالفيني، فتم اصطحابه في جولة على الحدود مع لبنان، حيث – بحسب تغريدة – “الإرهابيون الإسلاميون يحفرون الأنفاق ويضعون الصواريخ لمهاجمة إسرائيل”، ويقول جيش الاحتلال الإسرائيلي إنه كشف أنفاقًا هجومية حفرها حزب الله عبر الحدود من لبنان.
لم تكن الجولة من قبيل المصادفة، فإيطاليا هي واحدة من العديد من الدول الأوروبية التي تهتم بشكل كبير بتكنولوجيات وإستراتيجيات أمن الحدود الإسرائيلية وتضغط من أجل اعتمادها على مستوى الاتحاد الأوروبي.
هوس “إسرائيل” وأوروبا بأمن الحدود
كانت الوكالة الأوروبية للحدود وخفر السواحل “فرونتيكس” – وهي وكالة تابعة للاتحاد الأوروبي ومقرها وارسو – في طليعة توظيف التكنولوجيا العسكرية للأغراض المدنية، على الرغم من الآثار الواضحة لهذه السياسة على تآكل الحريات المدنية وحقوق الإنسان الأساسية، ولسوء الحظ، تمت تسوية النقاش الأوروبي بشأن هذه القضية لصالح المتحمسين للأمن.
وقبل بضع سنوات، احتل النقاش عن إمكانية استخدام الطائرات دون طيار للسيطرة على طرق الهجرة واللاجئين، مركز الإعلام الأوروبي والأوساط السياسية، في ذلك الوقت، جادل الكثيرون بأن مثل هذه التكنولوجيا يمكن أن تنتهك الحقوق الأساسية، مثل الخصوصية والحق في طلب اللجوء – وهو محمي بموجب القانون الدولي – وحرية الحركة، وما إلى ذلك.
تستغل “إسرائيل” بمهارة العقلية الأوروبية المهووسة بالأمن من أجل توسيع نطاق انتشارها في السوق العسكرية
واليوم، أصبح استخدام الطائرات العسكرية دون طيار أمر طبيعي في مثل هذه الأمور، مع انتشار خطاب الأمن القومي في المجال العام، بفضل سياسة التخويف والتفرقة، وفي عام 2009، قدَّرت السوق الأوروبية لأمن مراقبة الحدود بين 6 و8 مليارات يورو (7-9 مليارات دولار)، واليوم، من المتوقع أن تصل هذه السوق إلى 50 مليار يورو على مستوى العالم بحلول عام 2022، وجزء كبير منها يُطالب به الإنفاق الأوروبي.
“إسرائيل”، كدولة ضليعة في التلاعب بمصطلح “الأمن”، تستعد للاستفادة بشكل كبير من هذا التطور، إنها بالفعل تستغل بمهارة العقلية الأوروبية المهووسة بالأمن من أجل توسيع نطاق انتشارها في السوق العسكرية، وهي سابع أكبر مصدر للأسلحة في العالم، وتظهر كشركة رائدة في مجال التصدير العالمي للطائرات دون طيار.
وتحظى العلامة التجارية الإسرائيلية بشعبية خاصة، لأن التكنولوجيا الخاصة بها “القتال المؤكد”. في الواقع، لقد أُتيح لجيش الاحتلال الإسرائيلي فرصة كبيرة لاختبار سلاحه المتنوع ضد المدنيين الفلسطينيين.
شراء تكنولوجيا أمنية تم اختبارها على الفلسطينيين
عام 2008، استخدم جيش الاحتلال طائرات “هرمز 450” (Hermes 450) دون طيار لضرب غزة؛ مما ساهم في وقوع آلاف القتلى والجرحى المدنيين من سكان القطاع، كانت الطائرات واعدة ومثيرة للاهتمام؛ مما ساعد الشركة المصنعة شركة إلبت (Elbit Systems) عملاق التكنولوجيا العسكرية وصناعة الأسلحة الإسرائيلية على تسويقها وبيعها لعدد من دول العالم، ثم طورتها الشركة إلى النسخة الأكثر تقدمًا والأضخم حجمًا والأقوى تسليحًا “هرمز 900” (Hermes 900).
