تكثر الأحاديث في الفترة الأخيرة داخل أروقة السلطة الإيرانية أن إبراهيم رئيسي المرشح الرئاسي السابق والوصي على أقدس مزار في إيران، سيحل محل رئيس السلطة القضائية الإيرانية صادق أملي لاريجاني في صيف عام 2019، وسط تكهنات بأنه يجري إعداده من الحرس الثوري والمرشد الأعلى الحاليّ آية الله علي خامنئي، ليكون المرشد الأعلى الثالث في تاريخ الجمهورية الإسلامية، منافسًا لهاشمي شاهرودي وصادق لاريجاني الذي يقترب من تعيينه كرئيس لمجلس تشخيص مصلحة النظام.
وفي التصريحات الأخيرة إلى وسائل الإعلام، لم يستبعد رئيسي – المقرب من خامنئي، الذي يشغل عدة مناصب عليا في النظام – هذه الأقاويل، ولم ينف الأنباء التي تحدثت عن تعيينه رئيسًا للسلطة القضائية الإيرانية رغم سمعته السيئة وتاريخه الدموي كونه كان قاضيًا في “لجنة الموت” المسؤولة عن تصفية آلاف السجناء السياسيين في سجون إيران صيف عام 1988.
المرشح الصاعد.. تلميذ خامئني المتشدَّد
إبراهيم رئيسي، البالغ من العمر 58 عامًا، طالب وأحد الأتباع المخلصين للمرشد الأعلى الإيرانى الحالي آية الله خامنئي، ومثل معلمه، ينحدر من مدينة مشهد، وينتمي إلى معهدها الديني الشهير، وهو متزوج من ابنة آية الله علم الهدى، وهو رجل دين متشدد، يعمل كممثل لخامنئي وإمام الجمعة في مقاطعة خراسان رضوي الشرقية، موطن ضريح الإمام الرضا، ثامن الأئمة الإثنا عشر.
انضم رئيسي إلى القضاء الإيراني عام 1981 كمدعٍ عام في مدينة “كرج”، وتمت ترقيته إلى منصب نائب المدعي العام لطهران عام 1985، وبعد ثلاث سنوات، وفي عام 1988، لعب دورًا بارزًا في عمليات الإعدام الجماعي لآلاف السجناء السياسيين، بمن فيهم أعضاء حركة مجاهدي خلق المنفية، وهي أكبر وأنشط حركة معارضة إيرانية تدعو إلى الإطاحة بالجمهورية الإسلامية.
بفضل الميزانية الكبيرة لمؤسسة “أستان قدس الرضوي” (المقدرة بـ1.2 مليار دولار)، تمكَّن رئيسي من إقامة تحالفات مع رجال دين آخرين وبناء شبكة واسعة من الفروع قادرة على حشد المؤيدين في جميع أنحاء البلاد
أدى تعيين آية الله خامنئي بوصفه المرشد الأعلى الجديد عام 1989 إلى تسريع صعود رئيسي في صفوف القضاء الإيراني، وفي عام 1989 أصبح المدعي العام لطهران، ورئيس هيئة التفتيش العامة في عام 1994، والنائب الأول لرئيس القضاة في إيران عام 2004، وبعد ذلك بعام، طلب منه الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد قيادة وزارة الاستخبارات والأمن، لكن رئيسي رفض العرض، مفضلاً أن يحتفظ بمنصبه الأقوى في السلطة القضائية.
وفي عام 2014، عينَ لاريجاني – رئيس البرلمان – رئيسي باعتباره المدعي العام لإيران، وهو أيضًا عضو في مجلس خبراء القيادة، وهي هيئة تداولية تتألف من 88 عضوًا، ويخول إليها مهمة تسمية وعزل قائد الثورة الإسلامية في إيران.
ومنذ عام 2012، عمل رئيسي أيضًا كمدعي عام في المحكمة الدينية الخاصة (SCC) أو Dadgahe Vizheh-ye Ruhaniyat”“، التي تم تشكيلها في السنوات الأولى من الثورة لمقاضاة ومعاقبة رجال الدين المخالفين، ومع ذلك، على مر السنين حولت قيادة البلاد المحكمة إلى أداة تساعدهم في السيطرة وإسكات أي من رجال الدين المنشقين.
أدى تعيين آية الله خامنئي بوصفه المرشد الأعلى الجديد إلى تسريع صعود رئيسي في صفوف القضاء الإيراني
بالإضافة إلى العديد من المناصب القضائية العليا، عيَّن آية الله خامنئي في مارس عام 2016 رئيسي رئيسًا لمؤسسة مؤسسة “أستان قدس الرضوي” (Astan Quds Razavi)، المؤسسة الخيرية الغنية والمؤثرة التي يسيطر عليها مكتب المرشد الأعلى، وتدير ضريح الإمام رضا، الذي يجذب الحجاج الدينيين من إيران وخارجها.
