قبل سنوات، كان الصحفي الأمريكي جيفري غولدبرغ يتناول العشاء في مطعم جاليليو في واشنطن مع ستيفن روزين، الذي كان آنذاك مديرًا لقضايا السياسة الخارجية في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، المعروفة باسمها المختصر “أيباك”، وفجأة، التقط روزين منديلاً أبيضًا من أمامه، ووجه كلامه إلى الصحفي الأمريكي: “هل ترى هذا المنديل؟ في غضون 24 ساعة، بإمكاني أن أحصل على توقيع 70 عضوًا في مجلس الشيوخ الأمريكي”.
هذه القصة التي نشرها غولدبرغ في مقال مثير للجدل في مجلة “نيويوركر” الأمريكية، في يوليو/ تموز 2005، رغم بساطتها، إلا أنها تكشف جانبًا مهمًا من كواليس وأسرار السياسة الأمريكية، التي تلعب جماعات الضغط واللوبيات دورًا كبيرًا في رسمها عبر ضخ أموال طائلة يزداد حجمها وتأثيرها من دورة انتخابية إلى أخرى لدعم مرشحين محددين سواء في انتخابات الكونغرس أو انتخابات الرئاسة.
ومع تعاظم دور المال السياسي في المشهد الأمريكي، واقتراب البيت الأبيض من استقبال ساكن جديد يحتاج إلى الدولار كمصدر رئيسي، تُثار التساؤلات: من أين تأتي هذه الأرقام التي تتعدى 7 أصفار؟ وأين تُنفق؟ وهل تؤثر على قرارات الرئيس المنتخب؟ وهل مَنْ يجمع أموالاً أكثر يحسم السباق؟ وما هي النظم والقوانين التي تنظم ذلك؟ أسئلة تجيب عليها صناديق الاقتراع وجيوب رجل الأعمال ولوبيات صناعة القرار.
منابع أموال الحملات الانتخابية
لم يحدد الدستور الأمريكي سقفًا لما يمكن إنفاقه لتمويل الانتخابات التي بات نظامها يعتمد على جمع الأموال وتمويل المرشحين، لكنه وضع ضوابط لمنع وإبعاد شبهات الفساد عن مصادر تمويل الحملات الانتخابية الرئيسية التي تأتي عبر عدة طرق تقليدية، أولها الحزب نفسه واشتراكات أعضائه، التي توفر المال للمرشحين، ويمكنها تمويل عرض إعلانات في وسائل الإعلام والمساعدة في تعبئة الناخبين.
أمَّا إذا كان المرشح في المستوى المادي للمليارديرات من أمثال إيلون ماسك أو جيف بيزوس أو حتى دونالد ترامب، فيمكنه تمويل حملته الانتخابية بنفسه، هذا إضافة إلى المساهمات التي يحصل عليها من كبار المتبرعين الذين يدفعون أكثر من 200 دولار.
وهناك تبرعات فردية تأتي من صغار المتبرعين، وهم أكبر قوة فاعلة في تمويل الانتخابات، إذ تشكل تبرعاتهم الحلقة الأقوى في دعم الحملات الانتخابية، فمنذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت عمليات دعم المرشحين من قبل أفراد عاديين تتعاظم، وهم ممن يتبرعون بأقل من 200 دولار.
ويشكل هؤلاء بحسب خبراء أكبر قوة فاعلة بعمليات الدعم، حتى أن الرئيس الأسبق جورج بوش، تلقى في عام 2004 أموالاً داعمة لحملته من هؤلاء الأفراد بنسبة بلغت 74% (272 مليون دولار) من الدعم المالي الإجمالي المقدم له بالانتخابات.
كما يمكن لمرشحي الحزبين الكبيرين بعد انتهاء الانتخابات التمهيدية الحصول على تمويل حكومي لحملته من جيوب دافعي الضرائب، ويصل التمويل إلى 123.5 مليون دولار، وفي حالة قبول أي من المرشحين هذا التمويل، يُحظر عليه جمع تبرعات أخرى، ويمكنه فقط إنفاق 50 ألف دولار أخرى من أمواله الخاصة.
