شارك مئات الناشطين المتطرفين، ومعظمهم من المجتمع الصهيوني الديني، في مؤتمر حركة “ناحالا” الاستيطانية بتاريخ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024، على الأراضي الفلسطينية المحتلة على حدود غزة، تحت عنوان “الاستعداد للاستيطان في غزة”.
شمل المؤتمر ورش عمل عن كيفية بناء المستوطنات من الصفر، خاصةً دون الحصول على موافقة رسمية من الحكومة، في الموقع المطل على محور “نيتساريم” في غزة، وجرى بموافقة ومشاركة رسمية من وزراء وأحزاب في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي.
جاء المؤتمر، الذي يعكس طموحات اليمين الصهيوني الاستيطانية، استكمالًا لسلسلة خطوات بدأت في ديسمبر/كانون الأول الماضي بتنظيم المنظمة مؤتمر “معاهدة النصر وتجديد الاستيطان” في القدس المحتلة، لمناقشة أفكار تعزيز الاستيطان في قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية، وُزِّعت فيه أوراق تسجيل ومعلومات اتصال للحاضرين للانضمام إلى نقاط الاستيطان المخطَّط لها في غزة.
على الرغم من ادعاء منظِّمي المؤتمر الأول أنه جاء ردًا على عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فقد سبقت طموحات اليمين الصهيوني بإعادة الاستيطان إلى قطاع غزة ذلك بكثير، وهي مرتبطة في جوهرها بإيمان قادة اليمين بأن تفكيك مستوطنات القطاع في العام 2005 خطيئة كبرى يجب إصلاحها.
التوسع الاستيطاني كبرنامج رئيسي للحكومة
فعليًا، لم تتوقف دعوات اليمين الصهيوني لإعادة الاستيطان إلى القطاع منذ إتمام خطة “فك الارتباط”، إلا أن الانتقال إلى الخطوات العملية في إطار تلك الدعوات يعود إلى تأسيس الائتلاف اليميني الحكومي الحالي.
ينص اتفاق الائتلاف على ضرورة دعم التوسع الاستيطاني، إذ شمل توسيع وتعزيز البناء الاستيطاني في الضفة، بما في ذلك زيادة عدد الوحدات السكنية وتوسيع المستوطنات القائمة، وتقليص الإجراءات البيروقراطية للمصادقة على مشروعات البناء الاستيطاني، ما يمنح مجلس المستوطنات صلاحيات أوسع في اتخاذ القرارات، ويقلل دور الحكومة المركزية في العملية. وتعهد بنيامين نتنياهو في الاتفاق بإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية التي كانت تعدّها الحكومة سابقًا غير قانونية، ما يوسع نطاق الاستيطان المعترف به رسميًا.
وتضمن الاتفاق تخصيص تمويل كبير لتطوير البنية التحتية، بما في ذلك إنشاء وتوسيع الطرق التي تربط المستوطنات، لتسهيل حركة المستوطنين وتعزيز تواصلهم الجغرافي.
في 21 مارس/آذار 2023، اتخذ الكنيست قرارًا بإلغاء قانون “فك الارتباط” في شمالي الضفة، وسمح بعودة المستوطنين إلى 3 مستوطنات سابقة هناك كان يحظر عليهم دخولها منذ صدور أمر إخلائها في العام 2005، انسجامًا مع برنامج حكومة نتنياهو بتعزيز النشاط الاستيطاني في الضفة، وهو القانون الذي عدّته وزيرة البعثات الوطنية في حكومته، أوريت ستروك، من حزب الصهيونية الدينية، خطوة نحو إعادة السيطرة على قطاع غزة وإعادة الاستيطان فيه، وتضيف: “ستؤدي العودة إلى قطاع غزة إلى سقوط العديد من الضحايا، تمامًا كما أدى الخروج منه إلى سقوط العديد من الضحايا، لكنه في النهاية جزء من أرض إسرائيل، وسيأتي يوم نعود إليه”.
