لا تزال أصداء الهجوم الإسرائيلي على عدد من الأهداف العسكرية الإيرانية بمحافظات طهران وخوزستان وعيلام، فجر السبت الماضي، تلقي بظلالها على المشهد الإقليمي، وسط تباين التقديرات حول نتائج تلك العملية التي جاءت بعد قرابة 25 يومًا من التهديد والوعيد الإسرائيلي بالرد على الضربة التي نفذتها طهران ضد الكيان المحتل في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وكانت طهران قد تقدمت بطلب إلى مجلس الأمن، أمس السبت، لعقد اجتماع عاجل لبحث هذا الهجوم الذي استهدف أراضيها، فيما أعلن الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، أن الشعب الإيراني “سيرد على أي حماقة بتدبير وذكاء”، أما نائب وزير الخارجية للشؤون الدولية، كاظم غريب أبادي، فوصف تلك العملية بأنها خرق للمبادئ الأساسية للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، مطالبًا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ومجلس الأمن باتخاذ مواقف حازمة وإدانة الهجمات الإسرائيلية بقوة.
وبعيدًا عن النتائج الفعلية لهذا الهجوم الذي قال الإعلام العبري إنه نُفذ بقرابة 100 طائرة حربية واستهدف 20 موقعا عسكريًا إيرانيًا، فإن الأنظار الآن تتجه صوب العاصمة طهران ترقبًا لرد الفعل المحتمل باعتبار أن ما حدث خرق واضح للسيادة واستهداف مباشر للأمن القومي الإيراني يستوجب الرد كما تذهب بعض الأصوات المتشددة في الداخل الإيراني.. فهل ترد الجمهورية الإسلامية؟
العملية بين محدودية الخسائر وتحقيقها لأهدافها
بون شاسع بين تقديرات كل من طهران وتل أبيب لنتائج تلك العملية، حيث تذهب الرواية الإسرائيلية إلى أن العملية كانت محددة الأهداف بدقة وعناية، واستهدفت منظومة الدفاع الجوي الإيرانية ومنشآت تصنيع الصواريخ، وأنها حققت أهدافها بشكل كبير، وأحدثت إصابات بالغة في المنظومة الإيرانية ستقلص إلى حد ما القدرات الدفاعية والصاروخية للجمهورية الإيرانية، كما أسفرت تلك الهجمات عن سقوط أربعة قتلى، وفق وسائل إعلام إيرانية، لفتت إلى أن العدد مرشح للارتفاع بسبب وجود حالات حرجة.
أما على الجانب الإيراني فجاء الأمر معاكسًا تمامًا، حيث لغة التقليل والتهميش والتحقير من تلك الضربة، وصلت إلى حد السخرية والاستهزاء كما نقلت بعض وسائل الإعلام المحلية في إيران وفي روسيا على حد سواء.
فيما أشارت هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية في بيان لها أن الطائرات المستخدمة في تلك العملية “استخدمت الأجواء العراقية المتاحة للجيش الأمريكي وأطلقت من على بعد 100 كيلومتر من الحدود الايرانية عددًا من الصواريخ بعيدة المدى المحمولة جوًا ذات رؤوس خفيفة جدًا ضد بعض الرادارات الحدودية في 3 محافظات: عيلام وخوزستان وضواحي محافظة طهران، ما تسبب في أضرار محدودة ومنخفضة التأثير لبعض أنظمة الرادار إثر أداء الدفاع الجوي في الوقت المناسب، بحيث تم إصلاح بعضها ويتم العمل على تصليح الأخريات”.
وفي ظل الغموض الذي ما زال يخيم على تفاصيل ونتائج هذا الهجوم، حاول كل طرف توظيف العملية على أنها انتصار له، كل بحسب الزاوية التي ينطلق منها، حيث ركز الإسرائيليون على ما تحمله تلك الهجمات من رسالة واضحة على قوة القوات الجوية الإسرائيلية وقدرتها الفائقة على اختراق المجالات الجوية وإصابة الأهداف على بعد مسافات طويلة، فيما اعتبرها الإيرانيون اختبارًا قويًا لجاهزية الدفاع الجوي لبلادهم وقدرته على تعقب واعتراض عدد كبير من الصواريخ منع المقاتلات الإسرائيلية من دخول الأجواء الإيرانية وإجبارها على القصف من الخارج.
البوصلة الأمريكية وفرملة التصعيد
منذ الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري وبعد ساعات قليلة من عملية “الوعد الصادق 2″ التي شنتها طهران ضد تل أبيب ردًا على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، والأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، تبنى نتنياهو وغربان يمينه المتطرف وجنرالات جيشه خطابًا تصعيديًا ضد إيران، ملوحين برد حازم ومزلزل وقاسٍ، لا يهدف فقط لرد الاعتبار وإنما لتدشين معادلة ردع جديدة.
