ترجمة وتحرير: نون بوست
إن انعدام اليقين السياسي المتفشي في المملكة المتحدة حيال انسحابها من الاتحاد الأوروبي يعني أن الغموض يطغى على الأحداث المنتظرة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2019. مع ذلك، يوجد احتمال وحيد واضح يتمثل في إجراء انتخابات عامة، التي من الممكن أن يحظى فيها حزب العمال، تحت قيادة جيرمي كوربين، بفرصة كبيرة للفوز. والسؤال الرئيسي المطروح هنا هو: هل سيقوم كوربين بتحويل السياسة الخارجية البريطانية حيال الشرق الأوسط بعيدا عن دعمها للأنظمة القمعية وبيعها للأسلحة، فضلا عن تحديه للمؤسسة الحاكمة البريطانية التي أعطت الأولوية لهذه الاهتمامات على حساب مشاكل أخرى على مدى عقود؟ في الحقيقة، هناك أربعة مجالات تثير من خلالها السياسة الخارجية المعلنة لحزب العمال قلق النخبة البريطانية بشكل كبير.
الازدواجية بشأن “إسرائيل”
أولا، تعهد حزب العمال بالسماح لسكان أرخبيل تشاغوس بالعودة إلى وطنهم في المحيط الهندي بعد أن وقع إجلائهم من هناك خلال السبعينيات. في الواقع، تُستخدم “دييغو غارسيا”، وهي أكبر جزيرة في الأرخبيل، كقاعدة تدخل عسكرية أمريكية رئيسية مخصصة للشرق الأوسط. في المقابل، سُتحارَب سياسة حزب العمال من قبل الحكومة البريطانية، التي لا زالت مستمرة في نزاعها مع سكان هذه الجزر في المحكمة، وقد اتفقت مؤخرا مع الولايات المتحدة والسماح لها باستخدام هذه المنطقة كقاعدة عسكرية حتى سنة 2036.
ثانيا، التزم حزب العمال البريطاني “بالاعتراف فورا بدولة فلسطين” عند انتخابه، كما دعا بيانه الانتخابي الأخير أيضا إلى “إنهاء الحصار والاحتلال والمستوطنات”. لكن، لا تزال تفاصيل سياسة حزب العمال تجاه “إسرائيل” غير واضحة. وكان كوربين قد قال سابقا إنه سيوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل إذا أصبح رئيسا للوزراء، مضيفا أنه يؤيد أيضا حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
السياسة الثالثة لحزب العمال التي ستعمل الحكومة البريطانية على مقاومتها فتتمثل في معارضة كوربين لحروب تغيير النظام
على الرغم من ذلك، التزم حزب العمال البريطاني الصمت في الآونة الأخيرة بشأن هذه السياسات، وقد ظهرت اختلافات بين كل من كوربين ووزيرة خارجية حكومة الظل، إميلي ثورنبيري. ففي الوقت الذي أشار فيه كوربين إلى تأييده لحملة مقاطعة تستهدف التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، رفضت ثورنبيري ذلك، مشيرة إلى أن السلع الموجهة للمستوطنات يجب “تحديدها بوضوح” حتى “يظل قرار الشراء بيد المواطنين هناك”.
في الواقع، يكشف موقف ثورنبيري عن تناقض كبير. فخلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، قالت في مؤتمر خاص بمركز بريطانيا “إسرائيل” للاتصالات والبحوث، وهي مجموعة ضغط إسرائيلية في بريطانيا، إن “إسرائيل” تعتبر بمثابة “منارة للحرية والمساواة والديمقراطية”. لكن، خلال مؤتمر لحزب العمال البريطاني عقد خلال شهر أيلول/ سبتمبر، أدانت ثورنبيري حكومة نتنياهو بسبب “سياساتها العنصرية وأعمالها القمعية ضد الشعب الفلسطيني”.
حروب لتغيير النظام
أما السياسة الثالثة لحزب العمال التي ستعمل الحكومة البريطانية على مقاومتها فتتمثل في معارضة كوربين لحروب تغيير النظام. فقد عارض كوربين تورط المملكة المتحدة عسكريا في كل من كوسوفو سنة 1999، والعراق سنة 2003 وليبيا سنة 2011 وسوريا سنة 2015. وقد تحدث كوربين عن “عمليات الانتهاك والاحتلال الكارثية التي حدثت خلال السنوات الأخيرة” التي “فشلت ودمرت البلدان والمناطق وجعلت من بريطانيا والعالم مكانا أكثر خطورة”. وقد ربط كذلك بين هذه الحروب الخارجية والإرهاب داخل البلد.
