مشوار البشرية بدأ منذ آلاف آلاف السنين وأثر الإنسان واضح عبر التاريخ من خلال ما تركه من رسومات على الكهوف أو ما نقشه على الأعمدة والأقواس، من خلال المعابد الضخمة والأواني المزخرفة، وإن كان كل ما سبق ذكره ماديًا ملموسًا فإنه لم يكن يخلو من القيمة الجمالية التي تُعبر عن رغبة الإنسان في تجلي قيمته الحضارية (الحضارة التي تُخرجه من المُباشرة ومن التعامل الحتمي مع الطبيعة).
فرغم أنه كان يبحث عن سد حاجته الحياتية اليومية كان في ذات اللحظة يستجيب لرغبة كامنة فيه كي يتجاوز المنفعة البحتة ويُحقق من خلال العمارة والنقش وحتى الأكل، تفرده، أي يُحقق من خلال وجوده وكينونته، أنه صحيح يعيش في الطبيعة، لكنه منفصل عنها بالقيمة التي يُضفيها على الأشياء.
ونستحضر قصة شهيرة في علم الأنثروبولوجيا عن امرأة من قبائل الإسكيمو افترقت عن أسرتها في أثناء إحدى العواصف، وحين عثروا عليها بعد فترة من الزمن، كانت قد حاكت فستانًا مزينًا بالزخارف ليدفئها، ما أهمية هذا المثال هنا؟ إنه يريد القول إن تلك المرأة كانت تبحث عن المنفعة (الدفء هنا) وكانت في نفس الوقت تبتكر شيئًا خاصًا بها ينبِئ بإنسانيتها، وتدخلت حاسة الجمال لتُرافق تحقيق المنفعة.
تراجعت مشاهد الجمال كثيرًا في كل أوجه الحياة البشرية بصفة عامة، في البيوت والحدائق، في الشوارع والمُدن الحديثة صار كل ذلك بارد المعالم مُتبلدًا
هكذا تمامًا كان يتجلى الإنسان في كل ما ترك من أثر خلفه في الحصون والمدن القديمة والكنائس والمساجد والساحات العامة والأثاث من أبسط شيء كالصحون المليئة بالنقوش حتى أكبر قلعة شُيدت بقدرة على الإبداع والتميز هائلة، غير أن هذا النسق المتدفق من التميز انحسر بشكل كبير رغم تنامي العلوم التي كان من شأنها أن تُسهل على الإنسان تطوير إمكاناته ليصل إلى مستوى أرفع من الجمال، لكن يبدو أن العلم صار هو الهدف في حد ذاته وليس الوسيلة، لذلك صارت المنفعة البحتة أقصى ما يمكن أن يصل له الإنسان اليوم.
منفعة مُجردة من روح الإنسان الذي أوجدها، يقول الفيلسوف جورج سانتيانا في كتابه الإحساس بالجمال: “… وإدراكنا لجمال الفن هو إدراك للقيمة التي أضفناها نحن إلى الأشياء”، يعني أنه حين نتعامل مع الأشياء بصفة مُباشرة جدًا فإننا نتعامل مع “الوظيفة” أي المنفعة التي نجنيها من ذاك الشيء وحين يصبح الإنسان واعيًا بذاته لا يعمل كالآلة فهو يسير بخط المنفعة مُرافقة مع خط الجمال، يُضيف لمسته الخاصة ويطبع حضوره في كل ما يُحيط به، إضفاء القيمة على الأشياء هو فعل إنساني بامتياز.
جرب أن تدخل مدينة عتيقة، ستشعر بالإنسان الفريد، بروعة ما تصنع يد الإنسان وما يبتكر فكره
تراجعت مشاهد الجمال كثيرًا في كل أوجه الحياة البشرية بصفة عامة، في البيوت والحدائق، في الشوارع والمُدن الحديثة صار كل ذلك بارد المعالم مُتبلدًا، تراجعت القيمة في أسلوب حياة الإنسان المُعاصر بشكل يُثير الدهشة.
على عكس ما كان من قبل، في قرون مضت، كانت نشاطات الإنسان تعبيرًا مُميزًا على فرادته وحضوره الحضاري في الكون: المنازل وواجِهات المحلات والعمارات والأبنية المُختلفة كانت كلها تحمل طابع الحياة لأن الخَلق والإبداع يُدخلان الروح في عالم الأشياء، لأن الجَمال من صميم التجربة البشرية يسير معها في تواف، فهو حين كان يُشبع حاجاته المادية كان في نفس الوقت يروي شغفه بالجَمال والفن، هندسة المنازل، أثاثها والمُدن بأكملها هي أبلغ تعبير عن كون المنفعة كانت لا تنفك عن الجمال أبدًا.
صرنا في زمن اللاقيمة حقيقة، ننفك عن قيمتنا وجوهرنا المُبدع بثبات، تمامًا حين نُكدس المباني فوق بعضها بنفس المقاييس والمظهر واللون والشكل، نسخ ولصق على طريقة المعاملات الإلكترونية، ويشهد على ذلك تلك المباني الضخمة ذات الواجهات البلورية الزرقاء التي لها نُسخ في كل مكان وتُخَصص لها أحياء بأكملها، حين تدخلها لا تشعر بالقيمة والمعنى هي مُجرد كتل أسمنتية عملاقة تقف على جوانب الطرقات، مادة مُتغولة خالية من الجمال.
وجرب أن تدخل مدينة عتيقة، ستشعر بالإنسان الفريد، بروعة ما تصنع يد الإنسان وما يبتكر فكره، تكف المباني عن كونها لا تؤدي سوى وظيفة نفعية بحتة كمقر للعمل أو مقر للإقامة، وتصبح مع منفعتها شكلاً من أشكال تعبير الإنسان عن ذاته، تصبح الأماكن جامدة هامدة تستشعر فيها غربة وربما هذا ما يفسر حالة القلق الدائم التي يعيشها الإنسان في عمله مثلاً، فهو لم يخلق روحًا من الحميمية والقرب مع المكان الذي يوجد فيه، على عكس الأماكن التي يَصُب فيها الإنسان جزءًا من روحه حين يدخلها تخلق داخله شعورًا فريدًا، هو الشعور بالألفة.