من خلال هذا التعيين، يشرف رئيسي على الإمبراطورية التجارية مترامية الأطراف للمؤسسة، التي تبعث الهبات المالية للجمعيات والمؤسسات الدينية، وهو ما ساعده على تطوير علاقة وثيقة جدًا مع فيالق الحرس الثوري الإيراني (IRGC)، وهو شريك عقائدي واقتصادي معروف للمؤسسة.
وبفضل الميزانية الكبيرة لمؤسسة “أستان قدس الرضوي” (المقدرة بـ1.2 مليار دولار)، تمكن رئيسي أيضًا من إقامة تحالفات مع رجال دين آخرين وبناء شبكة واسعة من الفروع قادرة على حشد المؤيدين في جميع أنحاء البلاد.
بوصفه المدعي العام في المحكمة الجزائية المتخصصة، يتمتع رئيسي بالقدرة على تخويف أي معارضين داخل رجال الدين، حتى المستويات العالية منهم
ولعل الأهم من ذلك أن رئيسي، من بين كل المرشحين لخلافة خامئني، هو الذي لديه أقوى العلاقات مع الدولة العميقة، ففي العام الماضي، قام قائد الحرس الثوري الإيراني بزيارة لرئيسي في مدينة “مشهد” مع كبار الضباط لتقديم تقرير عن الأنشطة الإقليمية السرية للمجموعة، ويمكن رؤية رئيسي، في صور الاجتماع، جالسًا على كرسي، بينما ضيوفه جلوس على الأرض، وهو مشهد مهم من الاحترام والثقة لمؤسسة أمنية حريصة على أسرارها.
وعلى مدى 10 سنوات، كان رئيسي عضوًا في مجلس إدارة شركة سيتاد، وهي شركة قابضة تحت سيطرة خامنئي، لها مصالح في قطاعات الأدوية والعقارات والاتصالات والطاقة في إيران، وتملك الشركة، حسب رويترز للأنباء، أصولاً تبلغ نحو 95 مليار دولار، من خلال عمليات استيلاء على عقارات وبيعها بالمزادات العلنية.
رئيسي في مواجهة روحاني
في عام 2017، انتقل رئيسي إلى الساحة السياسية للمرة الأولى، ووقع ضد الرئيس الحاليّ حسن روحاني في الانتخابات الرئاسية، قائلاً إنها “مسؤوليته الدينية والثورية”، تمكن من الحصول على نسبة 38% من الأصوات، وفاز روحاني بنسبة 57% من الأصوات.
اُعتبرت هذه النتيجة في البداية بمثابة علامة على عدم شعبية رئيسي والنهاية المحتملة لطموحاته السياسية، لكنه أثبت أنه منتقديه على خطأ، بعد هزيمته الانتخابية، بقي في نظر الجمهور وأصبح شخصية سياسية أكثر بروزًا من خلال انتقاد سياسات روحاني والدفع باتجاه سياسات متشددة في الشؤون الداخلية والخارجية.
بصفته زعيم مؤسسة “أستان قدس رضوي” الغنية والمؤثرة، فإن لدى رئيسي ما يكفي من الأموال ورأس المال السياسي لشراء ولاء العديد من رجال الدين الذين سيكون لهم رأي فيمن يحل محل خامنئي
في المقابل، وبعد إعادة انتخابه عام 2017، انهارت شعبية روحاني نتيجة لسياسات اقتصادية غير فعالة وأزمات اجتماعية واقتصادية متفاقمة في جميع أنحاء البلاد، كما أن لديه العديد من النقاد في صفوف النخب المتشددة في النظام، وفي استطلاع حديث للرأي، قال 84% من المستجيبين أنهم غير راضين عن إدارته، في هذه الأثناء، تزداد شعبية رئيسي.
وباعتباره عضوًا بارزًا في مجلس خبراء القيادة، فإن رئيسي له تأثير كبير عبر مداولاته، وبصفته زعيم مؤسسة “أستان قدس رضوي” الغنية والمؤثرة، فإن لدى رئيسي ما يكفي من الأموال ورأس المال السياسي لشراء ولاء العديد من رجال الدين الذين سيكون لهم رأي فيمن يحل محل خامنئي، وبوصفه المدعي العام في المحكمة الجزائية المتخصصة، فإنه يتمتع بالقدرة على تخويف أي معارضين داخل رجال الدين، حتى المستويات العالية منهم.
علاوة على ذلك، يرتدي رئيسي عمامة سوداء، مما يدل على أنه من سلالة النبي محمد، وهذا يمنح قدرًا كبيرًا من الأقدمية في الثقافة الدينية والكثير من الاحترام، وعلى النقيض من ذلك، يرتدي كل من روحاني ولاريجاني عمامة بيضاء.
في الواقع، كان رئيسي أبرز المنافسين لمنصب آية الله خامنئي حتى قبل أن تُتداول الشائعات والأقاويل عن تعيينه المحتمل كرئيس جديد للقضاء، وكان يُنظر إليه، إلى جانب روحاني، كخليفين محتملين للمرشد الأعلى الإيراني، لكنه رغم فقر خلفيته الدينية قد يخطو على روحاني كما حل محله في رئاسة مجلس الخبراء.
