تتصاعد الأحداث في السودان مع استمرار النزاع بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع المستمر منذ أكثر من عام ونصف، مع انفتاح جزئي للجيش منذ 26 سبتمبر/أيلول 2024، حيث تحول من استراتيجية الدفاع إلى الهجوم في معركة وصفها محللون بمعركة العبور (في إشارة لعبور الجيش السوداني للجسور في العاصمة الخرطوم)، وآخرون يرونها بداية النهاية لمليشيا الدعم السريع في الخرطوم وبقية بقاع السودان.
في ظل تلك التطورات، برز إلى السطح حدث استسلام وانضمام قائد بارز في الدعم السريع للجيش السوداني، وهو أبو عاقلة كيكل، قائد الدعم السريع في ولاية الجزيرة، إلى جانب عدد من المستشاريين السياسيين الذين أعلنوا انسلاخهم عن الدعم السريع في مؤتمر صحفي في مدينة بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة.
أثارت هذه الأحداث تساؤلات حول ما إذا كانت تمثل بداية انهيار المليشيا أم جزءًا من استراتيجية جديدة، إلى جانب ذلك تشهد مناطق شرق وشمال ولاية الجزيرة في وسط السودان موجة من انتهاكات حقوق الإنسان، وصفها البعض بالحملات الانتقامية التي تقوم بها مليشيا الدعم السريع، سيقدم التقرير تحليلًا لهذه التطورات، وسيركز على تداعياتها على مستقبل الصراع في السودان.
“الدعم السريع تفقد تكتيك الفزع”
يصف خبير أمني تحدث لـ”نون بوست” شريطة إخفاء هويته، الوضع الراهن بقوله: “فقدت الدعم السريع تكتيك الفزع”، موضحًا أن الميليشيا التي كانت تعتمد على الشباب من القبائل الداعمة بدأت تواجه عزوفًا ملحوظًا من هؤلاء الشباب عن القتال، وأوضح الخبير الذي فضّل عدم ذكر اسمه لـ”نون بوست”، أن “القبائل بدأت تدرك أن ما يحدث هو استنزاف لأبنائها في معارك لا تعود بالنفع عليهم”.
وأشار الخبير إلى أن “العديد من المتحركات التابعة للدعم السريع أصبحت هدفًا سهلًا للطيران”، مضيفًا أن القصف المتواصل أفقد الميليشيا عددًا كبيرًا من مقاتليها ومعداتها، ورأى أن “غياب القادة عن الساحة، مثل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم، جعل العديد من القادة الميدانيين والمقاتلين يشعرون بأنهم متروكون لمصيرهم، دون إمداد أو دعم حقيقي”.
ويقول الخبير: “فقدان الدعم السريع لجبل مويا الاستراتيجي كان نقطة تحول كبيرة”، حيث يشير إلى أن هذه الخسارة تركت مليشيا الدعم السريع في مناطق معزولة عن بعضها البعض، ما سهل على الجيش السوداني السيطرة على مناطق جديدة في ولاية سنار، وتابع: “في مناطق مثل الدندر والسوكي، سيطر الجيش بسهولة بعد تراجع المقاومة من الدعم السريع”.
ويضيف الخبير أن عددًا من المستشارين انشقوا عن مستشارية حميدتي، مشيرًا إلى أن منهم من أعلن عن انسلاخه في مؤتمر صحفي، وأن هناك مستشارين آخرين كانوا يخططون للظهور، إلا أن ظروفًا لوجستية – على ما يبدو – منعتهم من الحضور.
وقال:”هناك غياب كامل لأي رؤية سياسية أو عسكرية واضحة لدى قيادة الدعم السريع”، مشيرًا إلى أن العديد من القبائل التي كانت تدعم الميليشيا بدأت “تنادي أبناءها للعودة والابتعاد عن القتال”، وأكد أن الانشقاقات ستستمر ما دامت الدعم السريع تعيش هذا التراجع في الدعم القبلي والسياسي.
غياب حميدتي: فراغ وفوضى أكبر
إلى ذلك، شدد الخبير الأمني على أن “غياب حميدتي خلق فراغًا كبيرًا، حيث أصبح القادة والمقاتلون يشعرون أن داعمهم الأول العسكري والمالي قد اختفى”. وأشار إلى أن الشائعات بشأن مصير حميدتي، سواء كان حيًا أم ميتًا، زادت من عدم استقرار قوات الدعم السريع، حيث بدأت العديد من القيادات تفكر بالانسحاب والنجاة بنفسها، وأضاف قائلًا “في الخرطوم، كل يوم نسمع عن هروب أفراد من قوات الدعم السريع، ما أدى إلى تدهور الروح المعنوية للمقاتلين وانهيار ارتباطهم بالقوة”.
