يتحضر العراق لتولي دور أكبر وأوسع في الأزمة السورية، بعد تلميح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى استعداد بلاده لسحب قواتها من سوريا خلال 3 إلى 4 شهور.
ولكشف بعض جوانب هذا الدور، قال رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، إن بلاده بدأت تتحرك فعلاً نحو النظر في دورها حيال الأزمة السورية بعد الانسحاب الأمريكية، مشيراً إلى لقاء مسؤولين أمنيين كبار من بغداد التقوا “بالرئيس السوري”، بشار الأسد، في دمشق، مشدّداً على توجه العراق نحو لعب دور أوسع في محاربة تنظيم “داعش” وتأمين الحدود بعد انسحاب القوات الأمريكية.
يبدو أن الدور العراقي في الأزمة السورية قد يقوم، في البداية، على زيادة حجم الضربات الجوية ضد عناصر تنظيم “داعش”
وتنبع أهمية الدور العراقي في الأزمة السورية بعد انسحاب القوات الأمريكية، انطلاقاً من طول الحدود المشتركة بين البلدين، والتي تبلغ 600 كيلو متراً. كما أن تنظيم “داعش” استطاع خرق هذه الحدود، والسيطرة عليها لفترة طويلة، ما يجعل العراق بحاجة ماسة وحقيقية للعب دور أكبر على الحدود في حال انسحبت القوات الأمريكية فعلاً.
لا ريب أن الموقع الجغرافي للعراق يجعل له دور مهم في فترة ما بعد الانسحاب الأمريكي. ويبدو أن الدور العراقي في الأزمة السورية قد يقوم، في البداية، على زيادة حجم الضربات الجوية ضد عناصر تنظيم “داعش”. ولا يُعدّ ذلك الأمر بالتحرك الجديد للعراق حيال الأزمة السورية، حيث استهدف الجيش العراقي تنظيم “داعش” داخل الأراضي السورية في أكثر من غارة، كان آخرها استهداف طائرات الجيش العراقي لمبنى احتضن اجتماعاً لـ 30 قيادي من تنظيم “داعش” في قرية السوسة التابعة لمدينة دير الزور في شرق سوريا، بعد ساعاتٍ قليلة من اجتماع المسؤوليين العراقيين الأمنيين برئيس النظام السوري، بشار الأسد. ومع انسحاب القوات الأمريكية، تزداد مساحة مناورة الطائرات العراقية على الحدود السورية، ويرتفع مستوى مسؤوليتها في محاربة تنظيم “داعش” الذي يُقدر بوجود 2000 مقاتل من التنظيم ينشطون على الحدود العراقية ـ السورية، ما يُلمح لاحتمال ارتفاع وتيرة الضربات الجوية العراقية داخل سوريا.
على صعيد دولي، يرتبط الدور العراقي المُستقبلي في الأزمة السورية، بالخطة الأمريكية التي أفصحت عنها سابقاً مؤسسة راند للأبحاث في دراستها “خطة سلام من أجل سوريا ـ 4″، والتي باتت بشواهدها وتفاصيلها الأكثر مُخاطبةً لكشف أدوار جميع الفواعل في الأزمة السورية. تنطلق جوانب الخطة، بإيجاز، من نقطة ضرورة ميل الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا، ركوناً إلى عدمية وجودها الشرعي في سوريا، بعد الانتهاء من محاربة تنظيم “داعش”، والاتجاه نحو استخدام الملفات السياسية، كعمليتي إعادة الإعمار واللاجئين، كورقة ضغط ضد روسيا، للحد من النفوذ الإيراني الذي يهدد الأمن “الإسرائيلي” والخليجي. كما تنادي الخطة بمنح القوات المحلية شرق الفرات فرصة تأسيس مجالس محلية إدارية، كي تتمكّن من تأسيس سورية ذات العلاقات المُتوازنة مع القوى المتنافسة التي تتقاسمها جغرافياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
لعل ما يُدلل على توجه الولايات المتحدة نحو تنفيذ هذه الخطة؛ تحسن علاقاتها نسبياً مع أنقرة، وميلها لاستيعاب بشمركة المجلس الوطني الكردي المُنافس لوحدات حماية الشعب والحركات العربية والتركمانية والسريانية داخل قوات “قسد” لتأسيس مجالس إدارية، وإنشائها قواعد على طول الحدود مع تركيا
وتركّز الخطة على حاجة الولايات المتحدة الماسة لتركيا والعراق في تحقيق “الانتشار التكاملي” الذي يمنح دول وعناصر “ما دون الدولة” الإقليمية دوراً مُتوازناً يخدم مصالحها ومصالح الولايات المتحدة قدر الإمكان، والذي يوفر على الولايات المتحدة تكاليف مادية وعسكرية وبشرية فيما يتعلق بهدفها القائم على منع ظهور مُسببات جديدة لنشوء تنظيم “داعش”، والإبقاء على نفوذها في شرق الفرات، وبالتالي التحكم بمسارات مواجهة النفوذ الإيراني.
