تستعد الحكومة الموريتانية هذه الأيام، إلى تنظيم مسيرة وطنية الأسبوع المقبل، برعاية وحضور رئيس البلاد محمد ولد عبد العزيز، “وقوفًا في وجه الخطابات المشحونة بالكراهية والتحريض على الفرقة، أيًا كانت مصادرها”، وفق قولها، وذلك عقب تعالي خطابات الكراهية في البلاد من بعض الأطراف، فما القصة؟
مسيرة وطنية
الدعوة إلى المسيرة، جاءت من حزب “الاتحاد من أجل الجمهورية” الحاكم، حيث دعا الأحزاب السياسية والأئمة والعلماء وهيئات المجتمع المدني، إلى الوقوف في وجه دعوات الكراهية التي تسعى للنيل من أمن البلد والمساس بسلمه وتماسكه الاجتماعيين.
وقال الحزب في بيان: “خطابات ورسائل تحريضية تدعو إلى الكراهية والنيل من الوحدة الوطنية، انتشرت خلال الفترة الأخيرة”، مشيرًا إلى أن تلك الخطابات تشكل خطرًا على نسيج اللحمة المجتمعية للبلد، وأضاف “الموريتانيون اختاروا منذ الاستقلال خيار الدولة الوطنية الجامعة لكل أبنائها، والموحِدة لجميع فئاتها وشرائحها، ولا يتحملون جريرة إرث ماض نبذوه وراء ظهورهم، وعفا عليه الزمن”، وأشار الحزب إلى أن “الدول التي شهدت أوضاعًا قادت إلى المساس بأمنها والإخلال بجو السكينة فيها، وقد تضرر الجميع فيها بتبعات غياب الأمن وانهيار السلم، دفع الكل دون استثناء ثمن تلك الفوضى والإضطرابات”.
يجتمع الحراطون الذين يبلغ عددهم وفقًا لتقديرات المنظمات الحقوقية الدولية 680 ألفًا، في المعاناة التي ذاقوها من ظلم السادة البيض
لم يذكر الحزب الحاكم بالتحديد من يقف وراء تلك الخطابات التي قال إنها تشكل خروجًا سافرًا على كل القيم الدينية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الموريتاني، غير أنه، من حين لآخر تتهم الحكومة حركة “إيرا” الحقوقية بالعمل على تخريب البلد ونشر الفتنة بين مكونات المجتمع، فيما تقول الحركة إنها تعمل من أجل القضاء على كل أشكال العبودية في البلاد.
وتقدم “مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية” التي تعرف بـ”إيرا” نفسها باعتبارها حركة حقوقية خرجت من رحم معاناة الأرقاء السابقين، ورفعت شعار المطالبة بإنصافهم، لكنها ما لبثت أن اشتغلت بالعمل السياسي وزاوجت بينه وبين الحقوقي في نشاطها وحراكها، ورغم أن الكثير من مؤسسيها يرونها حركة إصلاحية تهدف إلى التغيير، فإنها انتهجت خطابًا صداميًا مع كل المنظومة التي تحكم المجتمع، وقامت رؤيتها على رفض المصالحة مع واقع اعتبرته مسؤولاً عن تكريس الظلم.
حرب أهلية على نمط ما حدث في رواندا
هذه المسيرة كانت سببًا في مزيد من الانقسام في البلاد، حيث عرفت موريتانيا مؤخرًا جدلاً كبيرًا بعد أن قال الأمين العام للنقابة الحرة لعمال موريتانيا الساموري ولد بي، إنه تم تهديده خلال اجتماع داخل وزارة الوظيفة العمومية من أحد الحضور أمام أعين الوزير بالسلاح بعد أن عبر عن رفضه الدعوة والمشاركة في المسيرة المزمع تنظيمها الأسبوع المقبل.
بعد هذه الحادثة، تحدث الساموري ولد بي، في تدوينه على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” عن حرب أهلية بين شريحتي “البيضان” و”الحراطين” (الأرقاء سابقًا) في البلد، على نمط ما حدث في رواندا، وقال النقابي المعارض في تدوينة ثانية إن أحد الحاضرين من النقابيين الموالين للحزب الحاكم أشهر سلاحًا في وجهه وهدد بتصفية المتطرفين خلال المسيرة التي يعتزم الحزب الحاكم تنظيمها، واعتبر الساموري ولد بي أن المقصود بالمتطرفين والعنصريين شريحة الأرقاء السابقين (الحراطين) التي ينتمي إليها النقابي وهو ما نفاه الحاضرون في بيان مشترك.
وعقب ذلك، استدعت الإدارة العامة للأمن في موريتانيا الأمين العام للنقابة الحرة لعمال موريتانيا الساموري ولد بي، وحملته المسؤولية الكاملة عما يترتب على تدوينته، وقال ولد بي في تصريحات له بعيد انتهاء التحقيق معه، إن المدير الجهوي للأمن في ولاية نواكشوط الجنوبية، استدعاه للتأكد من صحة نسبة التدوينة إليه، وهو ما أقر به الساموري، نافيًا أن يكون حسابه تعرض للقرصنة، غير أن الأمن أبلغه باعتبار ما كتب يشكل تهديدًا للسلم الاجتماعي في البلد، مطالبًا بحذف التدوينات من الحساب، وهو ما استجاب له النقابي مباشرة بعد عودته من مقر إدارة الأمن.