وأوضح: “الجنود لا يتلقون رواتب أو إمدادات، ما أجبرهم على مهاجمة المناطق المحيطة بهم لتأمين حاجاتهم”، وأشار: “فيما يتعلق بقوات المليشيا في ولاية الجزيرة فقد أصبح هدفهم الأساسي هو النهب، دون أي اعتبارات سياسية، ما أدى إلى ارتفاع الاستياء الشعبي تجاههم”.
وذكر الخبير أن الوضع في الجزيرة بات متوترًا، حيث وقعت مواجهات بين السكان الذين يدافعون عن مالهم وأعراضهم وقوات الدعم السريع في العديد من القرى، ما أسفر عن سقوط العديد من الشهداء بين الأهالي.
واختتم حديثه قائلًا: “القيادات في الدعم السريع تدرك الآن أن الوضع وصل إلى نهايته، وكل فرد يبحث عن طريقة للانسحاب بأمان”، مؤكدًا أن الانشقاقات قد تستمر بوتيرة متزايدة في ظل غياب القيادة وفقدان الأمل بين المقاتلين.
تداعيات انضمام كيكل للقوات المسلحة
تشهد قرى شرق وشمال ولاية الجزيرة حملات انتقامية من مليشيا الدعم السريع ضد المدنيين، تحت زريعة أن كيكل الذي كان يوفر الحماية لتلك المناطق أضحى خائنًا بانضمامه للجيش السوداني، وبث أفراد من مليشيا الدعم السريع مقطع فيديو هددوا فيه أهالي قرية “السريحة” قبل ارتكابهم مجزرة بشعة قُتل فيها أكثر من 124 شخصًا وجُرح مئات آخرون.
ونشرت عناصر من مليشيا الدعم السريع مقاطع فيديو وهم يمارسون أشكالًا وحشية من الانتهاكات والتعذيب بحق السكان المدنيين في قرية “السريحة”، بما في ذلك الضرب والإذلال والتعذيب والاعتقال والتهجير القسري، واستهداف القرى بالمدافع والآليات العسكرية.
في ذات الصدد يُظهر مقطع فيديو عددًا من كبار السن يتعرضون للإذلال من عناصر الدعم السريع ومطالبتهم بترديد أصوات حيوانات، ومقطع فيديو آخر يوضح إذلال قائد بالدعم السريع لشخص كبير في السن بشده من لحيته بصورة جنونية.
وفيديو آخر يظهر تعذيب عناصر الدعم السريع لمواطنين بينهم كبار في السن يتم إجبارهم على الركض لمسافات طويلة، إلى جانب ذلك، أظهر مقطع مصور أهالي “السريحة” وهم يوارون جثامين العشرات من ذويهم الذين تم قتلهم على أيادي عناصر مليشيا الدعم السريع، فيما انتشرت نداءات لإنقاذ الجرحى في ظل انعدام الرعاية الصحية في المنطقة.
من الدعم السريع إلى القوات المسلحة: انضمام كيكل يعيد ترتيب أوراق الصراع
وفي هذا السياق، قال “مؤتمر الجزيرة” (كيان مدني) إن قوات الدعم السريع اقتادت أكثر من 150 من مواطني قرية “السريحة” إلى معتقلات بمنطقة كاب الجداد القريبة.
وحسب “مؤتمر الجزيرة”، يتجاوز عدد القتلى بمدينة تمبول 300 قتيل بينهم نساء وأطفال، والجثث الملقاة على الطرقات تزيد من صعوبة إجراء حصر دقيق حتى الآن، لمغادرة المواطنين المدينة.
من جهة أخرى، قالت مجموعة “محامو الطوارئ” الحقوقية إن قوات الدعم السريع تواصل استهداف المدنيين العزل في هجمات انتقامية عشوائية تمارس فيها أقسى أشكال العنف، غير مبالية بالمعايير الإنسانية أو الأخلاقية.
وأردفت أنها استهدفت قرى كريعات، زرقة، العقدة، العبوداب، الطندب، ود موسى، الشقلاوه، ما أسفر عن مئات القتلى والمصابين، بالإضافة إلى تشريد مئات العائلات ونزوح نحو 10 آلاف شخص بحثًا عن ملاذ آمن.
