الأمر محير بالفعل! لكن التعذيب لا يزال في متناول أيدي الأمريكيين، لم يعد أحد يتساءل عما إذا كانت وكالة الاستخبارات قد عذبت شخصًا بإغراقه 83 مرة أم 186 مرة، لم يعد أحد يختلف حول الحقائق سواء كان من المدافعين عن التعذيب أو من يحتقرونه. لم يعد أحد يتساءل عما إذا كان هناك أحد قد قُتل في زنازين التحقيق الأمريكية جراء التعذيب (بالمناسبة، هناك العديدين قُتلوا) لقد صار واضحًا أن الكثيرين ما زالوا يعتقدون أن سياسة التعذيب، والتي سُميت بأدب “برنامج الاستجواب المعزز”، كانت مفيدة للولايات المتحدة.
يصادف يوم 28 أبريل الذكرى السنوية العاشرة لانتشار صور التعذيب في سجن أبو غريب، الذكرى العاشرة للحظة التي تم فيها نشر صور من داخل أكبر سجن في “العراق المحرر” تظهر الجنود الأمريكيين يهينون السجناء العراقيين في عدد لا يُحصى من الأساليب، أسلاك كهربية متصلة بأجسادهم، وأجساد متراكمة فوق بعضها في أوضاع جنسية مجبرون عليها، وكلاب تهاجم عراة مقيدين، والعديد من الصور الأخرى.
هذه كانت بداية الملحمة الأمريكية مع التعذيب، القصة التي بدأت فصولها ولم تنته بعد. تأتي الذكرى العاشرة والبيت الأبيض مع وكالة الاستخبارات وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ يتحاربون حول نشر ملخص لتقرير كُتب حول التعذيب في عهد بوش، تقول السي آي إيه إنه سيضر الأمن القومي، ويصر أعضاء مجلس الشيوخ على أهمية عرضه على الرأي العام الأمريكي.
بدأت الصدمة مع نشر الصور على برنامج “60 دقيقة” الأمريكي، تلاه بعد يومين فقط تحقيق من كاتب النيويوركر المخضرم “سيمور هيرش”، لقد رسم هيرش صورة لسياسة التعذيب المنهجي المتعمد، وتتبع أحداث أبوغريب عن طريق متابعة ضباط وكالة المخابرات، والمختصين في الاستجواب، والمترجمين، ومقاولي الدفاع، وحتى حراس السجن.
كان “هيرش” أول من وصف بالتفصيل ما الذي حدث في سجن أبوغريب بالعراق، واقتبس هيرش من “تقرير تاجوبا”، وهو خلاصة تحقيق داخلي سري في الجيش الأمريكي حول الانتهاكات ضد العديد من السجناء (سمى التقرير بذلك نسبة للواء أنطونيو تاجوبا، الذي قاد عملية التحقيق).
الوثائق التي سُربت حينها أثبتت أن تعريف التعذيب في السجلات الرسمية لوزارة العدل الأمريكية يشمل، إيقاف الأجهزة الحيوية للجسم أو الموت، ما يعني أن كل الأفعال التي لا ترقى لتلك الدرجة، ستكون مقبولة وفي إطار “القانون” المحلي والعسكري.
التقنيات التي اكتُشفت حينها للتعذيب كانت مرتبطة بأشياء مثل الحرمان من النوم والصفع والربط في حبال متدلية والإيهام بالغرق. الجميع كانوا يعرفون بهذه التقنيات، “جورج تينيت” مدير المخابرات الأمريكية حينها كان يعرف،” دونالد رامسفيلد” وزير الدفاع حينها وافق على استخدام “تقنيات خاصة” في التعامل مع المعتقلين، ومن المستحيل ألا يكون المدعي العام الأمريكي لم يكن يعلم، الجميع كانوا يعلمون.
مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي “روبرت مولر” اعترض على استخدامها، و”كولن باول” رفض فكرة تجريد المعتقلين من حقوقهم كأسرى حرب لأغراض التحقيق، “مايكل شيرتوف” رئيس الشعبة الجنائية في وزارة العدل، رفض إعطاء حصانة لهؤلاء الذين يستخدمون تقنيات التعذيب. كان هناك معترضون إذن، لكنهم كانوا من داخل البيت، ولم يخرج أحد منهم للعلن!
