تغريدة مثيرة للجدل نشرتها صفحة البعثة الدائمة لإثيوبيا في الأمم المتحدة على موقع تويتر وصفحتها على فيسبوك بتاريخ 27 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، جاء فيها “سد النهضة الإثيوبي العظيم يقترب من الاكتمال، تجدد حكومة إثيوبيا التزامها بإكمال السد وتغيير وجه إثيوبيا”، سريعًا حذف المسؤولون عن الحساب التغريدة التي رصدها “نون بوست”، والحذف يرجح أن يكون لأن مضمون التغريدة يتناقض مع ما أعلنه قبل أيام، مدير السد أوهور كيفلي عن تأخر إكمال المشروع الكبير إلى العام 2022.
تصريحات كيفلي عن تأخر اكتمال السد كانت صادمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى للمواطنين الإثيوبيين، إذ إنهم استقطعوا من رواتبهم وأجورهم لأجل التبرع للسد، أما الأغنياء من أبناء الشعب فقد استثمروا أموالًا ضخمة في كهرباء السد، وكان هؤلاء جميعًا يتوقعون أن تثمر إصلاحات آبي أحمد والقرارات الجديدة التي اتخذها بحق الإدارة السابقة للسد عن تسريع العمل فيه لا تأخيره أربع سنوات جديدة.
وعلى النقيض من ذلك، كان صدى حديث المدير مختلفًا في مصر، إذ احتفى الإعلام الموالي لعبد الفتاح السيسي بالتصريحات واعتبرها دليلًا جديدًا على فشل مشروع سد النهضة، بل زاد مقدمو برامج “التوك شو” بالقول إن “صفحة السد طُويت للأبد”.
المعلمون يسألون آبي أحمد عن مصير السد
لم ينته الأمر عند هذا الحد بالتأكيد، حيث استأثرت قضية السد على حيّز كبير من لقاء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي مع قرابة 4000 معلم من جميع أنحاء البلاد، التقى بهم صباح أمس السبت بالقاعة الكبرى التابعة لمكتب رئيس الوزراء في العاصمة أديس أبابا، وسألوه بشكلٍ صريحٍ عن مصير السد والأموال التي تبرعوا بها لصالح قيامه فأجاب قائلًا: “عملية بناء سد النهضة تسيرعلى قدم وساق وبنشاط مستمر حتى النهاية وسننتهي منه كما بدأناه”.
لم يحدد رئيس الوزراء الإثيوبي موعدًا لانتهاء العمل في السد بخلاف تصريحات سابقة لمسؤولين آخرين سنعود إليهم بالتفصيل، ولكن المهم في لقاء آبي أحمد مع المعلمين أنه دعا ـ في خطوة غير مسبوقة ـ إلى مواصلة دعم هذا المشروع الذي وصفه بـ”القومي والسيادي”، وتعهد بتقديم المسؤولين الذين تلوثت أيديهم بالفساد إلى العدالة في وقت قريب.
لقاء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مع 4000 معلم
جاءت توضيحات آبي أحمد للمعلمين بعد يومين فقط من إحاطة قدمها وزير الكهرباء والمياه الإثيوبي سيلشي بيكيلي أمام أعضاء مجلس النواب (البرلمان)، قال فيها إن بناء سد النهضة بالنسبة لإثيوبيا هو “قضية وطنية وفخرية”، بيكيلي واجه في البرلمان هو الآخر عاصفة من الأسئلة عن مصير السد على شاكلة: ما نتائج المفاوضات مع السودان ومصر؟ هل توقفت شركة المقاولات الإيطالية “ساليني” عن العمل؟ ماذا ناقشتم مع مدير المشروع السابق سميجنيو قبل مصرعه بيومين؟
وبالنسبة للأخير، شكّك بعض النواب بمصداقية نتائج التحقيق عن حادثة مقتل المدير السابق التي وصفت بأنها “انتحار” قائلين إن هذا أمر لا يصدق، كما كرر نواب البرلمان الإثيوبي السؤال الذي سأله المعلمون لآبي أحمد عن مصير الأموال التي جُمعت من الشعب لأجل بناء السد.