وأكد البيان أن هذه الانتهاكات مخالفة لنص المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تُلزم الأطراف في النزاعات المسلحة غير الدولية باحترام كرامة الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، بما في ذلك المدنيين، وتحظر جميع أشكال العنف ضدهم، بما في ذلك القتل والمعاملة القاسية.
وتابع البيان: “كما شهدت قرية السريحة مجزرة مروعة أسفرت عن مقتل 124 مدنيًا وإصابة مئات آخرين، إضافة إلى حملات اعتقال وانتهاكات واسعة بحق المواطنين الأبرياء”، وأردف البيان: “في محاولة للتغطية على هذه الجرائم، قامت قوات الدعم السريع بتعطيل شبكات الاتصال والإنترنت، بما في ذلك خدمة (ستارلينك)، لمنع توثيق الانتهاكات”.
ولفت البيان إلى أنه في المقابل، يقوم الجيش بتحشيد وتسليح بعض المجتمعات المحلية بدعوى مقاومة قوات الدعم السريع، ما يعرّض المدنيين لخطر الاستهداف المباشر ويزيد من حدة الانقسامات المحلية ويضاعف العنف.
وأشار البيان إلى أن توظيف المدنيين في النزاع المسلح يمثل انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 13 من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1977، التي تحظر الهجمات التي تجعل من السكان المدنيين هدفًا مباشرًا للأعمال العدائية.
وفي الصدد، قال قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، في منشور على حسابه بمنصة “إكس”، إنه “كلما تمادت مليشيا آل دقلو الإرهابية في سفك دماء المواطنين الأبرياء، ازدادت عزيمة الشعب السوداني علي مقاومتهم ،إن انتهاك القانون الدولي الإنساني والجرائم ضد الإنسانية لن تمر دون عقاب، وتجعل من غير الممكن التسامح مع هذه المليشيا الإرهابية”.
في المقابل، قالت مليشيا الدعم السريع في بيان أمس إن البرهان يتحمل المسؤولية الكاملة فيما تشهده ولاية الجزيرة من اشتباكات مع المقاومة الشعبية وكتائب العمل الخاص، مشيرةً إلى تصريحاته بشأن تسليح كل من هو قادر على حمل السلاح في منطقة البطانة، وأنكرت قوات الدعم السريع في بيان قتلها المواطنين، متحدثة عن أنها تواجه مسلحين، ومشددة على أنها ستضرب بيد من حديد كل من يحمل السلاح.
في وقت حثت فيه منظمة “هيومن رايتس ووتش” الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي على البدء في التخطيط لنشر بعثة لحماية المدنيين في السودان. وأضافت في بيان، أنه لا يمكن انتظار محادثات وقف إطلاق النار لتؤتي ثمارها أو الظروف المثالية لنشر البعثة. واستخدمت عبارة “يحتاج المدنيون إلى الحماية الآن”، كذلك دعت المنظمة مجلس الأمن إلى أن يوسّع فورًا حظر الأسلحة الأممي المفروض حاليًا على دارفور ليشمل البلد بكامله، وأن يفرض عقوبات على المسؤولين عن الفظائع، ويؤكد أنهم سيُحاسبون.
وقد قال منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: “التقارير الواردة من ولاية الجزيرة تشير إلى أن قوات الدعم السريع ارتكبت المزيد من عمليات القتل الجماعي والاغتصابات“.
في سياق متصل أعربت منسقة الأمم المتحدة المقيمة، ومنسقة الشؤون الإنسانية في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، عن انزعاجها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بتصاعد العنف المسلح في ولاية الجزيرة، والذي أودى بحياة مئات المدنيين، وذكرت: “أطلق مقاتلو الدعم السريع النار على المدنيين شرق الجزيرة بشكل عشوائي وارتكبوا أعمال عنف جنسي ونهب واسع النطاق على الأسواق والمنازل وحرق المزارع” وقالت إن التقارير الأولية في الفترة ما بين 20 و25 أكتوبر/تشرين الأول 2024، تشير إلى أن قوات الدعم السريع شنت هجومًا كبيرًا عبر شرق الجزيرة.
مستقبل الصراع: ماذا بعد استسلام القادة؟
في هذا المحور يرى البعض أن ما يحدث بولاية الجزيرة أمر محزن، وأن مسؤوليته تطال القوات المسلحة، لأن هذه الولاية وموقعها المتداخل مع عدد من الولايات التي تحت سيطرة الجيش، يجعل عملية تحريرها متاحة عبر أكثر من جهة ومحور عبر عمل متزامن في أفضل الفروض.