وقد قال بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والوزير في وزارة الحرب، في مقابلة مع القناة “14” العبرية في 12 مايو/أيار 2023: “قد يأتي وقت العودة إلى غزة وتفكيك حماس وتجريد غزة من السلاح. أعتقد أنه سيأتي الوقت الذي لن يكون فيه خيار آخر سوى إعادة احتلال غزة”، عادًّا ذلك “الحل الوحيد” للاشتباكات المتكررة مع المنظمات الفلسطينية في القطاع.
مع شن حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، صعَّد قادة اليمين الصهيوني مطالبتهم بعودة الاستيطان إلى القطاع، والدعوة إلى احتلاله بالكامل وطرد سكانه منه.
خسارة الأرض كدليل على الهزيمة.. والاستيطان بذريعة الأمن
صرحت وزيرة المساواة الاجتماعية وتعزيز مكانة المرأة في حكومة نتنياهو، والعضو في حزب الليكود، ماي غولان، في مؤتمر الاستيطان، قائلة: “أكثر ما يؤلم الفلسطينيين انتزاع الأراضي منهم”، وترى أن من شأن المستوطنات في غزة تعزيز أمن “إسرائيل”، يؤيدها في ذلك عضو الكنيست المتشدد من الليكود، الذي يرأس وفد الكنيست للعلاقات مع البرلمان الأوروبي، أريئيل كالنر، الذي قال: “المستوطنات نصر كامل” و”ما يعدُّونه دار الإسلام سيصبح دار اليهود”، وغرد في مايو/أيار المنصرم قائلًا: “في الوقت الحالي ثمة هدف واحد: النكبة. نكبة ستطغى على نكبة 48. نكبة في غزة، ونكبة لكل من يجرؤ على الانضمام إليها”.
ويقول عوفيد حوغي، من نشطاء الليكود وأحد المشاركين القلائل غير المتدينين في المؤتمر الاستيطاني، إنه من شأن انتزاع الأراضي من الفلسطينيين في غزة فقط تشكيل رادع كافٍ لمواصلة الصراع مع “إسرائيل”: “على العرب أن يخسروا أراضيهم في الحرب، كي يتذكروا أنهم خسروا. مقابل مثل هذا الفعل (السابع من أكتوبر)، يجب أن ينالوا عقاب فقدان الأراضي”.
وقال الوزير الليكودي، ميكي زوهار، في كلمة له بمؤتمر استيطاني في يناير/كانون الثاني المنصرم: “الاستيطان وحده ما يجلب الأمن. الأمر الواضح بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول. يجب تصحيح حماقة اقتلاع المستوطنات من غوش قطيف وشمالي الضفة”.
حاييم فالتسر، من سكان بؤرة إيفيتار الاستيطانية التي جرت شرعنتها في عهد حكومة نتنياهو، والمقيم سابقًا في مستوطنات غوش قطيف في غزة التي أُخليت في العام 2005، قال: “الاستيلاء على غزة الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يسود بها الهدوء في تل أبيب. فهذه الطريقة الوحيدة التي سيشعرون فيها بالهزيمة. الأرض ما يهمهم. انتزاعها والاستيطان فيها ما سيجعلهم يشعرون بأننا انتصرنا وأنهم هُزموا”.
وقال سموتريتش في منشور على موقع “إكس” في أثناء توجهه إلى المؤتمر الاستيطاني، إن الأراضي التي تخلت عنها “إسرائيل” في الماضي تحولت إلى “قواعد إرهاب أمامية إيرانية”، وعرضتها للخطر.
يُسوّق قادة الاستيطان ذريعة الأمن لتقديم طموحاتهم الاستيطانية بوصفها تلبية لحاجة الأمن الدائمة للجمهور الإسرائيلي، ويستثمرون في حالة الحرب الحالية لتوجيه الرأي العام إلى اعتبار أن الحل الأجدى هو إعادة الاستيطان في قطاع غزة، وإجهاض عملية تحول القطاع إلى مركز تهديد دائم للأمن الإسرائيلي.