لكن مرشحي الحزبين الرئيسيين لا يقبلون غالبًا التمويل العام، لأنه سيحرم المرشح من اللجوء إلى مصادر أخرى لجمع تبرعات تكون الرقابة عليها وعلى وجوه إنفاقها أقل إحكامًا من الأموال الحكومية، كما أن هذا يفتح الباب على مصراعيه لجماعات الضغط لتقديم الأموال أملاً في سياسات تزيد من نفوذها لتحظى باهتمام أكبر ومزيد من التأييد.
من الجدير بالذكر أن آخر مرة قَبِل فيها مرشح رئاسي التمويل العام كان جون ماكين في انتخابات 2008، وحصل حينها على 84 مليون دولار، فيما اعتمد منافسه آنذاك باراك أوباما على أموال التبرعات، ما منحه ميزة أكبر في حجم الأموال التي جمعها.
وأخيرًا هناك لجان العمل السياسي أو “باكس” (PACs)، وهي وسيلة سياسية لتمويل الانتخابات منذ أربعينيات القرن العشرين، وهي منفصلة عن الأحزاب السياسية والمرشحين الأفراد وليس لها سلطة رسمية، وهدفها جمع التبرعات السياسية وإنفاقها لصالح مرشح معين أو مجموعة مرشحين أو ضدهم، ويُسمح بإنشائها لأي أحد تقريبًا مثل الشركات والنقابات المهنية والاتحادات العمالية والجمعيات التجارية والجماعات النشطة وحتى المجموعات الأيديولوجية.
تعمل هذه اللجان على التأثير على نتائج الانتخابات، في أغلب الأحيان، من خلال تقديم الدعم المالي للمرشحين، لكن تصحبها قيود كبيرة على جمع المال وإنفاقه، فمثلاً، لا يحق لها الحصول على الأموال من الشركات أو النقابات، فقط من خلال المساهمات الفردية، وبحد أقصى 5 آلاف دولار سنويًا للفرد، على أن تنفق 10 آلاف دولار على كل مرشح بحد أقصى سنويًا (5 آلاف دولار للانتخابات التمهيدية و5 آلاف دولار للانتخابات العامة)، فضلاً عن 15 ألف دولار أخرى للجان الحزب.
وتعتبر الرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين (RPAC) – وهي أكبر الجمعيات التجارية في الولايات المتحدة بأكثر من 1.5 مليون عضو – مثالاً على تأثير هذه اللجان التقليدية، ففي عام 2022، تبرع أكثر من 15 ألف فرد للجنة العمل السياسي، وتبرع العديد منهم بأقصى مبلغ وهو 5 آلاف دولار.
ونظرًا لأن جميع التبرعات والمساهمات متاحة للجمهور، يمكننا أن نرى أن هذه الرابطة التي تلعب دورًا مهمًا في تشكيل سوق العقارات في الولايات المتحدة ساهمت بمبلغ 4 ملايين دولار للمرشحين الفيدراليين في عامي 2021 و2022، مقسمة بالتساوي تقريبًا بين الجمهوريين والديمقراطيين.
قضية “سيتزن يونايتد”.. نقطة تحول
كانت هذه الطرق التقليدية وحدها كافية لضخ الأموال تقريبًا، ولكن في عام 2010، حصل تحول غيَّر طريقة تمويل الانتخابات الأمريكية جذريًا.
في ذلك العام، سعت جمعية غير ربحية محافظة اسمها “سيتزن يونايتد” (Citizen United) إلى بث فيلم من إنتاجها ينتقد هيلاري كلينتون المرشحة في الانتخابات التمهيدية للرئاسة عن الحزب الديمقراطي آنذاك بجانب باراك أوباما، ولكن قوانين تمويل الحملات الانتخابية وقتها حظرت نشر أي مواد دعائية مؤيدة أو معارضة لمرشح بعينه خلال فترة ما قبل الانتخابات مباشرة.