وبررت حكومة الاحتلال التأخير في الرد والذي استمر نحو 25 يومًا بتقييم المشهد ودراسة الخيارات المتاحة والأهداف المطلوبة، مؤكدة أن قرار الضربة تم اتخاذه منذ اليوم الأول للهجوم الإيراني، لكن في انتظار التوقيت المناسب واللحظة الملائمة، مع تصاعد واضح في خطاب التهديد والوعيد والذي وصل إلى التلويح باستهداف المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، وسط تأكيد من نتنياهو برفض كل الضغوط الداخلية والخارجية التي تُمارس عليه بألا تتجاوز الضربة الخطوط الحمراء.
لكن على الجانب الآخر، قد يكون لدى واشنطن حسابات أخرى غير تلك التي يلتزم بها نتنياهو، فرغم التشديد والتأكيد على استمرار الدعم المطلق لـ”إسرائيل” والتعهد بالدفاع عنها بشتى السبل، إلا أن ذلك لا يعني تهديد مصالح الأمريكان في الشرق الأوسط وإرباك الحسابات كافة قبل الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها بعد 10 أيام في ظل المنافسة الشرسة من الجمهوريين ومحاولة توظيف المشهد لحسابات انتخابية بحتة.
ومن ثم دخلت إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو في نقاشات ساخنة خلال الأسابيع الثلاث الأخيرة، في محاولة للاتفاق على رد يحفظ ماء وجه الإسرائيليين ويحافظ على توازن معادلة الردع مع طهران، وفي الوقت ذاته يجنب المنطقة الانفلات نحو حرب مفتوحة والانجرار صوب تصعيد سيحرق الجميع.
جدير بالذكر هنا أن استهداف المنشآت النفطية والنووية كما يريد نتنياهو وبن غفير وسموتريتش عملية ليست بالسهلة، وليست في مقدور جيش الاحتلال بالوقت الحالي، ومن ثم لا يمكن تنفيذها دون دعم أمريكي مطلق، وهو ما ترفضه إدارة بايدن التي مارست ضغوطها على الجانب الإسرائيلي لضبط الرد وفق البوصلة الأمريكية التي تميل ناحية إبقاء إيران – جنبًا إلى جنب “إسرائيل” – كلاعب مؤثر في المنطقة، بما يخدم مصالحها الاقتصادية والعسكرية والسياسية واللوجستية في الشرق الأوسط.
يوضع في الاعتبار هنا أن نتنياهو لو بمقدوره تنفيذ تلك العملية بمفرده لفعل، بمعزل عن الأمريكان، لكنه موقن تمامًا أن تحركًا بهذا الحجم لا يمكن دون إرادة وقرار أمريكي خالص، وعليه جاء الالتزام بعملية منضبطة بميزان المقاربات والحسابات، مكتفيًا ببعض الأهداف العسكرية دون الاقتراب من المنشآت الحساسة، نفطية كانت أو نووية، والكفيلة حال استهدافها بإشعال المنطقة بأكملها.
وسواء رضخ نتنياهو نتيجة صفقة ما مع الإدارة الأمريكية يُمنح بمقتضاها امتيازات ومكاسب اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو لوجستية، أو كان الرضوخ إقرارًا بإمكانيات بلاده المحدودة وعدم قدرتها على التعامل بحرية مطلقة وتجنيب توتير الأجواء مع الحليف الأمريكي، إلا أن النتيجة واحدة.. الرد الملتزم بقواعد الاشتباك والذي يفتح الباب أمام إنهاء الضربات المباشرة بين القوتين الحليفتين – بشكل مباشر أو غير مباشر – للولايات المتحدة.
جدلية الرد وابتلاع الضربة.. 3 سيناريوهات
ينقسم الشارع الإيراني اليوم إزاء الهجوم الإسرائيلي إلى 3 فرق:
الأول: يرى ضرورة الرد والانتقام لتلك الضربة، فرغم التقليل من نتائجها والسخرية مما حققته بحسب الإعلام المحلي وبعض الإعلام الموالي خارجيًا، فإنهم يعتبرونها انتهاكًا للخطوط الحمراء الإيرانية وللسيادة الوطنية للجمهورية الإسلامية، وهو ما لا يمكن تجاهله، وعليه لا بد من رد سريع، ويتبنى هذا الرأي عدد من أعضاء البرلمان الإيراني والتيار المتشدد داخليًا.