بعد تلك التسريبات، وبعد تلك المعلومات، كان من المفترض على الحكومة الأمريكية أن تتراجع عن انتهاكاتها للقانون، وأن تنهي برامج التعذيب، وأن تعاقب الجناة، لكن ذلك ثبت خطأه! فقد اختارت الإدارة الأمريكية أن تكذب وأن تنفي أن يكون هناك “تعذيب” بمعناه الحقيقي! واتهمت وسائل الإعلام والمدافعين عن الحريات المدنية بالمبالغة.
الرواية الرسمية المضادة كانت تتحدث عن براءة الأمريكي! لا تعذيب، لا سياسة منهجية، ولا مؤامرة، صور أبو غريب لم تكن إلا تفاحًا فاسدًا في سلة ممتازة، والجنود الذين فعلوا ذلك كانوا في حاجة للعقاب، لكن لا أحد آخر سيُعاقب.
الانتهاكات لم تغير الأمر كثيرًا بالنسبة للأمريكيين، فقد أعيد انتخاب “جورج بوش” رئيسًا بعد ستة أشهر من فضيحة أبوغريب.
الآثار المترتبة على انتخاب جورج بوش مرة أخرى انعكست على سياسة التعذيب، وظهرت في فضيحة أخرى.
ففي نوفمبر 2005 وثقت مراسلة واشنطن بوست “دانا بريست” وجود “المواقع السوداء” أو السجون السرية المملوكة لوكالة المخابرات المركزية في ثمانية بلدان حول العالم. أُنشئت تلك السجون لاستجواب المعتقلين دون خوف من التعرض للقانون الأمريكي، كانت الفكرة هي إيجاد مناطق مريحة للعمل لا يشكو فيها أحد، تستخدم فيها الاستخبارات ووكلائها في العالم تقنيات وحشية في الاستجواب.
في سبتمبر 2006 وقبل خمسة أيام من الذكرى السنوية لـ11 سبتمبر، أعلن بوش نهاية برنامج “المواقع السوداء”، هذا كان اعترافًا مباشرًا بوجود سياسة رسمية لاستخدام التعذيب الوحشي، لكن في الواقع، لم ينته البرنامج، وما زالت بعض المواقع السوداء تستخدم حتى الآن.
الدليل على أن جورج بوش لم ينه برنامج التعذيب الدولي ذلك، هو اليوم الذي دخل فيه “باراك أوباما” المكتب البيضاوي، حينها أصدر بوش أمرًا تنفيذيًا لينهي رسميًا طرق الاستجواب غير القانونية، لكن الحصانة ظلت موجودة، والإفلات من العقاب ترسخ أيضًا، حتى عندما أفرج أوباما عن مذكرات تفضح التعذيب قال إنه لا يبحث عن الانتقام، وأنه “ينظر إلى الأمام لا الوراء”.
حتى عندما حققت وزارة العدل في 101 حالات تعديب، بما في ذلك مقتل شخصين، لم تتهم الوزارة أي شخص! وكالة الاستخبارات دمرت أدلة الاستجواب والتعذيب، وفي أغسطس 2012، رفض النائب العام “إريك هولدر” التحقيق في وفاة اثنين من السجناء أثناء احتجازهم لدى وكالة الاستخبارات. لا مساءلة، ولا حساب على الإطلاق.
الفصل الأخير من القصة التي لم تنته بعد. منذ نهاية 2009، عندما بدأت لجنة من مجلس الشيوخ، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري العمل على معالجة هذا الموضوع، وبعد قراءة 6 ملايين صفحة من الوثائق، أنجزت تقريرًا من 6300 صفحة! وبعد نقاش حام قرر الكونغرس أن الملخص التنفيذي للتقرير والاستنتاجات النهائية يجب أن تُعلن على الملأ، بعد عرضها على وكالة الاستخبارات وفحصها للتقرير، وهو ما ترفضه وكالة المخابرات حتى الآن.
الأشرار في قصتنا كثر، من “ديك تشيني” نائب الرئيس جورج بوش إلى “ديفيد أدينغتون” مستشاره القانوني، إلى عملاء المخابرات المركزية الأمريكية الذين باشروا التحقيق، لكن السؤال الحقيقي: أين هم الأبطال في القصة؟!
إنهم ليسوا بالتأكيد “جون ماكين” الذي عُذب في حرب فيتنام، وتحدث أكثر من مرة عن التعذيب الذي يقوم به الأمريكيون، وليس “جيمي كارتر” الذي نذر نفسه لقيم حقوق الإنسان بعد تركه للرئاسة، وبالتأكيد ليس الرئيس “أوباما” الذي رفض أن ينظر إلى الوراء لمحاسبة المذنبين!
المصدر: ميدل إيست آي + نون بوست