وصلت هذه القضية التي رفعتها “سيتزن يونايتد” ضد لجنة الانتخابات الفيدرالية إلى المحكمة العليا للولايات المتحدة، وكان الحكم التاريخي بأنها قررت أن القيود المفروضة على الإنفاق السياسي المستقل أدت إلى انتهاك غير دستوري لحرية التعبير، وأقرت بحق الشركات والنقابات والمنظمات في التعبير عن آرائها السياسية ونشر الدعاية المؤيدة أو المعارضة للمرشحين، تمامًا كالأفراد، وأزال حكمها القيود المفروضة على الإنفاق السياسي المستقل.
شكَّل قرار المحكمة ضمن قرارات قضائية أخرى نقطة تحول في السياسة الأمريكية، وكانت النتيجة إطلاق العنان للشركات والمنظمات غير الربحية والاتحادات العمالية والأفراد الأثرياء لصب تمويل غير محدود في السياسة من مصادر خارجية دون أي متطلبات إفصاح أو قيود قانونية.
كما أحدث الحكم طفرة في تبرع رجال الأعمال والعائلات الثرية وإنفاقهم على تمويل الانتخابات لدعم أو معارضة المرشحين السياسيين، مما أدى إلى ظهور منظمات غير ربحية نشطة سياسيًا، وزيادة نفوذ الجهات المانحة على الرأي العام والتشريعات، وضاعف من حدة الجدل حول دور المال السياسي فيها.
ووفقا لـ”أوبن سيكرتس” (OpenSecrets)، وهي منظمة مستقلة تحقق في حركة المال السياسي وأنشطة اللوبيات، فخلال عقد واحد فقط على القضية، تضخم الإنفاق الخارجي غير الحزبي على الانتخابات إلى 4.5 مليار دولار، مقارنة بـ 750 مليون دولار فقط خلال عقدين قبل الحكم، أُنفق منها 1.2 مليار دولار على المرشحين والأحزاب والمجموعات الأخرى بواسطة 10 مانحين فقط من كبار الأثرياء وعائلاتهم.
وعلى الرغم من الوعود التي قطعتها المحكمة بأن المصالح المالية سوف تكون ملزمة بالكشف عن تبرعاتها السياسية، فقد منح الحكم سلطات جديدة للمنظمات التي تقدم أموالاً مشبوهة، وغمرت المجموعات التي لا تكشف عن متبرعيها الانتخابات بـ 963 مليون دولار من الإنفاق الخارجي، مقارنة بمبلغ زهيد قدره 129 مليون دولار خلال العقد السابق للقضية.
ونتيجة لتغول المال السياسي في الانتخابات الرئاسية، وتعاظم دوره في تحديد الرئيس الأمريكي، قال تقرير أصدرته اللجنة الدولية للانتخابات الديمقراطية والأمن برئاسة السكرتير العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، إن الولايات المتحدة تفتقر لمعايير الشفافية والضوابط في التمويل السياسي، ما يجعل من الديمقراطية محل انتقاد واسع في دولة تمثل رأس الهرم الرأسمالي في العالم.
المال السياسي.. تبرع أكثر شفافية أقل
لنفترض أن شخصًا فاحش الثراء يرغب في دعم مرشح معين أو يسعى للتأثير في السياسات العامة من خلال الانتخابات دون أن يتقيد بالحد المفروض على إنفاق الأفراد، ودون تُتبع الأموال التي ينفقها وتُنسب إلى شخصه أو عمله.