الثاني: وهو الفريق الذي يميل إلى الاستماع للنصائح الإقليمية والدولية التي تذهب باتجاه عدم التصعيد بالرد، حيث يرى أنصار هذا الفريق أن إقدام طهران على استهداف “إسرائيل” يعني الدخول في موجة ضربات متبادلة بين الطرفين خلال الفترة المقبلة، وهو ما ليس في صالحهما معًا، ومن ثم لا بد من ابتلاع الهجوم الإسرائيلي وعدم الدخول في جولة صدام مباشر على الأقل في الوقت الراهن.
ويعتبر داعمو هذا الرأي أن فشل تحقيق العملية الإسرائيلية لأهدافها ومحدودية تأثيرها – بحسب الرواية الإيرانية – هو اعتراف ضمني بالهزيمة أمام أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، ورسالة ردع قوية تبعث بها طهران للكيان الإسرائيلي، خاصة مع البون الشاسع بين هذا الهجوم والتصريحات العنترية الصادرة عن قيادات الاحتلال على مدار أكثر من 3 أسابيع كاملة.
الثالث: والذي يحاول مسك العصا من المنتصف، معتبرًا أن ما حدث يعد انتهاكًا للسيادة الوطنية الإيرانية يتطلب الرد، لكن ليس بالضرورة أن يكون ردًا مباشرًا وعن طريق طهران، إذ يميل هذا الرأي إلى إسدال الستار عن الضربات المباشرة مع تل أبيب مع منح الوكلاء في المنطقة على رأسهم “حزب الله” والحوثيون والمقاومة في العراق الضوء الأخضر لإيلام “إسرائيل” عبر ضربات نوعية وتكتيكية متطورة، تحقق بها إيران ما لا يمكن أن تحققه عبر الاستهداف المباشر، كما يجنبها مغبة هذا الاستهداف وتداعياته على مشروعها النووي ومكتسباتها على مدار عقود طويلة.
الكرة في ملعب الإيرانيين
بعيدًا عن التهويل والتحقير لتلك الضربة إلا أنها جاءت أقل مما كان يتوقعه الإيرانيون أنفسهم، ولا تتناسب بأي حال من الأحوال مع التصريحات العنترية لنتنياهو وجنرالاته، وهو ما يعيه نظام الملالي جيدًا، والذي بذل جهودًا دبلوماسية مكثفة خلال الأيام الماضية لإثناء “إسرائيل” عن كسر قواعد الاشتباك في ضربتها المتوقعة، حتى لا تضع طهران في مأزق وحرج يدفعها للرد، بما يُبقي عمليات الرد والرد المضاد دون نهاية.
ويثمن الإيرانيون جيدًا للولايات المتحدة جهودها المبذولة في هذا المسار ونجاحها في تلجيم نتنياهو – حتى لو أنكر ذلك – وفرملة طموحاته وأحلامه الرامية إلى إشعال المنطقة بأكملها لحسابات شخصية، وعليه لا بد من رد الجميل ومنح إدارة بايدن – عبر ابتلاع هذا الهجوم – إنجاز “التهدئة المؤقتة” بشأن هذا الملف كـ”ثمن مقبول” من أجل توظيفه سياسيًا في الدعاية الانتخابية للديمقراطيين في الانتخابات المزمع إجراؤها الشهر المقبل.
ومن هنا فليس من المتوقع أن تغامر طهران مرة أخرى بضرب العمق الإسرائيلي بعملية جديدة، قد لا تضمن معها التدخل الأمريكي لضبط رد فعل تل أبيب على ذات البوصلة التي ألزمتها إياها هذه المرة، خاصة إذا ما حملت الانتخابات الأمريكية القادمة مفاجآت تقلب الطاولة.
لكن في نفس الوقت وفي ظل صراع النفوذ والحرب الدائرة بين الطرفين، ومحاولة كل طرف تدشين معادلة ردع جديدة أو إحداث اختراقات قوية في المعادلة القديمة لصالحه، لا يمكن للمواجهات بينهما أن تتوقف، حتى لو انتهت الحرب الدائرة حاليًا، سواء في غزة أو على الجبهة اللبنانية، لكن ليس شرطًا أن تكون المعركة مباشرة على شاكلة طهران – تل أبيب.
وفي الأخير.. وبعدما باتت الكرة اليوم في ملعب الإيرانيين، فإن لدى طهران فرصة لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوراق – إذا أرادت – لإبقائها في المنطقة الدافئة بعيدًا عن أي استفزاز يدفعها للدخول مجددًا في ضربات متبادلة مباشرة مع دولة الاحتلال، لتطلق طهران العنان لأذرعها ووكلائها في المنطقة للقيام بهذا الدور، حتى إشعار آخر، ليدفعوا وحدهم فاتورة صراع النفوذ بين حليفي الولايات المتحدة.