تعاملت العديد مع وسائل الإعلام والمتابعين مع الدستور التونسي على أنه الدستور الذي يمثل الثورة التونسية، ورغم الإنجاز الحقيقي الذي حققه الدستور، والتوافق الكبير الذي حازه، إلا أن مركز كارنيجي للأبحاث أظهر أن هناك العديدين ممن يعبرون عن إحباطهم من الدستور لأسباب تبدو وجيهة.
“الدستور الجديد هو قبلة الموت على جبين الثورة”. هذا ما أفصح به ناشط شاب خلال اجتماع عُقِد مؤخراً لمناقشة التحديات التي تواجه تونس بعد سنوات ثلاث من الانتفاضة التي أطاحت الرئيس آنذاك زين الدين بن علي. وأضاف إلى ذلك زميل له: “هذا الدستور شكّل خيانة لمباديء الثورة، لأن المطالب الرئيسة لأولئك الذين نزلوا إلى الشوارع لم ترد فيه. فنحن نواصل الاعتماد اقتصادياً على أوروبا، ولم نتلمّس مسألة العدالة الاجتماعية في أي مكان”.
قد تكون هذه تهمة قاسية أُلصقت بعملية كالت الثناء عليها الأسرة الدولية بوصفها اتفاقاَ شكّل معلماً بارزاً وعلامة فارقة بين القادة السياسيين، الذين تمكنوا من إبرام تسوية لمصلحة مستقبل تونس. لكن على الأرض، يشعر العديد في تونس، يافعون ومسنّون، بالقنوط واليأس. فسائقو سيارات الأجرة، وأصحاب المتاجر، وأساتذة الجامعات، وآخرون، يُطلّون على الدستور، الذي أقرته الجمعية الوطنية التأسيسية، على أنه حصيلة عملية سياسية نخبوية لايثقون بها.
ورغم أن إقرار الدستور الذي جرى التوصل إليه، يمثل نقطة تحول دقيقة للمنطقة ككل، إلا أنه، ومثل دول أخرى، ثمة عقبات وعوائق كأداء أمام هذه العملية، ولايزال يتعيَّن بذل المزيد من الجهود لوضع تونس حقاً على مسار مستقر وديمقراطي. فالشيطان يكمن في التفاصيل، كما ورد في تقرير كارنيجي الذي أعدته الباحثة مهى يحيى.
عملية صياغة الدستور كانت طويلة ومديدة، بدأت في 2011، لكنها اعتُرضت بأزمات أفرزتها سلسلة من أعمال العنف السياسي والتظلمات الاجتماعية- الاقتصادية، اُغتيل قياديين سياسيين يساريين، واشتعلت مسيرات حاشدة ضد حكومة النهضة، وكادت الجمعية الوطنية التأسيسية المنوطة بكتابة الدستور أن تتحلل بعد أن أعلن 60 عضوا فيها استقالتهم. ثم مالبثت البلاد أن واجهت صدمة أخرى حين تم قتل ثمانية جنود في 29 تموز/يوليو كانوا يلاحقون أعضاء تنظيم القاعدة على طول الحدود مع الجزائر. وهذه كانت أكبر خسارة تلحق بالجيش التونسي في تاريخه الحديث.
تحقق الخروج من الطريق المسدود بفضل الوساطة التي قامت بها أربع منظمات مجتمع مدني رئيسة- عُرِفت بشكل جماعي باسم “الرباعية”- وهي: الاتحاد العام التونسي للشغل، ورابطة حقوق الإنسان، ونقابة المحامين، واتحاد أرباب الأعمال. وقد أُعلن عن خريطة طريق تضمنت الدعوة إلى إقرار المسودة الأخيرة من الدستور في نهاية كانون الثاني/يناير. استقالت حكومة النهضة كجزء من بنود خريطة الطريق وحلّت مكانها حكومة تكنوقراط، ما أفسح في المجال أمام انتخابات برلمانية ستجري في وقت لاحق من العام 2014.
ويعتبر العديد من المراقبين في تونس، ان هذه تسوية هشّة اضطرت الاحزاب السياسية الرئيسة، خاصة النهضة، إلى إبرامها بضغط من لاعبين إقليميين ومن سياقات الأحداث، خاصة الانقلاب العسكري في مصر الذي أطاح بحكم الإخوان المسلمين، ولا يمكن كذلك القول إن النهضة لم تتعلم من التجارب الأخرى، فقد استفاد راشد الغنوشي من الحرب الأهلية الجزائرية حيث يرى أن الأغلبية التي حصدها الإسلاميون في الجزائر في كانون الأول/ديسمبر 1991، تبخّرت بسرعة وبعنف بسبب الخطوات المتسارعة التي اتخذها هؤلاء لفرض عقائدهم على المجتمع، في وقت كان فيه الإعلام، والاقتصاد، والجيش، لا يزالون تحت سيطرة المعارضة اليسارية والليبرالية. ولذا، لم يُرد تكرار الأخطاء نفسها.
وفي تقرير كارنيجي، قالت الباحثه أن العديد من الشبان أعربوا عن اعتقادهم أن عملية وضع الدستور نفسها اتسمت بالاقصاء لشرائح مجتمعية واسعة وباللامساواة في العملية التشاركية، خصوصاً على مستوى القواعد. اذ أنه لم تعقد سوى بعض المشاورات الوطنية خلال هذه العملية على مستوى المناطق. كما ان الخبراء الأساسين بالقانون الدستوري في تونس لم يكن لهم سوى دور استشاري، والجمعية الوطنية لم تكن ملزمة بأخذ ملاحظاتهم حول مسودة الدستور بعين الاعتبار، ولا أيضاً ملاحظات منظمات المجتمع المدني. وقد عززت هذه الممارسات الانطباع الشائع بأن قلة احتكرت هذه العملية. وهذا الرأي قوَّض حس الامتلاك الوطني لما يعتبره العديدون قصة النجاح الرئيسة في الانتفاضات العربية.