في هذه الحالة يصبح أمامه عدة حلول: يمكنه التبرع إلى إحدى الجمعيات الداعمة لمرشحه المفضل، والمعروفة باسم “501(c)(4)“، وهي منظمات معفاة الضرائب تشكل ثاني أكبر مجموعة من المنظمات غير الربحية في الولايات المتحدة، ويتم تأسيسها لغرض سياسي متأصل في الاعتبار، وتتنافس على التأثير على صنع السياسات والنتائج الانتخابية، ويمكنها تلقي مساهمات غير محدودة من الأفراد والشركات والنقابات، وتختلف عن منظمة 501(c)(3) بأنها يمكنها الانخراط في قدر غير محدود من أنشطة الضغط (اللوبي).
الحل الثاني يتمثل في أن ينشئ هذا الشخص الثري أو يتبرع لشركة حقيقية أو وهمية ذات مسؤولية محدودة يمكن استخدامها لأغراض سياسية، منها إخفاء هوية المانحين أو مصدر الأموال التي تُنفق نيابة عنه لدعم مرشحه المفضل.
وأخيرًا يمكنه أن يلجأ للحل الأكثر جاذبية، وهو التبرع لإحدى لجان العمل السياسي الفائقة (السوبر باكس)، التي ترعاها شركات أو نقابات وأفراد أيضًا يسعى كل منهم لاستقطاب جماهير كل مرشح.
وتختلف هذه اللجان عن لجان العمل السياسي التقليدية في أنها يمكنها جمع مبالغ غير محدودة من الأموال تنفق لصالح أي مرشح أو ضد أي مرشح آخر، وبلا قيود، لكن الضابط الوحيد هنا أنه لا يحق لهذه اللجان التبرع للحملات أو منح أموالها إلى المرشحين أو الأحزاب السياسية مباشرة، بل عليها أن تنفقها بنفسها على دعايات المرشحين، حيث تعرض الإعلانات وتضع اللافتات وتوزع مواد ترويجية دون التنسيق مع المرشح أو الحزب.
من ناحية أخرى، لا يُطلب من هذه اللجان تقليص إنفاقها السياسي على المرشحين الفرديين أو القضايا بسبب وضعها كمنظمات غير ربحية، ومع ذلك، يتعين عليها الكشف عن متبرعيها حتى تكون مسؤولة عن الأموال التي تنفقها، ولكن متبرعيها أنفسهم لا يتعين عليهم ذلك، ويمكنهم استخدام أسماء وهمية، ويكفل كذلك لهم القانون إطارًا من السرية.
وأعطت القدرة على جمع وإنفاق مبالغ كبيرة من المال للجان العمل السياسي الفائقة دورًا مؤثرًا في العملية السياسية في السنوات الأخيرة، وأدَّى هذا التركيز الشديد على جمع التبرعات إلى تغيير مشهد الانتخابات من خلال جعلها أكثر تكلفة والسماح لبعض المجموعات الممولة جيدًا بالسلطة لتشكيل النتائج السياسية.
كانت أكبر لجنة عمل سياسي فائقة مستقلة في انتخابات 2022 هي “صندوق قيادة مجلس الشيوخ” المتحالف مع زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، الذي أنفق 246 مليون دولارًا خلال دورة انتخابات 2022، ذهبت الغالبية العظمى من هذه الأموال ضد الديمقراطيين، لأن اللجنة لديها هدف واحد كما تقول على موقعها الإلكتروني، وهو “بناء أغلبية جمهورية في مجلس الشيوخ تدافع عن أمريكا ضد أجندة زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر والديمقراطيين في مجلس الشيوخ المدمرة من أقصى اليسار”.
المفاجأة أن الكثير من هذه اللجان الفائقة يقف وراءها نخبة من رجال الأعمال الأمريكيين المهتمين بتوجيه نتائج الانتخابات بما يتوافق مع مصالحهم الخاصة، على سبيل المثال، تبرعت مجموعة “بلاكستون”، إحدى أكبر شركات الأسهم الخاصة في العالم، بمبلغ 22 مليون دولار لصندوق قيادة مجلس الشيوخ. ومؤخرًا أعلن رئيسها التنفيذي ستيف شوارزمان، وهو أحد أبرز المليارديرات في “وول ستريت”، أنه سيدعم ترامب في الانتخابات.
