في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي استقال وزير النقل المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي؛ لأنه لم يستطع التصويت لصالح صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، ويعتقد أن صفقتها أسوأ من عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد ألقى بثقله وراء استفتاء ثان.
جاءت استقالة جو جونسون بعد 4 أشهر من استقالة شقيقه الأكبر بوريس جونسون من منصبه كوزير للخارجية، الذي استقال بعد ساعات من استقالة الوزير المكلف بشؤون “بريكست” ديفيد ديفيس؛ احتجاجًا على خطة رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي لإبقاء علاقات اقتصادية وثيقة مع الاتحاد الأوروبي بعد تفعيل “بريكست”، وعلى عكس شقيقه، كان بوريس جونسون من أنصار القطيعة الواضحة مع الاتحاد الأوروبي.
انقسام على الذات.. الأخوان جونسون نموذجًا
تمثل استقالة الأخوين في البرلمان البريطاني رمزًا للانقسامات العميقة حول “البريكست” في حزب المحافظين وحكومة ماي والبلد بأسره، لكن الشقيقين يختلفان بشكل لافت سواء في الأسلوب أو في الجوهر.
بوريس هو سياسي غير مجرد، غير مسؤول، وقائد يدافع عن طموح عارٍ للوصول. أما جو، فهو رجل دولة هادئ ووقور يضع المصلحة الوطنية فوق مصلحة حزبه، هدفه ليس تغيير القيادة، لكن السياسات، وهو قادر على وضع الأزمة الحالية في منظور تاريخي أوسع.
وزير الخارجية السابق بوريس جونسون ووزير النقل السابق جو جونسون المختلفان في موقفهما من “بريكست”
في بيان استقالته لرئيس الوزراء، ادَّعى جو جونسون، النائب عن أوربينجتون، أن الجمهور عُرض عليه “اتفاق سيترك بلدنا ضعيفا اقتصاديًا، دون أن يكون له أي دور في قواعد الاتحاد الأوروبي التي يجب أن يتبعها، فضلاً عن دخوله فى سنوات من عدم اليقين بشأن وتيرة الأعمال”، معتبرًا أن الخروج دون صفقة “سيلحق ضررًا لا حدود له على أمتنا”.
واستطرد في بيانه قائلاً: “أن تقدم للأمة خيارين غير جديين، الفساد والفوضى، هو فشل في فن الحكم البريطاني لم يُشاهد منذ أزمة قناة السويس”. الإشارة بالطبع إلى أزمة السويس عام 1956 التي تواطأ فيها رئيس الوزراء المحافظ الأسبق أنتوني إيدن مع فرنسا و”إسرائيل” لمهاجمة مصر بعد تأميم الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر لقناة السويس.
الفرق بين السويس و”بريكست” هو أن الأول ينطوي على استخدام القوة وهذا الأخير لا يفعل ذلك
منذ حوالي 63 عامًا، انتهت كارثة السياسة الخارجية التي يُقارن “بريكست” بها من ناحية الفشل الذريع، ويمكن القول إن السويس والأزمة الحالية كانتا تجارب متواضعة فيما يتعلق بالكرامة والهيبة الوطنية، لكن تصادم الغطرسة والواقع عام 1956 كان يتوقف على سوء تقدير واحد فقط، وليس على كثير أدى إلى كارثة اليوم.
في ذلك الوقت، أنهت واشنطن بشكل مفاجئ غزو إنجليزي-فرنسي لقناة السويس لحماية المصالح الإستراتيجية والمالية بعد تأميم مصر للممر المائي، وحصلت الولايات المتحدة على قرار من الأمم المتحدة يطالب بوقف إطلاق النار، وأصرت على وقف قروض صندوق النقد الدولي إلى بريطانيا ما لم يتم إنهاء الغزو، كما أبدت استعدادها لبيع السندات الحكومية الأمريكية التي كانت تدعم الجنيه، وبشكل مهين، توقفت بريطانيا عن العمليات العسكرية بعد 9 أيام من بدئها.