علاوة على ذلك، يعتبر العديد من الشباب أن مجموعات المجتمع المدني التي أثّرت على عملية وضع الدستور وفتحت الطريق السياسي المسدود، هي حركات “ملتحقة أو تابعة” لنظام بن علي. وهي تعتقد بأنه تم استبعاد المنظمات الأكثر حداثة زمنياً وتلك التي كانت تعمل على المستوى المجتمعي من العملية.
هذا الوضع يزداد تعقيداً بسبب الاجحاف الاقتصادي – الاجتماعي الذي لحق بالولايات (المحافظات) لعقود عدة من جراء الإهمال ونقص التنمية. ونتيجة لذلك، تواصل تونس التعرُّض إلى مروحة من الإضرابات العمالية في مدن وقطاعات ووزارات عدة.
الدستور التونسي حظي بمميزات جعلته الأول من نوعه في المنطقة، بتضمنه موادا تعتبر معالم فارقة. هذا أكثر وضوحاً في الفصل الأول الذي يحدد المباديء الأساسية للدستور التونسي. فالمادة الثانية، على سبيل المثال، تعرّف تونس بأنها “دولة مدنية تستند إلى مبدأ المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون”، وهي غير قابلة للتعديل في أي مراجعة مستقبلية للدستور. وبالمثل، المادة السادسة بالغة الأهمية لأنها تمنع اتهامات الردة، وهي أول مادة من نوعها في أي دستور في العالمين العربي والإسلامي.
الفصول التالية تتضمن عدداً من المواد المبتكرة والرائدة. فعلى سبيل المثال، المادة 46 تعترف بالحقوق المكتسبة للمرأة، وبالتالي فهي تغلق الباب أمام أي تراجع عن قانون الأحوال الشخصية، وتجعل المساواة أساس مشاركة النساء في المعتركين السياسي والاقتصادي. وهذه أول مادة من نوعها في بلد عربي. كما أن هذه المادة تلزم الدولة بوضع حد لكل أشكال العنف ضد المرأة. كما حقق الدستور إنجازاً نوعياً في المنطقة العربية عبر المادة 73 والتي تنص على حق كل ناخب تونسي، سواء كان ذكراً أو أنثى، في خوض الانتخابات لمنصب الرئيس.
علاوة على ذلك، يعترف الدستور بأن المعارضة السياسية عنصر رئيس في أي نظام سياسي(المادة 60)، وأن الهيئة القضائية المستقلة ضرورة لتعزيز الحكم الديمقراطي. والحال أن مختلف الأحزاب السياسية ناضلت طويلاً وبقوة للحصول على هذا الاعتراف. كما أن الوثيقة تُلزم الدولة بتأسيس عدد من الهيئات المستقلة، بما في ذلك اللجنة الدستورية لحقوق الإنسان، واللجنة الدستورية للتنمية المستدامة وحقوق الأجيال المستقبلية، واللجنة الدستورية للاتصالات المرئية والمسموعة التي ستُشرف على الإعلام.
لكن هناك عدد من المعارك التي يراها النشطاء ومؤسسات المجتمع المدني، لعلّ أكثر هذه المعارك إلحاحاً، هو النقاش المتواصل حول شكل قوانين الانتخاب الجديدة. سوف يشهد هذا العام انتخابات أساسية أربعة هي: الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية وانتخابات مجالس الولايات والانتخابات البلديّة.
تكمن المسألة الأساسية الثانية في النضال من أجل الحرية. ذلك أنّ بنوداً أخرى قابلة للتأويل أيضاً. فمثلا تكفل المادة 6 حرية الضمير وتحمي المقدّسات الدينية في آن، وهو مبدأ استُخدم أحياناً كثيرة لفرض رقابة على المفكّرين والإنتاجات الفنيّة ومنتقدي المعتقدات والممارسات الدينية حول العالم.
ورغم تناوله العديد من القضايا الهامة، إلا أن الدستور التونسي أرجأ أموراً كثيرة للبتّ في مرحلة التطبيق، الأمر الذي يفسح مجالاً كبيرا امام المناورات والألاعيب السياسية. هذا الأمر هو بمثابة سيفٍ ذي حدّين. ففي حين أنه يفتح إمكانية تقويض القواعد الجوهرية للعقد الاجتماعي الجديد، إلا أنه يسمح أيضاً لشرائح واسعة في المجتمع أن يتصرّفوا بموجب التزاماتهم كمواطنين، بالعمل سويا والحفاظ على المبادئ الأساسية لانتفاضتهم والحرص على عدم تقويض روحية الدستور واعترافه بالحقوق الجوهرية.
يقول مركز كارنيجي أن الدستور الجديد، على الرغم من التناقضات المتجذرة فيه، قد مهّد الطريق أمام إصلاح أكثر فعالية. وسيكون ضمان تأثيره الإيجابي على حياة المواطنين اليومية امتحاناً حقيقيّاً للديمقراطية. فالنضال من أجل مستقبل تونس قد بدأ للتو