تزخر القارة الإفريقية، بالعديد من أشكال التعبير القديمة، نظرا لتنوعها الثقافي والحضاري واللغوي، حيث إن الثقافات والتعبيرات تتنوع وتتمايز بتنوع جغرافيا القارة، وتعدّ الحكايات الشعبية واحدة من هذه الأشكال التعبيرية القديمة التي برع الأفارقة فيها منذ القدم، حيث تلعب الحكايات الشعبية دورا هاما في الثقافات الإفريقية، حتى أنه يمكن التعرف على الهوية الثقافية الإفريقية من خلال هذه الحكايات.
محور الحكايات الشعبية
تعتبر الحكايات الشعبية، وليدة للمجتمعات الإنسانية ونتاج لثقافاتها المختلفة، تثمرها إبداعات شعوب العالم على مرّ العصور، وتستمدّ أهميتها بما تحمله من خصائص فنية ولذة ثقافية، تفردت بها عن غيرها من ألوان الأدب الشعبي.
وتعرف الحكاية الشعبية، بتلك الأحدوثة التي تتميز بالخيال الشعبي ويتم تناقلها شفويًا من جيل إلى جيل. وقد اعتاد الأفارقة تناقل هذه الحكاية للأبناء بواسطة الجد أو الجدة في الجلسات خاصة الليلية منها، ويعود أصل الحكاية الشعبية إلى فترات قديمة جدا.
وللأفارقة، تراث غني من هذه الحكايات الشعبية، وأشهرها وأكثرها انتشارا حكايات الحيوانات الماكرة، ومثالها عند شعوب البانتو في شرقي إفريقيا ووسطها وغربيها وفي غربي السودان هو الأرنب البري، وفي غربي إفريقيا العنكبوت.
شجعت حركات التحرر الوطني بإفريقيا، على الاهتمام بهذه الحكايات الشعبية كمقدمة للبحث عن هوية وطنية وقومية تميزها
تتميز هذه الحيوانات عندهم، عادة بالحيلة والدهاء تهزم بهما أعداء أكبر منها وأقوى على الرغم من كثرة أخطائها التي تمتع المستمعين وتضحكهم، فحين سرقت السلحفاة سلة الحكمة من الآلهة وحاولت الهرب بها مثلا، اعترضتها شجرة لم تستطع تخطيها، لأنها على غفلة من أمرها علقت السلة في عنقها بدلاً من أن تحملها على ظهرها، وحين عجزت عن انتزاعها من رقبتها تناثرت الحكمة في العالم منذ ذلك الحين.
أما العنكبوت فيبدو في هذه الحكايات شخصية أسطورية، وخصماً عنيدا لإله السماء، يسرق قصصه ويخدعه، وهو بذلك يشبه إيشو إله يوروبا المخادع الذي يعترض الآلهة الآخرين ويعرقل أعمالهم ويعطل نواياهم.
إلى جانب ذلك، تمتلك مجتمعات وشعوب إفريقيا وقبائلها، حكايات عن الماضي والحاضر، ويتضح من بعض عادات وتقاليد الشعوب الإفريقية ومعتقداتهم في جميع مراحل حياتهم، أن الحكاية الشعبية تجسد ماضيهم ومستقبلهم، كما أنهم يعرفون عالم القرى والمدن، والعالم السفلي والعلوي.
وتعكس القصص الشعبية، نظرة الشعوب الإفريقية إلى العالم الخارجي المحيط بها، وتصوراتها حول شتى مظاهر الحياة والموت والفناء، وعن منابع النار، وغيرها من الخيرات والمنافع، فضلا عن الظواهر الطبيعية والنجوم المتلألئة في السماء.
تعتبر العنكبوت أحد أبرز أبطال الحكايات الشعبية الإفريقية
وتدور هذه الحكايات أيضا حول خلق العالم وأصل الكون، ومنبت البشر والحيوانات والحكايات التى تفسر سلوك كل منها، وتوضح السمات الخاصة بكل الكائنات الخرافية، والشخصيات الأسطورية الإفريقية وجوانب الحياة في القارة كالحسد والغيرة بين الزوجات العديدات لزوج واحد وكلها تمثل جانبا مهما من حياة الزنوج ومنها قصص للأطفال عن مضار الكذب.
حفظ الذاكرة الإفريقية
في خطابه عام 1960 أمام أعضاء منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (الـيونسكو)، قال الكاتب المالي أمادو أمباتي با، ” في إفريقيا كلما مات عجوز احترقت مكتبة غير مكتشفة”، للتعبير عن أهمية التراث الشفهي الإفريقي في حفظ الذاكرة البشرية في هذه القارة.
وتمثّل الحكاية الشعبية أحد أبرز روافد حفظ الذاكرة الشعبية في القارة الإفريقية، إلى جانب الرقص والسرد وباقي الأشكال التعبيرية القديمة، فهي عماد بحوث الأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانية التي تهتم بالقارة السمراء.