المتتبع للتطورات الأخيرة بداية من تصريحات المدير الجديد لسد النهضة، بالإضافة إلى التغريدة المحذوفة للبعثة الإثيوبية في الأمم المتحدة، مع أخذ التعاقدات الجديدة في الاعتبار يرى أن هناك حراكًا متصاعدًا من جانب الحكومة الإثيوبية لحسم الملف حتى يحسب إنجازًا لها في عهد آبي أحمد
خلال الإحاطة المطولة التي شهدت مشادّات كلامية بحسب وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية، كشف وزير الكهرباء، الخميس، أن بلاده ستبدأ إنتاج الطاقة من السد الكبير في ديسمبر/كانون الأول 2020، وأبلغ سلشي بيكيلي البرلمان بأن “الإنتاج الأولي المزمع سيبلغ 750 ميغاوات باستخدام توربينين اثنين”، وقال: “الحكومة تتوقع أن يدخل السد الخدمة بشكل كامل بنهاية 2022″، كما فصّل بأن مستوى الأداء في الأعمال المدنية لبناء سد النهضة وصل إلى 80%، بينما تنخفض نسبة إنجاز الأعمال الكهروميكانيكية إلى 25% فقط، والأخيرة هي عقدة تأخر إكمال المشروع وبسببها قام آبي أحمد باستبعاد شركة METEC التابعة لوزارة الدفاع من العمل في السد، وإخضاع قادتها للمحاسبة.
تعاقدات مع شركات فرنسية وصينية لتسريع العمل
عطفًا على ما ورد أعلاه، تعاقدت شركة الكهرباء الإثيوبية الأربعاء مع الشركة الفرنسية المُصنّعة للتوربينات الهيدروليكية “جي إي هيدرو فرانس”، لتوليد الطاقة من سد النهضة في 2020، وبموجب الاتفاق، ستقوم الشركة الفرنسية بتركيب 5 وحدات طاقة إلى جانب توربينين مُصمّمين مُسبقًا لتوليد الكهرباء من السد، إضافة إلى إنتاج توربينات أخرى بتكلفة قدرها 53.9 مليون يورو بالتعاون مع شركة “كوميليكس”.
بكين الشريك الأكبر لإثيوبيا، تحرّكت بدورها لإنقاذ السد، فبعد يوم واحد من زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي ولقائه مع القادة الإثيوبيين، وقّعت شركة الكهرباء الإثيوبية اتفاقًا آخر مع مجموعة باور(power) الصينية لبناء الهيكل الهيدروليكي الصلب في سد النهضة، ووفقًا للاتفاق فإن الشركة الصينية ستقوم بتصميم وتثبيت واختبار 11 توربينة، إلى جانب بناء قنوات لتنقية المياه والتحكم وتفريغ الفيضانات، ذلك مقابل 125.6 مليون دولار.
خلال توقيع الاتفاقية قال الرئيس التنفيذي لشركة الكهرباء الإثيوبية أبراهام بلاي إن سد النهضة مشروع وطني وضعت جميع الشعوب الإثيوبية بصمتها عليه، بينما تعهد مدير الشركة الصينية بإكمال جميع الهياكل الفولاذية الهيدروليكية في السد عام 2012 حسب التقويم الإثيوبي وهو ما يوافق العام 2021 حسب التقويم الميلادي العالمي.
هل سيكتمل سد النهضة عام 2022 فعلًا؟
المتتبع للتطورات الأخيرة بداية من تصريحات المدير الجديد لسد النهضة التي قال فيها إن المشروع سيتأخر 4 أعوام أخرى، بالإضافة إلى التغريدة المحذوفة للبعثة الإثيوبية في الأمم المتحدة، مع أخذ التعاقدات الجديدة في الاعتبار يرى أن هناك حراكًا متصاعدًا من جانب الحكومة الإثيوبية لحسم الملف حتى يحسب إنجازًا لها في عهد آبي أحمد الذي يتبنى سياسات إصلاحية ويسعى إلى إنهاء العمل في السد خاصة بعد الضغوط الشعبية التي تكثّفت أخيرًا.
لا يستبعد أن تفتح حكومة إثيوبيا من جديد ملف مقتل المدير السابق للسد سيمجنيو الذي يصفه كثيرون بـ”أبو السدود الإثيوبية”، خاصة بعد أن شكك نواب في البرلمان بمدى صدقية رواية الانتحار التي لم تكن مقنعة لعامة المواطنين
كل الاحتمالات مفتوحة أمام تاريخ الانتهاء من سد النهضة، فقد عودتنا إثيوبيا على المفاجآت غير المتوقعة، ولا نستبعد مطلقًا أن تقوم بالإعلان عن اكتماله قبل التاريخ المحدد 2022 بعد أن كشفت عن قرب توليد الكهرباء في وقتٍ كان مدير المشروع يحدثنا فيه عن صعوبات فنية جمّة تواجه الانتهاء منه.
