ترجمة وتحرير: نون بوست
لم تكن الأخبار التي انتشرت في رأس السنة الميلادية بشأن إقدام المملكة العربية السعودية على منع بث حلقة من برنامج “باتريوت أكت” ضمن باقة نتفليكس، الذي يقدمه حسن منهاج، الذي عمد إلى انتقاد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أمرا مفاجئا. وفي حين كشف الأمر عن مدى سخط السلطات السعودية، إلا أنه لم يكن غير متوقع.
تملك المملكة العربية السعودية تاريخا حافلا فيما يتعلق بفرض رقابة مشددة على وسائل الإعلام وانتهاك حقوق الإنسان. والجدير بالذكر أن قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية الذي ادعت المملكة أن الحلقة التي بثتها نتفليكس قد خرقته يعود إلى سنة 2007. وعلى الرغم من أن صعود بن سلمان وتوليه زمام الأمور في البلاد قد رحب به وقوبل بقدر كبير من الحماس من قبل الولايات المتحدة ووادي السيليكون، إلا أن إصلاحاته (السماح للنساء أخيرا بقيادة السيارة) تزامنت مع تواصل الانتهاكات (المئات من النساء “اختفين” على خلفية نشاطهن في مجال حقوق الإنسان). وتعد حادثة نتفليكس أيضا مؤشرا على الضغوط المسلطة على شركات التكنولوجيا في ظل التوجه العالمي للمملكة السعودية لتكريس الاستبداد الرقمي الذي ما فتأت وتيرته تتسارع.
خصص حسن منهاج، وهو كوميدي أمريكي، حلقة من برنامجه لتسليط الضوء على النظام السعودي بتاريخ 28 من تشرين الأول / أكتوبر، بعد مضي أسابيع على جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. وفي وقت لاحق، توصلت وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى أن ولي العهد، محمد بن سلمان قد أمر بشكل مباشر بتصفية خاشقجي. وخلال برنامجه، أفاد منهاج، قائلا: “ولكنه تمكن من التنصل من مسؤولية مثل هذه الممارسات الاستبدادية لسنوات عديدة دون مواجهة أي رد فعل حقيقي، تقريبا”. كما أشار منهاج إلى أنه وعقب سنوات من انتهاكات حقوق الإنسان، قد حان الوقت أخيرا حتى تعيد الولايات المتحدة النظر في طبيعة علاقتها مع هذا الحليف الاستراتيجي.
صرحت إليري بيديل، مديرة مجتمع دفاع في المنظمة غير الربحية التي تعنى بحرية التعبير، الأصوات العالمية، أن “حرية التعبير والتداول الحر للمعلومات وقع تقييدها بشكل كبير في المملكة السعودية من خلال فرض جملة من القوانين وعن طريق المعايير المؤسساتية والثقافية، فضلا عن العديد من آليات الرقابة الاجتماعية المختلفة”
كانت الحلقة المخصصة للنظام السعودي متاحة للمشاهدين في المملكة العربية السعودية على امتداد شهرين، إلى أن عمدت نتفليكس إلى حذفها خلال الأسبوع الماضي استجابة لطلب من قبل هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية. ويدعي المسؤولون السعوديون أن تلك الحلقة قد خرقت المادة السادسة من نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية في المملكة، الذي يجرم “إنتاج أو إعداد أو إرسال أو تخزين أي مواد إعلامية من شأنها المساس بالنظام العام أو القيم الدينية أو الآداب العامة أو حرمة الحياة الخاصة عن طريق الشبكة المعلوماتية أو أجهزة الحاسب الآلي”. عموما، لا تزال الحلقة محط الجدل متاحة للمشاهدين ضمن باقة نتفليكس خارج المملكة العربية السعودية.