إنطلاقا من هذه المبادئ، برزت سياستان لحزب العمال، ترتبط إحداهما بنية الحزب في تنصيب وزير للسلام سيعمل مع وزارة الدفاع ووزارة الخارجية لتعزيز جهود الأمم المتحدة لحل الصراعات. أما السياسة الثانية فتتمثل في رغبة حزب العمال في إدراج “قانون سلطات الحرب” ضمن قوانين المملكة المتحدة، الذي يلزم الحكومة بضرورة الحصول على موافقة البرلمان قبل الدخول في أي عمل عسكري والالتزام به.
التقاط صورة لتوني بلير والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في ضواحي طرابلس خلال شهر آذار/ مارس 2004
هناك مسألة رابعة ستعمل الحكومة البريطانية على محاربتها بشراسة. وعلى الرغم من أنها لا تعتبر ضمن السياسات الرسمية لحزب العمال، إلا أن كوربين لمح إلى رغبته في محاسبة زعيم حزب العمال ورئيس الوزراء السابق، توني بلير، فضلا عن شخصيات أخرى، على خلفية ما ارتكبوه في حرب العراق. لكن، يعتبر ذلك بمثابة خط أحمر بالنسبة للنخبة البريطانية، التي لن تسمح ببساطة بحدوث مثل هذه المسائل في قلب السياسة الخارجية البريطانية. في الحقيقة، جرت العادة أن يُسمح للوزراء البريطانيين بالإفلات من المحاسبة فيما يتعلق بجرائم الحرب.
في المقابل، قد يصل تحدي حزب العمال البريطاني لسياسيي النخبة في البلاد إلى نهاية، لا سيما وأن القليل من القرارات المعلنة، التي تدور في فلك السياسات الخارجية للحزب، قادرة على مناهضة الحكومة الحالية والاختلاف معها بشكل جدي. فعلى سبيل المثال، لا يدعو قادة حزب العمال إلى وقف صادرات الأسلحة بشكل كامل، بل يدعو موقفهم إلى “تعليق” هذه الصادرات وانتظار التحقيق الذي تقوده الأمم المتحدة فيما يتعلق بانتهاكات القانون الدولي في اليمن بكل بساطة.
الأعمال التجارية ستظل على حالها
يكاد يكون موقف حزب العمال إزاء مبيعات الأسلحة للسعودية مماثلا لموقف الحكومة البريطانية. ويشير هذا الموقف إلى أن مبيعات هذه الأسلحة لن تتوقف إلا “عندما يكون هناك خطر باستخدامها وتوظيفها لانتهاك القانون الإنساني الدولي”. ويمكن القول إن مثل هذا الموقف يبيح تصدير الأسلحة إلى الأنظمة الاستبدادية في حال وافقت على عدم استخدامها في عملياتها القمعية. علاوة على ذلك، لن تكون هناك قائمة سوداء بالدول التي لن يُسمح لها أبدا بتوريد الأسلحة من المملكة المتحدة.
وعد حزب العمال بمراجعة جميع عقود التدريب وبيع المعدات مع الأنظمة القمعية لضمان عدم تورط بريطانيا في إساءة معاملة المدنيين في أي مكان في العالم
في حديثه إلى موقع “ميدل إيست آي” سنة 2017، أفاد وزير شؤون الدفاع والخارجية بحكومة الظل البريطانية، فابيان هاميلتون، أن الأسلحة البريطانية ستذهب إلى الدول التي تمتلك تاريخا طويلا في استخدام أسلحتها لأغراض دفاعية فقط. وأضاف هاميلتون آنذاك أن الصادرات لدول مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت ومصر ستكون محظورة. ومن المؤكد أن هذا الأمر سيكون مختلفا، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت هذه السياسة رسمية أم لا. كما بيّن هاميلتون أن جميع صادرات الأسلحة يجب أن تتم الموافقة عليها مسبقا من قبل لجنة برلمانية.