أدرك قادة الصهيونية، الدينية والعلمانية، أن الأرض تحتل مكانة عاطفية وثقافية محورية لدى الفلسطينيين، وانتزاعها ضربة قاسية لهم.
تشير التصريحات السابقة وما على شاكلتها إلى إدراك واضح لهذا المعنى العميق، إذ يُستخدم موضوع الأرض كأداة نفسية وجغرافية لتغيير المعادلة السياسية والديموغرافية في الحرب على الشعب الفلسطيني.
الإبادة والترانسفير كبداية
لم يُخفِ دعاة الاستيطان في غزة، وفي مقدمتهم الوزراء في حكومة نتنياهو، دعوتهم إلى استكمال الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في القطاع، وتهجيره من أرضه بشتى الوسائل، قسريًا أو طوعيًا، المهم ألا يبقى الفلسطينيون في أرضهم.
في 28 يناير/كانون الثاني الماضي، وعلى هامش مؤتمر “الاستيطان يحقق الأمن والنصر” في القدس، قال إيتمار بن غفير: “حان الوقت للعودة إلى غوش قطيف وتشجيع الهجرة الطوعية.. الانسحاب يجلب الحرب، وإذا أردنا منع تكرار هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، علينا العودة إلى ديارنا والسيطرة على الأرض (في غزة)، وإيجاد طريقة قانونية لضمان الهجرة الطوعية (للفلسطينيين) وسن قانون لإعدام الإرهابيين”، بينما هتف الحاضرون “فقط الترانسفير يحقق السلام”. واتفق مع تصريحاته وزير الاتصالات عن حزب الليكود، شلومو كرعي، فقال إن الترانسفير الطريقة الوحيدة الحقيقية لتدفع حماس الثمن، حتى لو تطلب الأمر فرضه بالقوة.
في كُتيب “مؤتمر النصر الاستيطاني”، قال المحامي أفيعاد فيسولي إن “النكبة الثانية” – الطرد الجماعي للفلسطينيين من غزة – مبررة وفقًا لقوانين الحرب. وشرح الحاخام أوزي شراف أن “وصية رِثْ أرض إسرائيل” تعني احتلال الأراضي وطرد كل من يعارض الحكم الإسرائيلي، كما فعل يوشع بن نون. وأضاف إلياهو ليبمان أنه يجب طرد جميع الفلسطينيين.
لم تحاول زعيمة حركة “ناحالا”، دانييلا فايس، التلميح أو تنميق الكلمات، بل دعت إلى التطهير العرقي في غزة صراحةً: “فقد العرب في غزة حقهم في التواجد هنا. لن يبقوا هنا، وسيذهبون إلى بلدان مختلفة، وسنقنع العالم بذلك”، وأضافت، مشيرةً إلى هدف المؤتمر: “جئنا هنا للاستيطان في كامل قطاع غزة، من شماليه إلى جنوبيه، لا في جزء منه فحسب”.
يشير مصطلح الترانسفير، أو الترحيل القسري، إلى سياسة تهدف إلى نقل السكان قسرًا من منطقة إلى أخرى، عادةً على أساس عرقي أو ديني أو سياسي. في سياق الاحتلال الإسرائيلي، يُستخدم المصطلح للإشارة إلى فكرة ترحيل الفلسطينيين من الأراضي المحتلة إلى دول أو مناطق أخرى، كوسيلة لحسم الصراع الديموغرافي والسياسي.
وتهدف دعوات الجماعات الصهيونية للترانسفير، إلى تعزيز الأغلبية اليهودية في “إسرائيل” عبر تقليل عدد السكان الفلسطينيين، وحسم الصراع السياسي بطريقة أحادية الجانب عبر نقل الفلسطينيين إلى دول أخرى.
الترانسفير من أهم المطالب التي رفعها مائير كاهانا، زعيم حركة “كاخ” المتطرفة، الذي تُشكّل أفكاره أساس الأحزاب الصهيونية الدينية، خاصةً عوتسما يهوديت، بقيادة إيتمار بن غفير.