وتستمدّ الحكاية الشعبية أهميتها من كون المشافهة كانت وسيلة الاتصال الرئيسة في الحضارة الإفريقية القديمة، فالأخبار والأساطير والأشعار تنتقل من قبيلة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفوية، وكان الراوي شخصا متميزا بمكانة مرموقة في قبيلته، لامتلاكه قدرة بلاغية خاصة، وتمتعه بقوة الذاكرة، وتبادل الأمثال والأشعار والحكايات بين روادها.
ويمتاز الراوي عادة، بسحر غريب بسبب قدرته على استعادة شخصيات تاريخية يبعث فيها الحياة من خلال أسلوبه في الإلقاء وحركات يديه وتعبيرات وجهه. وتتطلّب مهنة الحكواتي حفظ العديد من النصوص والقدرة على جذب الجمهور والحفاظ عليه لفترة من الزمن.
تعتبر الحكاية الشعبية، واحدة من أهم وسائل نقل القيم الأخلاقية للأجيال المقبلة
فضلا عن كونها، تعبّر عن المكونات الاجتماعية للجماعات المختلفة للأفارقة، فإن هذه الحكايات الشعبية السائدة، تقدم وصفا للتركيبة العرقية والثقافية والطبقات الاجتماعية التي تتناولها، وعلى الرغم من التطورات التكنولوجية في القارة السمراء، فإن دور الحكايات الشفهية مازال فعالا بدرجة كبيرة، فالشعوب الإفريقية مولعة بالحكايات الشعبية والأمثال.
وأدّت النزعة القومية لدى الأفارقة ونزوعهم إلى التحرر من الاستعمار الغربي، إلى ازدياد اهتمامهم بتراثهم الحضاري، فلم يعد العمل على جمعه ودراسته محصورا على بعض العلماء القادمين من الغرب، بل أضحت المجموعات التي دونها كتّاب أفارقة منذ ثلاثينات القرن العشرين أفضل مجموعات التراث الشعبي الإفريقي.
وشجعت حركات التحرر الوطني بإفريقيا، على الاهتمام بهذه الحكايات الشعبية كمقدمة للبحث عن هوية وطنية وقومية تميزها، عن باقي الهويات في العالم، لذلك لقيت الحكايات الشعبية الأفريقية لقيت اهتماما متزايدا في السنوات الأخيرة من جانب الباحثين الأفارقة والأجانب.
فهم الثقافة الإفريقية
تعتبر الحكايات الشعبية، أبرز انعكاس للهوية الثقافية في إفريقيا من خلالها لنا أن نتعرف عن ثقافة الأفارقة، لذلك فإن الحفاظ على هذه الحكايات الإفريقية سيساعد على الحفاظ على ثقافة كاملة لهذه القارة التي تتميز بالثراء الثقافي والحضاري.
وتمّ تناقل هذه الحكايات عن عدد كبير من اللغات الإفريقية المتنوعة، وذلك على ألسنة شعوب وقبائل إفريقيا الممتدة أسفل منطقة الصحراء وحتى جنوب القارة السمراء، ما مكّن من معرفة ثقافة كل شعب في هذه القارة.
ويُمكّن سماع هذه الحكايات الشعبية المتنوعة، الأجانب من معرفة ثقافة الأفارقة، ويقدّم لهم فكرة شاملة عن معتقدات المجتمع موضوع الحكاية وواضعها، وآراءه وعاداته، لذلك فهي تعتبر تعبيرا هاما عن الثقافة الإفريقية.
https://www.youtube.com/watch?v=OBXTRUMqcyQ
وتعتبر الحكاية الشعبية، واحدة من أهم وسائل نقل القيم الأخلاقية للأجيال المقبلة، ذلك أن لها وظيفة أخلاقية وسلوكية، فهي تشتمل على الحكمة، والدروس الأخلاقية، يمكن القول إن لكل حكاية حكمة ونقد في موضوع معين أو صراع بين ميزتي الخير والشر.
ويحرص الأفارقة على الاحتفاء بقصصهم الواقعية والاسطورية، حتى أنهم ينظمون لها احتفالات خاصة، لذلك نرى أن الفنون الاحتفالية كالمسرحيات والمهرجانات المعدّة للغرض قد أسهمت بدور مميز في حفظ هذه الآداب، ونقلها إلى العموم للاستفادة منها.
تمثّل الحكايات الشعبية الإفريقية، خزانا للعادات والتقاليد والقيم، وهي عبارة عن أرشيف يتضمن طرق عيش الأجيال السابقة وتفاعلهم مع محيطهم الطبيعي، كما تخبر عن نوعية العلاقات بين الأشخاص، بالإضافة إلى أنها تهذب الصغار وتجيب عن تساؤلاتهم الوجودية، كما تعدّ شكلا من أشكال الهوية، والخصوصية الثقافية للشعوب الإفريقية، وهو ما جعل عديد القوى الغربية تسعى إلى طمس هذه الحكايات.