عندما غادرت غزة وركبت الطائرة لأول مرة

ترجمة حفصة جودة
لقد غادرت غزة أخيرًا عن طريق عمّان، في جميع أنحاء العالم يواجه المسافرون القليل من التعقيدات عند سفرهم، لكن في غزة يعد السفر محنة صعبة تتطلب سلسلة من الإجراءات المعقدة والحظ، وأحيانًا يفشل ذلك أيضًا.
لكي أسافر من غزة فأنا بحاجة لأن أقدم للأمن المصري مبررات قوية للغاية حتى يسمحوا لي بالعبور، لكن الرغبة في الاستكشاف ورؤية العالم ليست كافية، بدلاً من ذلك وللدخول بشكل طبيعي يجب أن يكون المسافر مريضًا ويحتاج لعلاج عاجل في مصر أو أن يكون مقيدًا في جامعة مصرية أو يتجاوز عمره الـ40، أو لديه تأشيرة دخول لدولة ثالثة وحينها يسمحون له بالمرور إلى المطار مباشرة فقط.
كل هذه المبررات ترفع من فرص نجاحك في العبور لكنها لا تضمنه أبدًا، فالقرار بيد الضابط المناوب فقط، والكثيرون يضطرون للعودة إلى غزة دون سبب منطقي.
انتظار طويل
يتقدم عشرات الآلاف من الناس للسفر وينتظرون شهورًا طويلة قبل أن يعلموا أنهم أصبحوا مدرجون على قائمة السفر للأيام القليلة القادمة، وإذا قرر الضابط المصري المناوب حينها أن يغير رأيه ويعيد المسافرين إلى غزة سيتوجب عليهم البدء في إجراءات التسجيل من جديد الذي يتبعه انتظار طويل.
بالنسبة لي فأنا لست مريضًا أو طالبًا في جامعة مصرية ولم يتجاوز عمري الـ40، لكنني أملك سببًا إنسانيًا قويًا يدفعني للسفر إلى مصر، فأمي وشقيقاتي الثلاثة يعيشون هناك ولهذا أحاول زيارتهم وفشلت في ذلك مرتين من قبل منذ عام 2013.
سألت الضابط: “أليست زيارة أمي وعائلتي سببًا كافيًا للسفر؟” فأجاب ببساطة: “لا”
في كلتا المرتين كنت أقدم الوثاق التي تثبت أن أمي تعيش في مصر وأنني أرغب في رؤيتها، لكن الضابط المناوب يكتب في جواز سفري “عائد”، شعرت بالصدمة من النتيجة بعد انتظار 20 ساعة وسألت الضابط: “أليست زيارة أمي وعائلتي سببًا كافيًا للسفر؟” فأجاب ببساطة: “لا”
في المرة الثالثة وبعد أن أدركت أن الأسباب الإنسانية ليست كافية لضمان العبور، أوضحت أنني تلقيت دعوة من منظمة حقوق إنسان ولدي اجتماع في العاصمة الأدرنية عمّان، تقدمت بطلب تصريح دخول الأردن وسجلت في قائمة المسافرين بغزة واشتريت تذاكر الطائرة لإقناع الضابط بأنني بحاجة للسفر حقًا، وكنت آمل أن يسمح لي بدخول مصر لمقابلة أمي وشقيقاتي قبل أن أواصل طريقي للأردن.
على متن الحافلة
لكن التصريح الأدرني تأخر مما يهدد بفشل آخر، كانت أيام الاجتماع المقررة في الأردن من 26 إلى 29 من نوفمبر وحتى صباح اليوم الـ28 لم أكن قد حصلت بعد على التصريح من السفارة الأردنية، لكن الله سهل الأمور في اللحظة الأخيرة وبمساعدة المنظمة الإنسانية وصلني إذن السفر مؤخرًا في نفس هذا اليوم.