تاريخ الاستيطان في قطاع غزة
في حرب 1967، احتلت “إسرائيل” قطاع غزة احتلالًا كاملًا، مع الضفة الغربية وسيناء والجولان، وبدأت بعد الحرب في إقامة مستوطنات داخل القطاع لتعزيز سيطرتها الجغرافية والاستراتيجية.
كانت نيتساريم أولى تلك المستوطنات، تأسست في العام 1972 جنوبي مدينة غزة. وتوسع المشروع الاستيطاني في السبعينيات والثمانينيات ليشمل مناطق أخرى في القطاع.
على مدار سنوات، خصصت الحكومة الإسرائيلية الدعم للمستوطنات في القطاع، فبنت مستوطنات جديدة، معظمها في المناطق الجنوبية والغربية من القطاع، خاصةً في غوش قطيف، التي كانت من أكبر التجمعات الاستيطانية هناك، وتشمل مستوطنات مثل غديد، وغني تال، وكفار داروم، وموراغ، ذات الطبيعة الزراعية التي تعتمد على مياه الآبار، والتي استنزفت جزءًا كبيرًا من موارد القطاع المائية.
لفهم إصرار نتنياهو على احتلال محور فيلادلفيا.. يجب العودة إلى 2005
ارتبطت مستوطنات القطاع ببعضها عبر طرق خاصة تفصلها عن المناطق الفلسطينية، فزادت الاحتكاكات والتوترات بين المستوطنين والفلسطينيين.
في الانتفاضتين الأولى والثانية، شكلت المستوطنات هدفًا رئيسيًّا لعمليات المقاومة، وشهدت مناطقها مواجهات عنيفة، فتصاعدت الدعوات الإسرائيلية لإعادة النظر في الوجود الاستيطاني في القطاع.
في العام 2005، نفَّذت حكومة أرييل شارون خطة “فك الارتباط” أحادية الجانب، التي تضمنت إخلاء جميع المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، فأزيلت 21 مستوطنة ونقل نحو 8 آلاف مستوطن إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، واحتفظت “إسرائيل” بالسيطرة على الحدود الجوية والبحرية للقطاع، واستمرت في فرض الحصار عليه.
الهوس بإصلاح أخطاء الماضي
أفرد سموتريش مساحة جيدة في كلمته بالمؤتمر الاستيطاني في القدس عن موقفه من الانسحاب من غزة قائلًا: “وقفت ضد إخلاء مستوطنات غزة في العام 2005، ودفعت الثمن في السجن.. يقف شعب إسرائيل على مفترق طرق مهم، ويجب أن نقرر ما إذا كنا سنهرب من الإرهاب مرة أُخرى، أم سنتعلم الدرس ونستوطن في بلادنا، بطولها وعرضها، ونسيطر عليها، ونحارب الإرهاب. لا أمن دون استيطان، ولن يكون هناك أمن في إسرائيل كلها إن لم يكن هناك أمن في غلاف غزة. سيتوجب علينا العودة إلى قطاع غزة واحتلاله”.
لم يتوارَ نتنياهو، الذي لم يدعم مؤتمرات الاستيطان علنًا، عن إظهار دعم ضمني بتصريحه أنه يُسمح للنواب والوزراء بالتعبير عن آرائهم، وأصر على أن مجلس الوزراء الأمني بأكمله من يُحدد سياسة “إسرائيل” فيما يتعلق بقطاع غزة بعد الحرب، وأنه لم يُتخذ أي قرار بشأن العودة إلى غزة، فيما كان واضحًا من جوقة المشاركين من الليكود، والتسويق الرسمي والعلني من وزراء في الائتلاف الحكومي، أنه لا ينوي معارضة تلك الخطوات ولا تعطيلها، أو وضع قيود على أسقف طموحاتها، إذ يرى وشركاؤه في الائتلاف، في خطة فك الارتباط خطيئة تستوجب التراجع عنها وتصحيحها.