من جانبه، وعد حزب العمال بمراجعة جميع عقود التدريب وبيع المعدات مع الأنظمة القمعية لضمان عدم تورط بريطانيا في إساءة معاملة المدنيين في أي مكان في العالم. وفي حين أن مثل هذا الإجراء مرحب به تماما، لا يمكننا الجزم حول ما إذا كانت هذه “المراجعة” ستؤدي إلى أي تحول حقيقي في الدعم البريطاني الإجمالي للأنظمة القمعية. كما وعد قادة حزب العمال البريطاني بإعادة تعيين مستشارين لحقوق الإنسان داخل السفارات البريطانية في جميع أنحاء العالم، وهو ما يمكن أن يقود إلى بعض التغييرات على مستوى صفقات السلاح. وعلى النقيض من ذلك، بإمكان هذه القرارات أن تفضي إلى منح الأعمال التجارية الأولوية بكل بساطة.
لعل موقف حزب العمال إزاء صناعة الأسلحة أسوأ من ذلك بكثير، حيث يزعم قادته أن بريطانيا تتبوأ مراكز متقدمة على لائحة المصنعين وبأن الحزب سيواصل دعم التنمية والابتكار. وستسعى المملكة المتحدة باستمرار إلى إيجاد أسواق جديدة باعتبارها ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم. وعلى ضوء ذلك، ليس من الواضح بعد إلى أي مدى سيذهب حزب العمال في التزامه بدعم وتشجيع تعزيز البلدان لأنظمتها الدفاعية.
هل سينال الإرهاق من كوربين؟
لطالما كانت وزيرة الدفاع في حكومة الظل، نيا غريفيث، داعمة للصناعة العسكرية تماما مثل حكومة المحافظين. وفي الوقت ذاته، حاول حزب العمال الضغط على الحكومة فيما يتعلق بالنفقات العسكرية، مفيدا بأنها ملزمة بإنفاق ما لا يقل عن 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على الجيش البريطاني، وأن تخفيض هذا الإنفاق من قبل المحافظين جعل أمن البلاد عرضة للخطر.
إذا ما انتُخب كوربين رئيسا للوزراء، فسوف يواجه هجوما ثلاثيا. وفي ذلك الوقت، سيتعين على حزبه قيادة حملة دعم شعبي واسعة النطاق والاستفادة بشكل كامل من وسائل الإعلام البديلة والتضامن الدولي وتحدي المؤسسة البريطانية بشكل أكثر فعالية
في حال وقع انتخابه، سيكون كوربين أول شخص معاد للإمبريالية يظفر بمنصب قيادي في بلد غربي كبير. وتأمل الحكومة في وايت هول ألا تتجاوز وجهة نظر كوربين بشأن “إعادة التفكير في دور بريطانيا في العالم” مجرد كونها فكرة. لكن، من المرجح أن كوربين جاد في إعادة النظر في دور بلاده في العالم. وتتمثل المعضلة في مدى التزام كوربين الحقيقي بسعيه نحو منح بلاده تأثيرا دوليا فاعلا والتزاما بحقوق الإنسان في ظل سعي حكومة المحافظين إلى منعه. وتتجسد هذه المساعي في حملات تشهير عبر وسائل الإعلام البريطانية على مدى السنتين الماضيتين، كما سبق لها التحذير من انقلاب أحد كبار الجنرالات ضد كوربين في حال فشل في دعم السياسة العسكرية الحالية لبريطانيا.
يبدو أن كوربين لا يتبع نهجا مناهضا لوسائل الإعلام الرئيسية ومسؤولي “الحكومة الدائمة” في وايت هول فقط. وعلى الرغم من خطاب حزب العمال السائد حول “الأممية”، إلا أنه سبق لحزب كوربين دعم أفكار توني بلير فيما يتعلق بحربي العراق وليبيا، ناهيك عن دعمه التاريخي للأنظمة القمعية وصادرات الأسلحة والسياسة الخارجية الأمريكية بشكل مماثل للمحافظين.
إذا ما انتُخب كوربين رئيسا للوزراء، فسوف يواجه هجوما ثلاثيا. وفي ذلك الوقت، سيتعين على حزبه قيادة حملة دعم شعبي واسعة النطاق والاستفادة بشكل كامل من وسائل الإعلام البديلة والتضامن الدولي وتحدي المؤسسة البريطانية بشكل أكثر فعالية، ليكون كوربين قادرا على إرساء سياسة خارجية بريطانية تعزز حقوق الإنسان بشكل حقيقي.
المصدر: ميدل إيست آي