ومن جهة أخرى يعتقد محللون أن مليشيا الدعم السريع فشلت في كل خططها العسكرية والسياسية والإعلامية، وفشلت في الرهان على تفاوض يضمن لها شرعية التواجد في الإقليم الأوسط، فلجأت إلى خطة تصعيد الانتهاكات بالقدر الذي يدفع الأهالي للمطالبة بقوات حماية أممية، تتحول لاحقًا لقوات فصل بينهم وبين الجيش السوداني، وأن آخر ما تبقى في يد مليشيا الدعم السريع هو الرهان على انقسام اجتماعي داخل الإقليم الأوسط.
ويعتقد عمير محمد زين عضو الحزب الليبرالي السوداني في حديثه لـ”نون بوست” أن هناك إشكالية في المصطلح المستخدم من إعلام الجيش، “فما قيل عن استسلام كيكل اتضح أنه انضمام وانحياز للقوات المسلحة نتيجة وساطات أهلية كما رشح من معلومات، وربما ينطبق الأمر ذاته على المستشارين المدنيين الذين انحازوا للجيش”.
ويضيف “لا أعتقد أن هناك تأثيرًا كبيرًا على الصراع نتيجةً لهذه الانشقاقات، رغم كونها نصرًا دبلوماسيًا وتكتيكيًا للجيش وهزيمة تكتيكية للدعم السريع، فإن الناظر لتاريخ الحروب الأهلية في السودان يلاحظ أن الانشقاقات والانضمامات للحكومة سمة متكررة حدثت مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وحدثت مع حركة تحرير السودان في دارفور، بل إن حميدتي نفسه كان متمردًا انحاز للحكومة وذلك قبل أن يقود الدعم السريع”.
ويردف “ما أدلل عليه هنا، أن هذه التنقلات على جانبي طرفي حرب النفوذ والسلطة الحالية لا تؤدي إلا إلى زيادة إشعال الحرب كما في انحياز كيكل الأخير، حيث لم يستفد منه المواطن ولم يساهم في تقليل حجم الانتهاكات، بل استخدمت قوات الدعم السريع انحيازه كمبرر لنهب وقتل المواطنين في شرق الجزيرة” على حد وصفه.
الجوانب السياسية والدولية
فيما يتعلق بالبعد السياسي والدولي، يضيف عمير: “للأسف السودان ليس على أعلى سلم الأولويات الدولية، المجتمع الدولي منشغل منذ فترة بالحرب في أوكرانيا ومشكلة الشرق الأوسط وحتى بالصراع في بحر الصين الجنوبي، وهذا ملاحظ حتى في تراجع التغطية العالمية لأحداث الحرب في السودان، رغم ذلك تتواصل التدخلات الإقليمية وستستمر ما استمرت الحرب، وتهدد بتحولها لحرب بالوكالة خاصة في ظل التوتر بين دولتين إقليميتن مهمتين كمصر وإثيوبيا”.
ويؤكد: “الحل الحقيقي لهذا الصراع هو على طاولة التفاوض، تمامًا كما تم حل أي حرب أهلية من قبل، والانتصارات التكتيكية لهذا الطرف أو ذاك لا تعني أن أيًا منهما قادر على الحسم بل تعني زيادة معاناة المواطنين”، ويردف: “أي جهد من شأنه تخفيف المعاناة عن كاهل السودانيين والسودانيات يجب دعمه، ويبدأ ذلك بتفاوض بين طرفي الكارثة الوطنية الحالية ولا ينتهي إلا بتوافق سياسي وطني عريض مفضي إلى تسوية شاملة” على حد تعبيره.
ويرى محللون أن المجتمع الدولي يغض الطرف عن تمويل دولة الإمارات لمليشيا الدعم السريع تمويلًا مفتوحًا أثبتته العديد من التقارير المحلية والدولية، وأن بعض الدول تحمي الدعم السريع في اجتماعات مجلس الأمن، وأنه في لحظة ما تدخل البريطانيون وأفشلوا الاجتماع الذي كان سينتهي بإدانة أممية لما تفعله دولة الإمارات في السودان.
من جهة أخرى يشدد خبراء على ضرورة تصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية، مع فرض عقوبات على جميع قادتها، والضغط على دولة الإمارات للكف عن تمويلها، إن كان المجتمع الدولي جادًا تجاه حل الأزمة في السودان التي خلفت أكثر من 14 مليون نازح داخلي ولاجيء.