“بتعرف شو قمة الرعب؟ إنه تصف جنبك سيارة شيروكي لبناني على أوتوستراد المزة”، هذا ما كتبه أحد السوريين عبر حسابه في “فيس بوك” في إشارة إلى الخوف بعدما أصبحت السيارات اللبنانية في بعض الأماكن تثير القلق من احتمال تعرضها للاستهداف الإسرائيلي.
كما كتبت الصحفية الموالية للنظام ديانا جبور، ومديرة تلفزيون النظام سابقا، وتشغل حاليًا منصب مدير شركة إيمار الشام الفنية التابعة لمجموعة سامر الفوز، عبر حسابها في “فيس بوك”: “إجاني عرض مداكشة بيتي بالمزة على بيت بصحنايا، الجماعة لقمتهم صغيرة وما بدهم مصاري”.
خلال الأيام الماضية شهدت مواقع التواصل الاجتماعي انتشار مئات المنشورات التي تتناول بطرق ساخرة ومبطنة القلق الذي يعيشه السوريون، حيث يستخدم كثيرون هذه المنشورات، التي تجمع بين الكوميديا السوداء والسخرية، كوسيلة للتنفيس عن مخاوفهم من التصعيد العسكري الذي يطال أهدافًا إيرانية ولبنانية مرتبطة بـ”حزب الله” في سوريا، بما في ذلك مناطق مهمة في العاصمة ومدن أخرى.
وتعكس هذه المنشورات القلق المتزايد من العواقب الأمنية، حيث يشعر السوريون بعدم الأمان مع الاستهداف المتكرر، الذي طال أيضًا مواقع تابعة لقوات النظام السوري ومعابر حدودية بين سوريا ولبنان.
خلال الأسابيع الأخيرة، استهدفت إسرائيل مناطق سكنية في أحياء راقية في سوريا وخاصة حي المزة وكفرسوسة بدمشق، مستهدفةً قياديين عسكريين مرتبطين بـ”حزب الله” وإيران، حسب قولها، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى بين المدنيين.
آخر هذه الهجمات كان في 21 من الشهر الجاري، عندما استهدفت إسرائيل سيارة في حي المزة بدمشق، وبينما أعلنت وزارة الدفاع التابعة للنظام مقتل شخصين وإصابة ثلاثة آخرين، أعلن الجيش الإسرائيلي قتل رئيس وحدة تحويل الأموال في حزب الله.
وفي الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، استهدف قصف إسرائيلي مبنى سكنيا قرب السفارة الإيرانية في حي المزة، ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص وإصابة 11 آخرين، كما قتل أربعة أشخاص مطلع الشهر في غارة إسرائيلية استهدفت الحي نفسه.
وحسب ما رصدت “نون بوست” فإن القصف الإسرائيلي دفع العديد من العائلات في المنطقة إلى إخلاء منازلها التي يشتبه بوجود عائلات غريبة فيها، وخاصة من الجنسيات الإيرانية واللبنانية، خوفًا من وجود قيادين بينهما واستهدافهما.
عائلة الحموي كانت أحد العائلات التي أخلت منزلها الذي تقطنه منذ 20 عامًا في حي كفرسوسة بعدما تبين وجود شخصين لبنانيين في أحد منازل المبنى.
ويقول رب الأسرة، طلب عدم الكشف عن اسمه، لـ”نون بوست”: “لا ندري إن كانوا مجرد لاجئين أم حزبيين وعسكريين، لكننا لسنا مستعدين لفقدان حياتنا بسببهم”.
ويضيف “كفرسوسة قصفت مرارًا خلال الأسابيع الفائتة، وهي أرقى أحياء الشام وفيها شِعبٌ وإدارات أمنية ومجلس الوزراء والخارجية وغيرهم، تركنا لهم كفرسوسة بأكملها وانتقلنا إلى ريف دمشق حيث يبدو أكثر أمانًا لنا وأكثر ابتعادًا عن رجال الظلّ أولئك”.