ولعل ما يُدلل على توجه الولايات المتحدة نحو تنفيذ هذه الخطة؛ تحسن علاقاتها نسبياً مع أنقرة، وميلها لاستيعاب بشمركة المجلس الوطني الكردي المُنافس لوحدات حماية الشعب والحركات العربية والتركمانية والسريانية داخل قوات “قسد” لتأسيس مجالس إدارية، وإنشائها قواعد على طول الحدود مع تركيا، وإعلان ترامب الصريح ببدء قواتها للانسحاب. هذه المؤشرات، وغيرها، تؤكّد، بما لا يدع مجالاً للشك، توجه الولايات المتحدة نحو الانسحاب “الجزئي” من سوريا، والتمركز على طول الحدود التركية ـ السورية عبر قواعد حدودية وقاعدة إنجيرليك، وعلى طول الحدود العراقية ـ السورية عبر قواعد حدودية وقاعدتي التنف في سوريا والأسد في العراق.
وانطلاقاً من النقطة الأخيرة، يتضح بأن الدور العراقي الأساسي والاستراتيجي حيال الأزمة السورية، عقب إيصالها إلى تسوية، يكّمن في توفير الدعم اللوجستي للقوات الأمريكية، من خلال القواعد والمطارات العسكرية، وبعض التجهيزات العسكرية كالطائرات الحربية والقوات العسكرية، من أجل الانتشار على طول الحدود مع سوريا، بما يتواءم مع التحرك الأمريكي.
وفي ضوء هذه الخطة، قد يظهر تنسيق تركي عراقي قوي ترغب فيه أنقرة أكثر من بغداد. إذ يزور الرئيس العراقي، برهم صالح، أنقرة اليوم؛ 3 كانون الثاني/يناير 2019، تلبيةً لدعوة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. وعلى الأرجح، ينبع الحرص التركي من رفع التنسيق مع بغداد لأعلى المستويات الرفيعة، بهدف تحقيق أمرين؛ أولهما قطع الطريق على الأموال أو القوى السياسية والعسكرية الخليجية التي قد تدخل عبر العراق أو إقليم كردستان، في سبيل تحقيق توازن قوى يخفف أهمية الميزة الجيوسياسية لتركيا أمام الولايات المتحدة، وبالتالي إقناع الأخيرة للبقاء عسكرياً واستشارياً بشكّلٍ نسبي يمكن من خلاله تقليم النفوذ الإيراني بصورة فعلية، وبالاعتماد على العناصر المحلية أو الدولية ـ الإقليمية أكثر من تركيا التي تُحاول إقناع الولايات المتحدة بتحقيق أكبر قدر ممكن من الانسحاب الذي يمكّنها من المناور أكثر أمام خطر وحدات حماية الشعب.
تركيا تتجه، في نهاية المطاف، نحو اللعب على وتر ميزان القوى ليس فقط بين واشنطن وموسكو، بل بين واشنطن ـ الخليج وإيران أيضاً
أما الأمر الثاني، فيتعلق بمُستقبل العلاقات بين العراق ـ كردستان العراق ومنطقة شرق الفرات، حيث ترغب، على ما يبدو، تركيا في تحقيق تعاون واسع مع العراق من أجل تحقيق أعلى مستوى ممكن من التحكم بالمسارات الاقتصادية مع منطقة شرق الفرات، ليكون هناك سلاح يُستخدم ضد وحدات الحماية في حال حادت عن النطاق المرصود لها بعد الانسحاب الأمريكي. لذا قد تحاول تركيا إقناع العراق بتفعيل معبر الربيعة ـ اليعربية لتسيير المُعاملات التجارية مع منطقة شرق الفرات، كبديل لمعبر سيمالكا بين كردستان العراق ومنطقة شرق الفرات. وفي حال تم فتح معر سيمالكا، يتم الضغط من بغداد على أربيل التي لا تتوافق أيديولوجياً وسياسياً أصلاً مع حزب الاتحاد الديمقراطي، لتتم عملية الضغط الاقتصادي بتنسيق وتوافق.
وفي دعوة الرئيس أردوغان للرئيس صالح المُرشح للرئاسة العراقية باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني للرئاسة العراقية، دلالة أخرى يمكن استقائها في إطار رفع مستوى التعاون مع الاتحاد الوطني الذي مال للتنسيق مع بغداد في إحباط توجه الحزب الديمقراطي الكردستاني نحو الاستقلال في أيلول/سبتمبر 2017. ذلك الاستقلال الذي تم بدعم من بعض المراكز البحثية والتنظيمية الإماراتية، بمعنى أن أنقرة تُحاول رفع مستوى التنسيق مع بغداد والاتحاد الوطني الكردستاني الحليفين لإيران؛ أي أن تركيا تتجه، في نهاية المطاف، نحو اللعب على وتر ميزان القوى ليس فقط بين واشنطن وموسكو، بل بين واشنطن ـ الخليج وإيران أيضاً.
في الختام، تمتلك العراق مع سوريا حدوداً طويلةً بمسافة 600 كيلو متر. وهذا ما يجعله له، بشكلٍ أو بآخر، دوراً كبيراً في فترة ما بعد الانسحاب الأمريكي. وتزداد أهمية الدور العراقي نتيجة التعويل الأمريكي على الجغرافيا والدولة العراقيتين كجسر لوجستي في إدارة نفوذها في منطقة شرق الفرات شمال سوريا. كما تزداد أهمية الدور بالاتكال التركي على بغداد في إدارة ملف منطقة شرق الفرات وكردستان العراق ما بعد الانسحاب الأمريكي، على نحوٍ تكافلي يخدم مصالحهما المشتركة.