امتد الاجتماع في الأردن ليومين آخرين وسريعًا قمت بتأكيد اسمي في قائمة السفر ليوم 29 من نوفمبر، ودعت أسرتي وتوجهت إلى صالة السفر الفلسطينية، وخلال ساعتين كنت على متن الحافلة التي ستقلنا إلى الجانب المصري، وهناك قابلت 7 أصدقاء متوجهين إلى نفس الاجتماع في عمّان.
فلسطينيون يستقلون الحافلة للعبور من غزة إلى مصر
مرت ساعات طويلة ونحن ننتظر إجراءات السفر على الجانب المصري وجاء المساء دون أي تقدم يذكر، وفي تلك الليلة بدأ الضابط المصري في النداء على أسمائنا وسأل كلاً منا عن وجهته، فأبلغته عن وجهتي وقدمت التصريح الأردني وتذاكر الطائرة.
قدمت أيضًا ما يثبت أن أمي وشقيقاتي في مصر واستفسرت عن إمكانية الدخول إلى مصر لمدة نصف يوم لرؤيتهم قبل الذهاب إلى المطار لكنه رفض، هذا يعني أنهم سيرسلونني مباشرة إلى المطار وفي ضوء الفشل السابق فهذه الخطوة تعد نجاحًا.
لقاء سريع
انتظرنا حتى الصباح للذهاب إلى المطار، وخلال تلك الساعات أمروا 40 مسافرًا بالعودة إلى غزة دون إبداء أسباب، من بينهم 4 أصدقاء لي يملكون وثائق السفر لعمّان، وفي الصباح وصل ضابط الترحيل وأخبرنا أن نستعد للرحيل، أخبرته عن أمنيتي لزيارة قصيرة لأمي وشقيقاتي قبل الرحيل إلى المطار فأجاب أنه يتبع الأوامر فقط لكنني أستطيع رؤيتهم لمدة 3 دقائق عند مدخل المطار، فقلت في نفسي: “ياله من كرم”.
تنص آلية الترحيل على أن يحمل الضابط جوازات سفرنا ونأخذها فقط عند دخولنا المطار، فلا يمكننا التوقف على الأراضي المصرية إلا لمدة نصف ساعة في الاستراحة على جانب الطريق.
كنت أشعر بنوع من الحرية أفتقدها في غزة، حيث القدرة على السير كل هذه المسافة دون أن تجد إشارة تخبرك بأنك وصلت الحدود وأن حريتك للتنقل تتوقف هنا
عند هذه النقطة تمكن أحد أقرباء أمي من العثور على وسيلة لرؤيتها، فقد تحدث مع سائق الحافلة الذي يعرفه وسأله عن الاستراحة التي سنتوقف عندها، وهناك انتظرتني أمي وقضيت معها نصف ساعة مليئة بالدفء والحنين.
لم تتمكن شقيقاتي من الوجود هناك فتحدثت إليهن على الهاتف وطلبت منهن لقائي عند مدخل المطار، وهناك عانقتهن وقضيت معهن عدة دقائق قليلة قبل أن أغادر إلى الطائرة، كان من الصعب عليّ أن أتركهن.
فرح وخيبة أمل
مع ذلك فقد صعدت على متن طائرة لأول مرة في حياتي، كان قلبي مليئًا بالفرح لقدرتي على السفر والضيق بسبب هذا اللقاء القصير بعائلتي، في عمّان أخذتنا السيارة لمسافة طويلة بين الجبال والوديان، كنت أشعر بنوع من الحرية أفتقدها في غزة، حيث القدرة على السير كل هذه المسافة دون أن تجد إشارة تخبرك بأنك وصلت الحدود وأن حريتك للتنقل تتوقف هنا.
عندما تحدثت إلى أسرتي في غزة قال ابني ذو الـ4 أعوام: “اشتقت إليك يا أبي، متى ستعود” فأخبرته أنني أشتاق إليه أيضًا، لكنني بحاجة لأن أتغلب على شوقي لأسرتي لفترة أطول، فقد تمكنت أخيرًا من السفر مع كل هذه الصعوبات التي واجهتها، وليس من الحكمة أن أعود قبل أن أنهي قائمة طويلة من المهام التي جئت لإنجازها.
المصدر: ميدل إيست آي