في منطقة نهاية أوتوستراد المزة، قرر المحامي عاطف طافر مغادرة منزله وتسليمه قبل انتهاء عقد الإيجار بثمانية أشهر، رغم أنه كان يتمتع بسعر إيجار منخفض مقارنة بالعقارات المجاورة، بعدما شهد في الأسابيع الأخيرة القصف المتكرر في محيط منزله، ما جعله يشعر بأن سلامته باتت مهددة، فاختار أن يولي اهتمامه لحياته وأمنه الشخصي قبل كل شيء.
يقول طافر “أنا مع دولتي قلبًا وقالبًا وأعمل كلّ يومٍ في مهنتي وأقابل أهل الشام من كل التوجهات وخصوصًا الرسميين منهم، وتركي لمنزلي ليس تغييرًا في موقفي السياسي، ولكنّي ببساطة لا أريد الموت لأجل جارٍ لا أعلم من هو، بإمكانهم تركنا في مناطقنا المدنية والاختفاء في المربعات الأمنية والشقق المبهمة والقرى البعيدة، لماذا يسكنون بيننا ونقصف نحن وهم ومن ثمّ نموت جميعًا، وأحيانًا نموت نحن لا هم”.
تسللوا كالنمل
لم تكن الأحياء الراقية في دمشق فقط هي المستهدفة من قبل إسرائيل، وإنما شملت أحياء حمص، حيث استهدفت غارة جوية قبل أشهر مبنى سكنيًا في حي الحمراء بحمص، وكانت المرة الأولى التي يستهدف فيها أهم أحياء المحافظة والذي تمثله الأكثرية المسلمة دون اختراقات دينية أخرى على الإطلاق.
واستهدفت الغارة الجوية اجتماعًا لأشخاص من لـ”حزب الله” ما أدى إلى تدمير المبنى بأكمله الأمر الذي دفع “هدى. س” وأسرتها لاتخاذ قرار مغادرة الحيّ فورًا والتوجه نحو الريف الحمصي.
قررت هدى وعائلتها ترك أحد أهم أحياء حمص، والانتقال إلى قرية صغيرة على طريق مصياف شمال غرب حماة. ورغم أن القرية، لا ترقى إلى المستوى الاجتماعي الذي اعتادوه في حيهم السابق، إلا أنهم اختاروا الاستقرار فيها لما توفره من أمان نسبي، فالقرية تتميز بنسيج اجتماعي متجانس يرفض وجود الغرباء، وبُعدها عن المواقع العسكرية يجعلها أقل عرضة للاستهداف، مما يمنحهم شعورًا بالاطمئنان في ظل الظروف الراهنة.
تقول هدى لـ”نون بوست”: “هل تدرك ماذا يعني أن تترك أكبر وأعظم حي في حمص لتقطن في قرية بعيدة؟ وكلّ ذلك لأجل ماذا، لأجل غرباء تسللوا لا أدري كيف إلى أحيائنا، ولكن كما يتسلل النمل من شقوق الأبواب، فشقوا معيشتنا ودمروها”.
من جانبه أكد أحمد، طلب عدم الكشف عن اسمه الكامل، إخلاء “حزب الله” مقاره أو معظمها في منطقة الأوراس جنوب غرب حمص بعد التهديدات الأخيرة، وبعد أن كان قد اتخذ المنطقة ممتدة الاتساع وهي منطقة فلل ومصايف، كرهينة لأعماله العسكرية والإدارية.
يقول أحمد لـ”نون بوست”: “نحن أولاد المنطقة، وعلمنا ورأينا كيف بدأوا يخلون مناطق تواجدهم باتجاه القصير غرب حمص، وهناك يملكون قوّة ضاربة، وكان يتناهى لسمعنا أن قائدهم من آل هاشم على ما أذكر، ولم يكونوا يثقون بنا أو يتواصلون معنا، والمهم أنهم خرجوا ويخرجون، فقد تلقينا ضربات عدّة حولنا وفي جوارنا”.
دير الزور.. السوريون يرفضون تأجير بيوتهم للإيرانيين خوفًا من القصف الإسرائيلي
الإيجار عبر سوريين
في الآونة الأخيرة، تصاعدت ظاهرة استئجار الإيرانيين لمنازل في سوريا عبر وسطاء سوريين، حيث يقوم السوريون بتوقيع عقود الإيجار بالنيابة عنهم، لكن الإيرانيين هم من يشغلون المنازل فعليًا، وعندما يكتشف أصحاب العقارات أو المكاتب العقارية هذا التلاعب، ويحاولون إخلاء المنازل، يواجهون صعوبة بالغة في إخراجهم.