وعلى النقيض من ذلك، تحولت المملكة المتحدة من قوة أوروبية أساسية يحترمها العالم إلى موقف كان فيه لدى رئيسة وزرائها 20 دقيقة فقط تتضرع خلالها من أجل التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وعلى ما يبدو لا نهاية في الأفق، فلم يتغير شيء يُذكر منذ استفتاء عام 2016، الذي توقع بشأنه مؤخرًا السير إيفان روجرز، الممثل الدائم للمملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، أنه في غضون عامين “سنظل نواجه نفس النقاش حول السيادة والسيطرة مقابل الوصول إلى الأسواق”.
لماذا “بريكست” أسوأ من حرب السويس؟
كانت قناة السويس بمثابة خطأ استراتيجي هائل ونقطة تحول في التاريخ البريطاني لما بعد الحرب. الفرق بين السويس و”بريكست” هو أن الأول ينطوي على استخدام القوة وهذا الأخير لا يفعل ذلك. من ناحية أخرى، شكلت كلتا الأزمتين تحديًا كبيرًا أمام فن الحكم السياسي البريطاني؛ لذلك يمكن تعلم بعض الدروس اليوم من فشل الكفاءة السياسية البريطانية مرة أخرى عام 1956، كما قال وينستون تشرشل، الذي قاد بريطانيا في الحرب العالمية الثانية “كلما حدقت أطول إلى الخلف، استطعت النظر أبعد إلى الأمام”.
كان السياق الأوسع لكلا الأزمتين هو عدم اليقين فيما يتعلق بمكانة بريطانيا في العالم. وكان إيدن قد لاحظ افتتاحية لصحيفة “صنداي تايمز” في 16 يناير 1977، والتي كُتب فيها عنه: “كان آخر رئيس وزراء يعتقد أن بريطانيا كانت قوة عظمى وأول من واجه أزمة أثبتت أنها ليست كذلك”.
كان إيدن سياسيًا ذا ميول إمبريالية، بعيد كل البعد عن الواقع، وكانت قناة السويس بمثابة رد فعل على دبلوماسية السفن الحربية، أو “أيديولوجية العصا الغليظة” في تاريخ الولايات المتحدة، وتشير إلى السعي وراء أهداف السياسة الخارجية بمساعدة من استعراض جلي للقوة العسكرية، مما يعني أو تشكل تهديدًا مباشرًا للحرب، إذا إذا لم تتم الاستجابة لمطالب القوة الكبرى.
تمكن إيدن من الجمع بين “التمرد” بتجاهله القانون الدولي، و”الحماقة السياسية” في التواطؤ مع الإسرائيليين، و”عدم الكفاءة” التي تمثلت في فشل في تنفيذ عملية عسكرية
وفي مقال بصحيفة “الجارديان” البريطانية يرى الصحفي والسياسي البريطاني أندرو رونسلي، أن جو جونسون أخطأعندما قال إن “الفشل في فن الحكم البريطاني لم يُشاهد منذ أزمة قناة السويس”، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي –من وجهة نظره- أخطر بكثير من كارثة السويس عام 1956، وستكون عواقب “بريكست” سيئة لفترة أطول بكثير مما كان عليه الأمر في “إخفاق” السير أنتوني إيدن في الشرق الأوسط.
في النهاية، تمكن إيدن من الجمع بين “التمرد” بتجاهله القانون الدولي، و”الحماقة السياسية” في التواطؤ مع الإسرائيليين، و”عدم الكفاءة” التي تمثلت في فشل في تنفيذ عملية عسكرية، وكلفه ذلك في النهاية منصب رئيس الوزراء، لكن التراجع المتواضع من الصحراء علّم بلاده وخلفائه درسًا قيمًا ووحشيًا بالضرورة حول حدود سلطة بريطانيا ما بعد الإمبريالية.
لم تلحق أزمة السويس ضررًا دائمًا ببريطانيا، بل يمكن القول إن هذا الإخفاق كان لصالح هذا البلد من خلال القضاء على الأوهام حول مكانتها الحقيقة في العالم، ولم يكن هناك ضرر دائم على حزب المحافظين، فسرعان ما تخلى “المحافظون” عن إيدن، وواصلوا تحت قيادة هارولد ماكميلان، ليحققوا فوزًا ساحقًا في الانتخابات بعد أقل من 3 سنوات.