الشركات التي تقدم الأسلحة إلى الشرق الأوسط ونزاعاته هي نفسها التي تكسب دخلاً هائلاً من بيع التقنيات المستخدمة لدرء الأشخاص الذين يفرون من هذه الصراعات نفسها
وفي وقت سابق من هذا العام، فازت شركة “إلبت” العسكرية الإسرائيلية بعقد مدته سنتين بقيمة 68 مليون دولار مع الاتحاد الأوروبي لتوفير خدمات نظام الطائرات البحرية دون طيار، وستقوم بنشر وتشغيل نظام “هرمز 900” للدوريات البحرية، وهو نفس النظام الذي اُستخدم خلال الهجوم الإسرائيلي الدموي على غزة عام 2014، وأثنى الجيش الإسرائيلي على الطائرات دون طيار باعتبارها “استثنائية” و”رصيدًا حقيقيًا” في الحرب التي قتلت 2250 فلسطينيًا، من بينهم أكثر من 500 طفل.
تعاقدت الوكالة الأوروبية لمراقبة وحماية الحدود الخارجية بالفعل مع شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية “IAI” لاستخدام نظام الطائرات عن بعد التابع لها في المهام الأمنية اليومية وحراسة السواحل، وقد استخدمت هذه التقنية أيضًا في الهجوم الإسرائيلي على غزة في عام 2014.
وتدفع الوكالة الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي مبلغًا قدره 4.75 مليون يورو لشركة صناعات الفضاء الإسرائيلية، كما أبرمت عقدًا مع شركة الدفاع الإيطالية المملوكة للدولة، ليوناردو (شركة فينميكانيكا سابقًا) لتكنولوجيا الاستشارات التقنية والحلول التكنولوجية مقابل 1.7 مليون يورو.
إنه لمن دواعي السخرية – والقول تمامًا – أن هذه الشركات التي تقدم الأسلحة إلى الشرق الأوسط ونزاعاته هي نفسها التي تكسب دخلاً هائلاً من بيع التقنيات المستخدمة لدرء الأشخاص الذين يفرون من هذه الصراعات نفسها.
وفي الوقت الذي تساعد فيه هذه الشركات في التدمير المنهجي لبلدان الشرق الأوسط بأكملها، فإنها تساهم أيضًا في الفكرة الأكثر شعبية، التي تقول إن “أوروبا الحصينة” تحتاج إلى حماية عسكرية.
ولعل ما يمكَّن من التعاون الإسرائيلي الأوروبي ويمكَّن “إسرائيل” كـ”حامي لأوروبا” هو التطابق بين الخطاب السياسي اليميني المتطرف المؤيد لـ”إسرائيل” والحركات الشعوبية اليمينية المتطرفة التي تعصف بأوروبا.
في 16 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبعد أيام قليلة من مؤتمر المغرب عن الهجرة، احتج الآلاف من نشطاء اليمين المتطرف في بروكسل ضد الميثاق العالمي للهجرة، وتحول الاحتجاج الذي أطلق عليه “مسيرة ضد مراكش” إلى أعمال عنف عندما اشتبك محتجون مناهضون للاجئين مع الشرطة، وتمثل اشتباكات بروكسل الوجه الجديد لأوروبا الذي يتمثل في عدم التسامح، الذي يعصف بالخوف ويعرض للأفكار العنصرية واليمينية المتطرفة.
وفي حين أن البيئة السياسية الجديدة لن تبشر بخير لمستقبل أوروبا، فهي حقيقة تلائم “إسرائيل” فقط بشكل جيد، ليس فقط لأنها تتفق مع أجندتها المناهضة للمسلمين، ولكن أيضًا لأنها فرصة رائعة لتوسيع سوق أسلحتها التي تم اختبارها في ميدان القتال ضد الفلسطينيين.