الصراع الطبقي بين الحراطين والبيضان
أعادت هذه الأحداث، مسألة الصراع الطبقي في موريتانيا بين الحراطين والبيضان، والحراطون هم مكون أساسي للمجتمع الموريتاني، لا يختلفون عن بقية مكونات المجتمع إلا بلون البشرة شديد السمرة، ومع تعدد التفسيرات لمصطلح الحراطين يمكن القول إنه اصطلح عليه لوصف شريحة من الأرقاء السابقين ذابت هويتها في المجتمع العربي الأبيض وباتت تتكلم لغته، وما يميزهم أيضًا عن باقي المكونات تلك الذاكرة الجماعية المليئة بمخلفات عهود الرق الطويلة التي تجسدها أغانيهم المعروفة بالتغريبة.
ويجتمع الحراطون (الأرقاء السابقون) الذين يبلغ عددهم وفقًا لتقديرات المنظمات الحقوقية الدولية 680 ألفًا، في المعاناة التي ذاقوها من ظلم السادة البيض وهيمنتهم على نفوسهم وامتلاك أجسادهم وتسخيرها لخدمتهم دون مقابل بما يخالف القانون والشرائع، وفق روايات كثيرة ومتعددة لكنها اتفقت على الشعور الشديد بالظلم الممزوج بالحسرة وعدم القدرة على فعل أي شيء.
أما البيضان، فهم الذين يتكلمون اللهجة الحسانية من العرب ومن لحق بهم من السود، ويحتكر هؤلاء العرب كل شيء، الثقافة وهوية الدولة والاقتصاد والإعلام، رغم كونهم لا يمثلون سوى 20% من عدد سكان موريتانيا وفق الحراطين.
وتعرف موريتانيا في السنوات الأخيرة، عمليات تحشيد كبرى من الأرقاء السابقين ومن يلحق بهم من فئات عرفت التهميش والظلم، الذي بات يغذي التمرد على مخلفات الماضي التي تخضع في هذه اللحظة لمساءلة ومحاكمة غير مسبوقة، فقد حفل ماضي المجتمع الموريتاني بالقسوة والجفاف، وورثت الدولة الحديثة تركيبة اجتماعية هشة وغير متجانسة ولم تُولِ الأنظمة المتعاقبة العدالةَ الاجتماعيةَ ما تستحق من عناية.
يتهم العديد من الموريتانيين، النظام الحاكم في بلادهم بتأجيج فتيل الصراع بين مختلف الفئات المكونة للمجتمع الموريتاني وضرب استقرار البلاد
وبات السلم الأهلي في موريتانيا، خاضعًا لعملية تحول مع صيرورة الحياة الانتقالية للمجتمع، فالسلطة ونخبها التي تعاقبت على الحكم خلال العقود الأخيرة قد فشلت في صناعة تحول اجتماعي، ومن الواضح أن الطبقات المهمشة في البلاد صنعت لنفسها نخبها المناضلة من الشباب الذين أسسوا المنظمات وابتعثوا من ركام الحاضر حراكًا قويًا شرع بصورة فعلية في التأسيس للتغيير عبر فعل نضالي قوي بات يفرض نفسه على الساحة الموريتانية.
وشهدت موريتانيا عامي 1989 و1990 مواجهات بين السود والبيض المور مما أدى إلى نزوح آلاف السود إلى السنغال ومالي، لكن عددًا كبيرًا منهم عاد اليوم إلى موريتانيا، ويعود تاريخ الجدل بشأن العبودية في موريتانيا إلى السنوات الأولى لاستقلال البلاد بداية ستينيات القرن الماضي، حينما كانت العبودية تنتشر بشكل علني بين فئات المجتمع الموريتاني كافة، سواء تعلق الأمر بالأغلبية العربية أم الأقلية الزنجية.
يذكر أن الحكومات الموريتانية المتتالية ألغت العبودية 3 مرات إلا أنها وكل مرة لا تتم محاكمة ممارسي العبودية على طائفة الحراطين، وجاء أول إلغاء عام 1961 مع حصول موريتانيا على استقلالها، وفي العام 1981 وبعد الانقلاب العسكري حرمت الحكومة العبودية، لكن ظلت العبودية تمارس ـ حتى في العاصمة نواكشوط ـ حتى عاقب عليها القانون عام 2007، إلا أن الغريب في الأمر أنه لم تتم ملاحقة ومعاقبة سوى حالة واحدة فقط عام 2011.
اتهامات للنظام بتأجيج الوضع
دعوة الحزب الحاكم لهذه المسيرة، يرى فيها بعض الموريتانيين، محاولة من نظام ولد عبد العزيز لتأجيج الوضع العام في البلاد، فكيف تنظم مسيرة ضد فئة من الشعب تمثل الأغلبية في البلاد، وضد مطالبهم المشروعة وفق قولهم.
مظاهرة رفضًا للعبودية في موريتانيا
ويطالب الحراطون بالمواطنة الكاملة وبإنصافهم وبالكرامة والحرية، ونجحوا في وضع ميثاق حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أبريل/نيسان عام 2013، هذا الميثاق عبارة عن عريضة مطلبية تحليلية مطولة تستقرئ تاريخ الحراطين في موريتانيا، ويؤكد في ديباجته “استمرار إقصاء هذه الشريحة” على الرغم من مضي أكثر من نصف قرن من الاستقلال، ويرى الميثاق أن موريتانيا (الدولة المتعددة الأعراق والثقافات بامتياز) لا تزال تفتقر لعقد اجتماعي جاد ومؤسس على قاعدة الانتماء المشترك لأمة موحدة.
ويتهم العديد من الموريتانيين، النظام الحاكم في بلادهم بتأجيج فتيل الصراع بين مختلف الفئات المكونة للمجتمع الموريتاني وضرب استقرار البلاد، حتى يتمكن ولد عبد العزيز من البقاء في السلطة، ويستفيد من خيرات البلاد دون أن يلتفت إليه أحد فالجميع مهتم بالصراع مع الفئة التي يراها عدوة له.