بمقارنة هذه الأرقام بمثال لجنة العمل السياسي التقليدية (الرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين)، والتي ساهمت بمبلغ إجمالي 4 ملايين دولار في الانتخابات العامة، يمكن رؤية الفرق الصارخ في الحجم بين “الباكس” و”السوبر باكس”، وهذا لأن حكم قضية “سيتزن يونايتد” مكَّنت من توجيه أموال رجال الأعمال والشركات السرية إلى الانتخابات من خلال لجان العمل السياسي المستقلة والمنظمات الأخرى.
الأموال المظلمة.. مَنْ خلف الكواليس؟
بالحديث عن مصالح رجال الأعمال والأموال السرية في الانتخابات، يُثار تساؤل حول من يحسم نتيجة الانتخابات الامريكية، إرادة الشعب أم إرادة المتبرعين الأثرياء المجهولين؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي أولاً العودة إلى الأموال المظلمة، وهي تلك التي تُنفق في انتخابات سياسية بهدف التأثير على قرار الناخب، ولا يُكشف عن مصدرها.
وشقت هذه الأموال طريقها إلى الانتخابات الأكثر تأثيرًا في العالم عبر عدة قنوات، أكثرها شيوعًا منظمات الرعاية الاجتماعية غير الربحية التي يمكنها الانخراط في بعض الأنشطة السياسية وجمع مبالغ غير محددة من الأموال، وهذه المنظمات ليست ملزمة قانونًا بالكشف عن المانحين حتى لو كان ذلك الإنفاق موجهًا للتأثير على الانتخابات.
وفي حال اختارت هذه المنظمات عدم الكشف عن مصادر تمويلها، تعتبر في هذه الحالة مجموعات أموال مظلمة، لذا تعد هذه المنظمات خيارًا جذابًا للمتبرعين الذين يريدون التأثير على الانتخابات لكن لا يرغبون في الكشف عن هويتهم.
وفي كتابها الصادر في عام 2016، تحت عنوان “الأموال المظلمة: التاريخ السري للمليارديرات وراء صعود اليمين المتطرف”، تتبعت الصحافية الاستقصائية جين مايار تاريخ مليارات الدولارات التي يتحكم فيها الأخوان تشارلز وديفيد كوك، وكيف دعما المرشحين المحافظين والليبراليين والسياسات التي تغطي على أجنداتهما المظلمة الفعلية لعقود من الزمن، وفي المقام الأول معارضة لوائح تغير المناخ، وذلك بسبب امتلاكهما إحدى أكبر شركات النفط في أمريكا.
وفي نظر ماير، هناك تدفقات مالية تذهب إلى العديد من المنظمات التي تبدو مستقلة لكن في الواقع ممولة من نفس المصدر للأخوين المليارديرين كوك، بالإضافة إلى شبكة أخرى من المانحين الذين تجمعوا حولهما، والذين يشملون مئات المحافظين الأثرياء والمانحين الكبار الآخرين والمليارديرات اليمينيين الذين جرَّوا الحزب الجمهوري إلى اليمين أكثر فأكثر على مدار عقود من الجهود اليمينية المتطرفة لإعادة تشكيل السياسة الأمريكية.
قصة الأخوين كوك ليست سوى مثال يقود إلى قاعدة واضحة، وهي أن معظم الشركات الكبرى والأفراد الأثرياء البارزين ينشئون أو يشاركون في لجان سياسية فائقة لدعم مصالحهم، بما في ذلك عمالقة شركات التكنولوجيا وشركات الأسلحة وأباطرة الطاقة وغيرهم ممن يلقون بثقلهم المالي وراء حملات مرشحيهم.