ثمن الإخفاق في “بريكست”
بلا جدال، كانت حرب السويس فاشلة، لكن النقاش الوحيد يتزايد حول أسباب الفشل، وهنا، مدرستان أساسيتان للفكر. ترى إحدى مدارس الفكر أن أزمة السويس كانت نتيجة لفقدان الأعصاب، وفشل قوة الإرادة الإمبراطورية. ووفقًا لهذه المدرسة الفكرية، فإن الخطأ الحقيقي لم يكن الشروع في هذه المغامرة بل التخلي عنها دون تحقيق هدفه الأساسي: الإطاحة بجمال عبد الناصر.
وبمجرد أن تراجعت بريطانيا، كانت الحجة قائمة، وكان “أي قرد حر في تحريف ذيل الأسد”، وكان البروفسور بكلية لندن للاقتصاد والمؤرخ البريطاني للشرق الأوسط إيلي كيدوري من أبرز المؤيدين لهذا الرأي، ففي حين لا يمتلك المؤيدون لبريكست خططًا خاصة بهم، لن يمنعهم ذلك من وصف السيدة ماي على أنها “الشريرة في هذه الفوضى البائسة”.
لافتة ساخرة لمطالبات الخروج من الاتحاد الأوروبي
أما مدرسة الفكر الأخرى، فتعتبر قناة السويس مؤامرة استعمارية قبيحة وعمل جنوني إمبريالي، نشأت من إيمان مبالغ فيه في قدرة بريطانيا على فرض إرادتها على بقية العالم. وفي الواقع، كان من غير المجدي اللجوء إلى القوة العسكرية عندما كان هناك خيار دبلوماسي ذي مصداقية لحل النزاع حول قناة السويس.
لم يكن ناصر “هتلر على النيل”، كما صوره إيدن، ولم تكن مصر ألمانيا النازية، ولم تكن دروس “الترضية” من الثلاثينيات سارية. كان قرار مهاجمة مصر خطًأ جسيمًا في الحكم، وهو عمل من الغطرسة وجرح ذاتي. وهذا هو “بريكست”.
وبسبب الإخقاق في السويس، دفع إيدن الثمن، فقد تحطمت مسيرته وسط نيران الحرب، لكن بالنسبة للبلد ككل، كان الضرر محدودًا. لم تكن قناة السويس السبب، بل هي انعكاس لنزول بريطانيا من قمة القوة العالمية. ربما كان له تأثير إيجابي واحد، فقد كان بمثابة فحص للواقع على صورة بريطانيا نفسها كقوة عظمى.
لن يساعد تثبيت وجه جديد في 10 شارع دونينغ بحي وستمنستر – حيث مقر الإقامة الرسمية ومكتب رئيس وزراء بريطانيا- في الغفران والنسيان لخروج بريطانيا الفظيع
مثل إيدن، لا يمكن لمؤيدي “بريكست” اليوم أن يدركوا التغيرات التي حدثت في النظام الدولي منذ عام 1945 والحدود التي يضعونها على قدرة بريطانيا على اتباع سياسة خارجية مستقلة. إن فكرة ازدهار بريطانيا العالمية خارج الاتحاد الأوروبي تستند إلى الجهل ويغذيها الحنين إلى أيام الإمبراطورية القديمة.
وسرعان ما تلاشت أزمة السويس من دائرة الجدل وانزلقت في كتب التاريخ، لكن بريطانيا والمحافظين فيها سيعيشون مع عواقب الخروج من الاتحاد الأوروبي على مدى سنوات آتية، قد تمتد لعقود، وإذا كان النكسة الاقتصادية سيئة، فلن يتمكن حزب المحافظين من تكرار الحيل التي مورست بعد أزمة السويس، ولن يساعد تثبيت وجه جديد في 10 شارع دونينغ بحي وستمنستر – حيث مقر الإقامة الرسمية ومكتب رئيس وزراء بريطانيا- في الغفران والنسيان لخروج بريطانيا الفظيع.