من جهتها، صرحت إليري بيديل، مديرة مجتمع دفاع في المنظمة غير الربحية التي تعنى بحرية التعبير، الأصوات العالمية، أن “حرية التعبير والتداول الحر للمعلومات وقع تقييدها بشكل كبير في المملكة السعودية من خلال فرض جملة من القوانين وعن طريق المعايير المؤسساتية والثقافية، فضلا عن العديد من آليات الرقابة الاجتماعية المختلفة. وقع تكريس جهود حثيثة ونشطة لتقييد المعلومات التي يطلع عليها العموم ووجهة نظر الأفراد فيما يتعلق بقضية خاشقجي، لذلك يعتبر تحرك السلطات السعودية الأخير غير مفاجئ”.
في واقع الأمر، وجه المنتقدون اللوم لنتفليكس على خلفية استجابتها لطلب الرياض بسحب حلقة البرنامج الكوميدي. وفي بيان لها، أوردت سماح حديد، مديرة حملات الشرق الأوسط بمنظمة العفو الدولية، أنه “من خلال الخنوع لمطالب السلطات في المملكة العربية السعودية، باتت نتفليكس معرضة لخطر تسهيل تكريس سياسة المملكة القائمة على عدم التسامح فيما يتعلق بحرية التعبير ومساعدة السلطات على سلب الأشخاص الحق في حرية النفاذ للمعلومة”.
من جانبها، دافعت نتفليكس عن موقفها، مشيرة في بيان لها إلى أنها سحبت الحلقة فقط إثر إرسال المملكة “لطلب قانوني مشروع”. وعلى غرار العديد من شركات التكنولوجيا الأمريكية، تحاول نتفليكس جاهدة أن تلتزم بالقوانين المحلية بهدف النجاح في العمل على مستوى عالمي. ويبدو أن هذا الوضع مع المملكة العربية السعودية يعد نذيرا واضحا على ما سيحدث في المستقبل القريب في حال استمر بقية العالم في الانحدار نحو تكريس الاستبداد الرقمي. وقد تفاقمت وتيرة هذا الانسياق وراء الاستبداد الرقمي، الذي تشكل على مدار عقد من الزمن على الأقل.
قال مؤلف تقرير منظمة “فريدم هاوس”، أدريان شاهباز: “من الواضح في الوقت الراهن أنه مع إطلاق خدمات البث الرقمي في الأسواق الجديدة، ستعامل الحكومات هذه الخدمات بنفس الطريقة التي تعتمدها لتنظيم صناعة السينما والتلفزيون المحلية”.
في هذا الصدد، أشار تقرير جديد صادر عن المنظمة غير الحكومية فريدم هاوس، إلى أن 17 دولة على الأقل قد اقترحت أو مررت قوانين تقيد حرية التعبير على الإنترنت منذ حزيران / يونيو من سنة 2017. وعلى سبيل المثال، مررت السلطات المصرية قانونا يحظر أي موقع على الإنترنت “ترتأي أنه يمثل تهديدا للأمن القومي”، في حين يمكن أن يتعرض الأفراد الذين يتصفحون مثل هذه المواقع إلى السجن لمدة قد تصل إلى سنة كاملة. وفي إيران، أين أصبحت نتفليكس متاحة منذ سنتين فقط، عمدت السلطات إلى جعل قوانين الرقابة على الإنترنت أكثر تشددا وصرامة خلال السنة الماضية.
في الآن ذاته، كرست السلطات الإيرانية قوانين جديدة بشأن ما يمكن نشره ضمن تطبيقات التراسل. من جانبها، اقترحت تونس مشروع قانون لتجريم التشهير على الإنترنت، واللائحة تطول. ومن الجلي أن مثل هذا التوجه من شأنه أن يؤدي إلى شبكة إنترنت أقل حرية وأكثر بلقنة، حيث لكل أمة قوانينها الخاصة المختلفة، في حين أن شركات مثل نتفليكس ستواجه إشكاليات فيما يتعلق بسبل النشاط في أسواق معينة بشكل يستند إلى أخلاقيات معينة.