أحد المكاتب العقارية في دمشق أكد لـ”نون بوست” تأجيره مؤخرًا لشقق لأشخاص أو عوائل يفترض أنّهم سوريون ليفاجأوا بعد مدة بأن سكان تلك الشقق أشخاص غرباء ومن جنسيات متعددة، عراقية ولبنانية وإيرانية، وهو ما أثار مخاوف أصحاب الشقق كثيرًا، لكنّ خوفهم الأكبر كان من محاولة إخراجهم.
ويقول مالك إحدى الشقق لـ”نون بوست”: “حين علمت بالأمر توجهت مع المختار إلى منزلي وطرقنا الباب طويلًا، على مدار أربعة أيام ولا إجابة، ثمّ علمنا من الجيران أنهم لا يخرجون إطلاقًا، وفي ساعة محددة كل بضعة أيام تصلهم المؤن وأشياء أخرى من أشخاص محددين، فتوجهنا إلى الأمن السياسي لنقدم شكوى، وهناك لاحظنا أن الأمن نفسه ممتعض”.
ويدفع العسكريون الإيرانيون أو المنتمون لـ”حزب الله” مباشرةً أو بواسطة غطاء سوري لهم مبالغ كبيرة لإيجار شقة، ما يجعل مالكها يرضخ ويوافق فورًا، لكن مستجدات الأمور المتسارعة والقصف المتواتر على دمشق في عمق الأبنية السكنية دفع الأجهزة الأمنية للتحرك وفق إيعاز على أعلى مستوى، بحسب معلومات خاصة لـ”نون بوست”.
وتولى الأمن السياسي مهمة المتابعة، حيث بات يطلب أي شخص يريد أن يؤجر منزله أو يعرض منزله للإيجار للاستيضاح منه، وخاصةً في مناطق كفرسوسة والمزة وطريق المطار، ويزودهم بتعليمات صارمة أن يتم عرض بيانات المستأجر على شعبة المخابرات السياسية أولًا للحصول على موافقة.
وحسب ما قاله مصدر أمني مطلع لـ”نون بوست” فإن هذا الإجراء جاء بعد تجاوز عسكريين غير سوريين للبروتوكول المعمول به في تأمينهم وضياع حلقة الثقة بين الطرفين واستخدام المستأجرين لحلقات وساطة دون إبلاغ السلطات الرسمية للنظام السوري، ما خلق حالة إرباك تمثلت في قصف دمشق مرارًا بسببهم.
ويضيف المصدر: “كانت سلطاتنا دائمًا تتولى مسؤولية تأمينهم وحمايتهم، لكن يبدو أن شيئًا ما حصل بيننا وبينهم يتعلق بالثقة واتهام بعض ضباطنا بإعطاء الإحداثيات لقصفهم، فصاروا يلجأون للسكن سرًا، وهذا يتنافى مع سيادتنا على أراضينا، لذا قررنا التشدد معهم”.
وسط هذا الواقع المتوتر، باتت الريبة واضحة على وجوه الناس وهم يتنقلون بين الأحياء، أو يقفون على الشرفات يراقبون بقلق، أو ينتظرون قدوم جار جديد، أو حتى وهم يودّعون منزل العمر، مضطرين للمغادرة بسبب الوافدين الجدد، فقد عزز تدفق ما يقارب 500 ألف وافد، بينهم 200 ألف لبناني، هذه المغادرات القسرية، مما زاد الأمور تعقيدًا وضبابية.
والأمر الأكثر غرابة، وربما طرافة وسط هذا الوضع، هو ما تقوم به المهندسة رنا شروق، التي تبحث منذ شهر عن سكان جدد لتأمين جوارها أو حتى حيّها، رغبةً في تحقيق قدر من الأمان الشخصي، هذا السعي الحثيث بات مشتركًا بين آلاف السوريين اليوم، سوريون وجدوا أنفسهم في مواجهة الخطر دون رغبة أو استعداد، كما لو أنهم اشتروا الموت دون أن يسعوا إليه، ولو للحظة واحدة.