كذلك لا يستبعد أن تفتح حكومة إثيوبيا من جديد ملف مقتل المدير السابق للسد سيمجنيو الذي يصفه كثيرون بـ”أبو السدود الإثيوبية”، خاصة بعد أن شكك نواب في البرلمان بمدى صدقية رواية الانتحار التي لم تكن مقنعة لعامة المواطنين، فقد كان الراحل في طريقه لعقد مؤتمر صحفي يفترض أن يكشف فيه أسباب تأخر إنجاز المشروع الكبير وربما كان سيكشف المتورطين في عمليات فساد.
خيارات مصر بعد التطورات الأخيرة
حتى الآن لم تعلق مصر رسميًا على التطورات الأخيرة في شأن سد النهضة الذي تتخوف من تأثيره على حصتها من مياه النيل، إذ ذكرت صحيفة واشنطن تايمز الأمريكية في تقرير حديث لها أن القلق بدأ يزداد في مصر بينما يمضي القادة الإثيوبيون قدمًا في بناء سد النهضة، وتؤكد الصحيفة صحة ما ذكرناه بأن القادة الإثيوبيين يمنحون الأولوية لإنجاز هذا المشروع الذي يُعد أكبر منشأة للطاقة الكهرومائية في إفريقيا، وهو مشروع قومي متفق عليه في إثيوبيا ولن يستطيع آبي أحمد أو غيره إيقاف العمل فيه أو إبطائه فهذه عملية أشبه ما تكون بالانتحار السياسي.
لذلك، فإن حديث بعض الإعلاميين المصريين عن “لعنة الفراعنة” التي أطاحت بسد النهضة، وأن المشروع لن تقوم له قائمة بعد أن كان جزءًا من مخطط ممول من قطر وتركيا لتعبئة الإقليم ضد دور مصر في إفريقيا بحسب ما ورد في مقال للكاتب جمال طه بصحيفة الوطن، أمر يدعو إلى التعجب والاستغراب من إعلاميين يفترض أنهم كبار ليسوا كمثل مهرجي “التوك شو” مثل أحمد موسى ورفاقه.
تنتج إثيوبيا حاليًّا من الكهرباء كمية قليلة لا تتجاوز 4200 ميجاوات، ويحصل ربع مواطنيها فقط على الكهرباء بشكل منتظم مما يوضح بجلاء حاجتها الماسة إلى توليد الطاقة الكهربائية
وعن خيارات مصر في ظل التطورات الأخيرة، يمكنها استغلال الفترة الزمنية الطويلة نسبيًا لإيجاد حل وسط بشأن القضايا العالقة مع إثيوبيا، وأهمها قواعد ملء بحيرة السد، حيث تصر أديس أبابا على فترة 3 سنوات فقط، بينما تطالب مصر بفترة طويلة قدرها 10 سنوات حتى يمكنها تفادي نقص حصتها من المياه، كما يمكن لحكومة السيسي اللجوء لخيار إدخال الخرطوم كوسيط بينها وبين إثيوبيا بعد التحسن الواضح في مسار العلاقات السودانية المصرية، هذا بالطبع إذا ما قُدّر لحكومة البشير الصمود في وجه التظاهرات المتواصلة التي تشهدها البلاد منذ الـ19 من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
تنتج إثيوبيا حاليًا من الكهرباء كمية قليلة لا تتجاوز 4200 ميجاوات، ويحصل ربع مواطنيها فقط على الكهرباء بشكل منتظم مما يوضح بجلاء حاجتها الماسة إلى توليد الطاقة الكهربائية، وعند انتهاء سد النهضة يفترض أن ينتج نحو 6450 ميجاوات من الكهرباء لأغراض الاستهلاك المحلي والتصدير، وللمقارنة هو إنتاج يزيد بأكثر من 3 أضعاف على ما ينتجه السد العالي في مصر، مما سيجعل إثيوبيا أكبر مصدر للطاقة في إفريقيا، هذا بعد أن ينضم سد النهضة لسدي نهر “أومو جيلجل جيب” الثاني والثالث، ما سيتيح لها تنفيذ خطتها الإستراتيجية الطموحة التي تهدف إلى تحويل البلاد لواحدة من أكبر وأرخص موردي الطاقة في القارة السمراء وهي في الوقت الراهن تصدر الكهرباء لكل من السودان وجيبوتي وتحصل منهما على ملايين الدولارات حتى قبل أن يكتمل سد النهضة.