في هذا الصدد، قال مؤلف تقرير منظمة “فريدم هاوس”، أدريان شاهباز: “من الواضح في الوقت الراهن أنه مع إطلاق خدمات البث الرقمي في الأسواق الجديدة، ستعامل الحكومات هذه الخدمات بنفس الطريقة التي تعتمدها لتنظيم صناعة السينما والتلفزيون المحلية”. ويعنى ذلك أن الشركات ستخضع لمزيد من الضغوطات والرقابة على المحتوى السياسي والديني والاجتماعي الذي تقدمه في الدول التي لا تهتم سلطاتها كثيرا بحرية التعبير، وهو ما لم تكن لتقلق بشأنه إذا ما كانت خاضعة للقانون الأمريكي أو الأوروبي.
في الوقت الذي أثارت فيه إزالة شركة نتفليكس لحلقة من برنامج حسن منهاج موجة من الانتقادات، تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها الشركة بإلغاء عرض برامجها في العديد من الدول. فقد سبق للشركة العملاقة إلغاء ثلاثة حلقات من عروض مختلفة في سنغافورة بتعلة انتهاكها لقانون ضد الاستخدام الطبي للمخدرات. وبشكل عام، يقول المسؤولون في نتفليكس إن شركتهم تعمل على بث حلقات برامجها الأصلية في جميع الدول التي تعمل فيها وتلغي فقط العروض إذا ما صدر في حقها طلب إلغاء من السلط القضائية.
أورد شهباز قائلا إنه: “خلافا للدول التي تتبع أنظمة ديمقراطية، التي يمكن فيها للشركة الطعن ضد قرار ظالم من خلال اللجوء إلى المحاكم، تتقلص الخيارات المتاحة أمام نتفليكس بشكل كبير في مكان مثل المملكة العربية السعودية، إذ أنه لا بديل عن الامتثال غير التعرض لخطر حظر خدماتها داخل البلاد”.
من جهته، قال شهباز إن استجابة نيتفليكس لطلب السعوديين المتعلق بإلغاء بث الحلقة يتماشى مع أفضل الممارسات التي تنتهجها الشركات التي تتعامل بشفافية مع مثل هذه الضغوط الرقابية. وأضاف شهباز قائلا”: يجب عليهم أن يحددوا القانون الذي يلتزمون به بدقة، والمقطع الذي يرغبون بإزالته من المحتوى الرقمي، فضلا عن الخطوات التي يتخذونها لضمان أن يكون لهذا الإجراء أدنى تأثير ممكن على مبادئ حقوق الإنسان”.
وتابع شهباز قوله: “يبدو أن نتفليكس قامت بهذه الأمور الثلاثة بشكل جيد. لقد اتبعت القانون وحددت الحلقة المعنية وتمكنت من اتخاذ الإجراء الأفضل من بين الخيارات المتاحة، حيث لم تفرض رقابتها على الحلقة المعنية سوى داخل المملكة العربية السعودية”. وتجدر الإشارة إلى أن الشركة تركت الحلقة متاحة على قناتها على اليوتيوب.
في حال لم تلتزم شركة نتفليكس بهذه الطلبات، سيكون بإمكان السعودية حظر الموقع بالكامل. وفي شأن ذي صلة، أورد شهباز قائلا إنه: “خلافا للدول التي تتبع أنظمة ديمقراطية، التي يمكن فيها للشركة الطعن ضد قرار ظالم من خلال اللجوء إلى المحاكم، تتقلص الخيارات المتاحة أمام نتفليكس بشكل كبير في مكان مثل المملكة العربية السعودية، إذ أنه لا بديل عن الامتثال غير التعرض لخطر حظر خدماتها داخل البلاد”.
من الواضح أن حدوث هذا الأمر له تأثير سلبي على الشركة، ناهيك عن كونه سيحدّ من إمكانية الوصول إلى المعلومات. فعلى سبيل المثال، كانت المملكة العربية السعودية قد فرضت حظرا على جميع العروض السينمائية العامة دام 35 سنة، لتتخذ قرارا خلال الربيع الماضي بإنهاء هذا الحظر وافتتاح العروض السينمائية بفيلم “النمر الأسود”، وهو ما جعل نتفليكس طريقة فعالة ليشاهد من خلالها السعوديون المسلسلات التلفزيونية والأفلام والأفلام الوثائقية. وفي هذا الصدد، يقول بيدل إن تمتع السعوديون بجزء من الخدمة أفضل من لا شيء على الإطلاق.