المرشد الأعلى القادم؟
آية الله خامنئي يبلغ من العمر 80 عامًا تقريبًا، وهو في حالة صحية سيئة، وستشكّل وفاته أكبر تغيير سياسي في الجمهورية الإسلامية منذ وفاة المرشد الأعلى الأخير آية الله روح الله الخميني، وهو الأب الثوري المؤسِّس عام 1989، فالمرشد الأعلى هو أقوى شخص في إيران، ولديه سلطة مطلقة على أرجاء الدولة كافة، ويمكن لشخص جديد في هذا المكان أن يغير بشكل مثير اتجاه وفحوى السياسات الخارجيّة والداخلية لإيران.
رجال الدين يحضرون اجتماع مجلس الخبراء
وفي الساعات التي ستتلو موت خامنئي، من المحتمل أن يعقد رئيس مجلس الخبراء جلسةً طارئة لاختيار خليفةً ما، وعلى الرغم من أن العملية ليست راسخة أو منصوصًا عليها دستوريًا، فهناك سابقة تشير إلى أن المجلس سيختار أحد أعضائه البالغ عددهم 88 عضوًا.
ولأن أعضاء المجلس يعتنون بصورة كبيرة بحماية الدولة العميقة في إيران، فإن هذه المعايير تستبعد المرشحين الثلاث الذين غالبًا ما يتم ذكرهم في هذا الصدد، وهم حسن الخميني (حفيد الخميني)، والرئيس حسن روحاني، ومجتبا خامنئي (ابن خامنئي)، إذ لا تثق الدّولة العميقةُ في الأوّلين لميولهم الإصلاحية.
ستحتاج إيران قريبًا إلى مرشد أعلى جديد، يتمتع، مثله مثل خامنئي، بنزعات أيديولوجية متشددة من حيث السياسة الداخليّة والخارجية، وسلطة دينية مناسبة ولكنها ليست شاملة، وخبرة تنفيذية جيدة، وكل دلالة تشير إلى أن رئيسي سيقفز على هذا المنصب.
وفي الوقت الراهن، هناك سيناريو واحد لا يصبح فيه رئيسي المرشد الأعلى التالي لإيران، فوفقًا للدستور الإيراني، في حالة وفاة المرشد الأعلى، وعندما لا يمكن لمجلس الخبراء أن يقرر على الفور من الذي سيشغل المنصب، فإن البلد سيديره مجلس مؤقت يتألف من الرئيس، ورئيس السلطة القضائية، وواحد من أعضاء مجلس صيانة الدستور الستة، ولا يحدد الدستور تاريخ انتهاء صلاحية هذا الترتيب، مما يسمح لهذا المجلس بإدارة البلاد لأجل غير مسمى.
بالنسبة للكثير من الإيرانيين، فإن صعوده إلى السلطة سيثبت أن تغيير النظام من الداخل أمر مستحيل، وأن ثورة جديدة فقط يمكن أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا في البلاد
من الناحية النظرية، إذا لم يتول رئيسي السلطة القضائية في الوقت الذي يموت فيه آية الله خامنئي، فإن هذا يعني أن مثل هذا المجلس (المؤقت) يمكن أن يمنع تعيينه بشكل دائم كمرشد أعلى، ومع ذلك، إذا تم تعيينه في وقت أقرب، فإنه سيحصل على مقعد في المجلس المؤقت، ولن يمنعه شيء من تولي منصب المرشد الأعلى.
تعيين رايسي الذي لا مفر منه على ما يبدو كزعيم إيران الأعلى سيكون المسمار الأخير في نعش آمال الشعب الإيراني في إصلاح المؤسسة الدينية، وبالنسبة للكثير من الإيرانيين، فإن صعوده إلى السلطة سيثبت أن تغيير النظام من الداخل أمر مستحيل، وأن ثورة جديدة فقط يمكن أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا في البلاد.
ليس رئيسي سوى متشدد، وفي واقع الحال إن تعيين رجل الدين المحافظ رئيسًا للقضاء سيضمن فقط أنه سيكون المرشد الأعلى القادم للبلاد، إذا حدث هذا، فإن الثورة الإيرانية ستعيش تحت قيادة متشدد آخر، من المحتمل أن يقتل أي آمال متبقية للشعب الإيراني في التغيير السياسي.
وعندما يتولى رئيسي – المتابع المتحمس لآية الله خامنئي – دور المرشد الأعلى، سيواصل سياساته المحلية والإقليمية، وعلى الجبهة الداخلية، سيزيد من أسلمة إيران، وسيسعى إقليميًا إلى تعزيز “محور المقاومة”، ولسوء الحظ، من المرجح أن يؤدي هذا الواقع إلى دورة أخرى طويلة ومؤلمة من الحكم العشوائي والفوضى والعنف في إيران.