سابقًا، لم يحاول نتنياهو، الذي قاد حكومات “إسرائيل” لعقود، فرض وقائع جديدة تخالف تجليات خطة الانفصال أحادي الجانب، بل استثمر في وضع قطاع غزة السابق، عبر إبقائه ضمن حالة اللاحياة واللاموت، دون التورط في تثبيت إعادة احتلاله، لتجنب الالتزامات القانونية المرتبطة بالمسؤولية عن سكانه وتلبية احتياجاتهم الحياتية والإنسانية، ما كان جزءًا من مبررات شارون في الترويج لخطة الانفصال أحادي الجانب عن القطاع.
بيد أن طموحات نتنياهو الاستيطانية، والتماهي المستمر مع شركائه في الائتلاف، والطموح بخوض مسار تغيير استراتيجي شامل لواقع الصراع، والنحو في اتجاه تبنّي أطروحات حسم الصراع كجزء من برنامج الائتلاف، أعادته إلى المنطلقات الرئيسية التي غادر على إثرها حكومة شارون، وأوصلته إلى قيادة الليكود وتصدر المواجهة مع حكومات “كاديما” (الذي أسسه أرييل شارون على إثر الخلاف داخل الليكود على خطة الانفصال)، وصولًا إلى عودته إلى مقعد رئاسة الوزراء.
راكم نتنياهو لسنوات، ضمن استراتيجية إدارة الصراع، على إنجاز عملية توسع استيطاني زاحف في الضفة، وصل إلى ذروته في الفترة الحالية، ما استدعى الانتقال إلى مراحل أكثر تقدمًا ينتقل وفقها إلى حسم الصراع وتصفية أي أفق للقضية الفلسطينية، ما يتيحه بأريحية الائتلاف الحالي الذي يحمل وزراؤه اندفاعة استيطانية توسعية غير مسبوقة.
يربط نتنياهو العديد من مواقفه الحالية في الحرب على غزة بمواقفه التاريخية الرافضة لخطة فك الارتباط، ما استند إليه في موقفه المتصلب من فكرة الانسحاب من فيلادلفيا، على أساس دعوته في العام 2005 إلى الامتناع عن الانسحاب من المحور، عادًا أن ذلك سيُشكل أسسًا لخطر استراتيجي يسمح للمقاومة بتعزيز تسليحها وقوتها في القطاع.
شكَّل نتنياهو خطابه السياسي ودعايته الانتخابية منذ العام 2006 على قاعدة أن الانسحاب من القطاع كان خطأ استراتيجيًّا، وأن نموذج غزة سلبي لا يجب تكراره، وبناءً عليه رفض أي أطروحات لأي انسحابات إسرائيلية من أي أراضٍ فلسطينية محتلة، والأمر سواءٌ بخصوص تفكيك أي بؤر استيطانية. ولطالما عدَّ شريكاه سموتريتش وبن غفير الانسحاب من غزة “خيانة لأرض إسرائيل” تستوجب التراجع عنها.
بين الطموح والواقع.. تقف المقاومة
من غير المنطقي والعقلاني التعامل مع دعوات الاستيطان في غزة على أنها مجرد طموحات أو ضوضاء صادرة عن قادة اليمين الصهيوني، فمن الطبيعي أنه يمكن أن تشمل الاندفاعة الإسرائيلية الحالية – الساعية إلى فرض تغيير بعيد المدى في القطاع – في طياتها طموحات عودة الاستيطان في القطاع.
يُعزز السعي المستميت لجيش الاحتلال لتحويل القطاع إلى كومة كبيرة من الركام خالية من أي مقوم من مقومات الحياة، فكرة دفع سكان غزة إلى اختيار مسار الهجرة الطوعية بحثًا عن حياة، بعد فشل محاولات التهجير القسري.