يتطلب التصدي للأنظمة والقوانين القمعية التعاون بين المجتمع المدني وشركات التكنولوجيا والدول الديمقراطية الراغبة في الكفاح من أجل الحريات الرقمية
تواجه شركات على غرار نتفليكس نوعا من المقايضات المعقدة خلال تعاملها مع القوانين المحلية المتنوعة في كل دولة من دول العالم. ويبدو أن الالتزام بهذه القوانين يبدو أكثر صعوبة لدى مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تملك سيطرة على المحتوى الذي يُنشَر على منصاتها بشكل مشابه لنتفليكس، لكنها لا تزال ملزمة بالقوانين المحلية. ونظرا لعدم تمكنها من إعادة تشكيل منصاتها وفقا للمتطلبات الصارمة للحكومة الصينية، لا تعمل نتفليكس في الصين.
عند النظر إلى ما هو أبعد من رضوخ نتفليكس للضغوطات السعودية، نجد أن مثل هذه القضية تؤكد على قوة وجاذبية القوانين المحلية التي تحدد ماهية ونوع المواد التي يسمح بتداولها عبر الإنترنت. وعلى الرغم من أن حظر حلقة البرنامج التلفزيوني ساهمت في إبداء المشاهدين لاهتمام كبير بانتقادات منهاج، تتجاوز هذه القوانين حدود حلقة واحدة من برنامج نتفليكس الذي وقع حظره. وفي هذا الإطار، نشر مقدم البرنامج والكوميدي تغريدة مفادها: “من الواضح أن أفضل طريقة لمنع الناس من مشاهدة شيء ما هو حظره ثم جعله رائجا على الإنترنت ونشره على موقع يوتيوب”.
في حديثه عن القمع السعودي، ذكر منهاج أن المملكة تلقي بمواطنيها في السجن وتعمل على إسكاتهم وتصفيتهم في بعض الأحيان، كما تمنع المواطنين العاديين من الوصول إلى المعلومات الهامة. ومن جهته، قال شهباز إن “الحكومة السعودية أكدت ما قاله حسن منهاج بشكل لا ريب فيه، حيث سبق له القول إن أجندة الإصلاح التي ينتهجها ولي العهد محمد بن سلمان مجرد وهم مخادع، وتمثل في الواقع تدهوراً إضافياً للحرية السياسية في البلاد”.
في مقاله الأخير الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية بعد وفاته، كتب الصحفي الراحل جمال خاشقجي: “لقد كان هناك وقت اعتقد فيه الصحفيون أن الإنترنت ستحرر عملية نقل المعلومات من الرقابة والحظر اللذان لطالما خيّما على وسائل الإعلام المطبوعة. لكن هذه الحكومات التي يعتمد وجودها بشكل رئيسي على التحكم في المعلومات، عملت على مراقبة المحتوى الرقمي في الإنترنت بشدة”. والجدير بالذكر أن هذا المقال الأخير لخاشقجي حمل عنوان “أَمَسُّ ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير”.
في الحقيقة، يتطلب التصدي للأنظمة والقوانين القمعية التعاون بين المجتمع المدني وشركات التكنولوجيا والدول الديمقراطية الراغبة في الكفاح من أجل الحريات الرقمية. وفي حال أرادت الولايات المتحدة الأخذ بزمام المبادرة في سباق الدعوة إلى ترسيخ أسس الإنترنت المحايد، يجب عليها القيام بما طلبه منهاج في برنامجه التلفزيوني، أي التوقف عن غض الطرف عن انتهاكات حليفتها السعودية.
المصدر: وايرد