يسابق الاحتلال الزمن لتفريغ شمالي القطاع من سكانه، وجعل أراضيه خالية، لجعلها مادة أسهل لتلبية طموحات دعاة الاستيطان، لخلق النموذج الأول منها، وهو ما تبحث عنه جماعة “ناحالا” الاستيطانية، التي انطلقت على إثر الانسحاب من القطاع، واشتهرت بتطبيق نماذج أولية لبؤر استيطانية عشوائية تتحول تدريجيًّا إلى تجمعات استيطانية زاحفة تمهيدًا لشرعنتها لاحقًا، وقد كان في صلب مؤتمراتها الاستيطانية بخصوص القطاع التدرب على خيارات مشابهة في مناطقه الخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال.
لن يتوانى قادة الاحتلال عن المحاولة الرسمية وغير الرسمية للدفع بخطط التوسع الاستيطاني وابتلاع كل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل سيتعدى طموحهم أراضي فلسطين التاريخية إلى حدود ما تسمَّى بـ”إسرائيل الكبرى”، التي تشمل وفق رؤية سموتريتش أراضي في الأردن وسوريا ولبنان والعراق ومصر وحتى السعودية.
معادلة الأمن وتكلفة الاستيطان الوحيدة التي تقف حاجزًا بين طموحات قادة الاحتلال التوسعية وفرضها واقعًا، إذ يُشكل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني على أرضه في غزة، وفي تعبير مكثف عنه الصمود المتجذر لأهالي شمالي القطاع ورفض كل محاولات التهجير والدفع إلى النزوح نحو جنوبيه، النموذج الأول لإفشال الخطط الإسرائيلية، التي وفَّر الاحتلال في إطار البيئة اللازمة لإنجاحها، كل أدوات القتل والتدمير والتهجير.
يُشكل صمود المقاومة، وقدرة تشكيلاتها على الضرب وتنفيذ عمليات استنزاف لجيش الاحتلال، وكنموذج عملي عمليات الاستهداف اليومي لمحور “نيتساريم”، العنوان الأبرز لشكل الاستنزاف الذي ستتعرض له أي بؤرة استيطانية قد تُقام في أي بقعة في قطاع غزة. فبعد عام من الحرب، لا يمتلك الاحتلال أي مؤشر على نجاحه في الإجهاز على حالة المقاومة، أو ضرب هياكلها الرئيسية وتعطيل قدرتها العملياتية على تنفيذ العمليات وخوض مسار استنزاف طويل المدى مع قواته.
تُعيد قدرة المقاومة وصمودها النقاش بشأن مصير أي خطط إسرائيلية للاستيطان في غزة، إلى النقاش بشأن خطة الانسحاب في العام 2003 والثمن الدموي للبقاء في القطاع والاستيطان فيه، والذي سيؤدي تدريجيًا إلى تكاليف تأمينية كبيرة، واستنزاف مستمر للقوات والمستوطنين.
شمالي قطاع غزة يُفشل خطة الجنرالات للتهجير وطموحات الاستيطان
في سنوات انتفاضة الأقصى، كان نحو 8 آلاف مستوطن في القطاع، يحرسهم أكثر من 15 ألف جندي، أي أن عدد جنود التأمين أكبر من عدد المستوطنين، مع الأخذ في الحسبان الفارق في قدرات المقاومة حينها عن قدراتها الآن، ما يعكس حجم الاستنزاف المتوقع لأي بؤرة استيطانية قادمة، ويدفع قادة الاحتلال إلى التفكير كثيرًا قبل خطو أي خطوة مشابهة، في إطار التقييم الواقعي لما يحدث على أراضي القطاع.
يُشكل صمود المقاومة، وحاضنتها الشعبية في غزة، صمام الأمان الرئيسي الفاصل بين الطموحات الاستيطانية والمؤشرات الواقعية التي ستحول كل أرض يطأها الاستيطان في القطاع إلى بقعة استنزاف مستمرة، ستدفع الاحتلال في المحصلة إلى تفكيك مستوطناته بيده مرة أخرى.