أما بالنسبة للأحزاب، فلكل حزب أو مرشح مجموعة من اللجان الفائقة الداعمة له، فعلى الجانب الجمهوري، على سبيل المثال، هناك مجموعة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”، التي جمعت ملايين الدولارات من التبرعات لدعم حملة ترامب، وتضم قائمة مانحيها عشرات الأفراد والكيانات، وعلى رأسهم قطب المصارف تيموثي ميلون، الذي أنفق وحده أكثر من 165 مليون دولار لدعم الجمهوريين خلال العام الحالي فقط.
وهناك أيضا مجموعة “حافظو على أمريكا”، التي تدعمها الطبيبة الأمريكية الإسرائيلية ميريام أديلسون، أرملة إمبراطور القمار الراحل شيلدون أديلسون، التي تعهدت بإنفاق أكثر من مائة مليون دولار لإعادة انتخاب ترامب، على أمل أن يكمل مهمته غير المنتهية بالسماح لـ”إسرائيل” بضم الضفة الغربية، أسوة بما فعله زوجها المدفون حاليًا في القدس المحتلة، والذي استغل أمواله للضغط على ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في ديسمبر/ كانون الأول 2017.
ولدى الديمقراطيين قائمة خاصة بهم من اللجان الفائقة، وأبرزها “المستقبل إلى الأمام أمريكا”، التي يدعمها رجال أعمال مثل مؤسس ومالك مجموعة بلومبرج الإعلامية مايكل بلومبرج، وكذلك الرئيس التنفيذي السابق لشركة التكنولوجيا العملاقة “ألفابت” إريك شميدت، والمؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة “نتفليكس” ريد هاستينغ.
وهناك أيضًا مجموعة “محاسبة الجمهوريين” (RAPAC)، وهي مجموعة مناهضة لترامب، وعلى رأس مانحيها ريد هوفمان المؤسس المشارك لــ”لينكدإن” والشريك في صندوق “جريلوك” (Greylock) الاستثماري، ومجموعة “متحدون لأجل التقدم” (UFP PAC) التي يدعمها رجل الأعمال جورج سوروس المؤيد المثير للجدل للسياسات الليبرالية.
هذه مجرد أمثلة للطريق التي يسلكها رجال الأعمال وأصحاب المليارات الذين يُنظر إلى ثرواتهم على أنها ذات تأثير مزدوج، فهي ثقل قد يرسم بالفعل صورة مرشحهم المفضل، سواء كان رئيسًا أو نائبًا للرئيس أو حاكمًا أو عضوًا في الكونجرس، لكنه يمنح مالك الثروة أيضًا تاثيرًا عميقًا في الشؤون الاقتصادية من خلال الشركات التي يديرها وقدرتها على تشكيل سياسة البلاد وتوجيه دفة أحداثها.
مَنْ المستفيد أكثر؟
منذ الحكم في قضية “سيتزن يونايتد” الذي فتح الباب لتدفق سيل من الأموال المظلمة، ارتفع حجم التبرعات في الحملات الانتخابية، ففي سنوات 2000 و2004، كانت التبرعات عند حوالي نصف مليار دولار، وحوالي مليار دولار في انتخابات 2008، و1.3 مليار دولار في عام 2012، في حين كانت التكلفة الإجمالية للانتخابات الرئاسية في 2016 أقل من 2.4 مليار دولار، ووصلت إلى 6.6 مليار دولار في عام 2020.
قد يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال حول أكثر المستفيدين من الأموال المظلمة، هل هم الجمهوريون أم الديمقراطيون؟ في الواقع، رغم سعي الديمقراطيين المستمر إلى سد الثغرات التي تسمح للمتبرعين المجهولين بتمويل إعلانات سياسية باهظة التكلفة، استنادًا إلى قانون تمويل الحملات الانتخابية إلا أن الأرقام تكشف مفاجأة، ففي انتخابات عام 2020، وجهت جماعات اليسار الليبرالية أكثر من 514 مليون دولار من الأموال المظلمة لدعم الديمقراطيين مقابل نحو 200 مليون دولار دعمت الجمهوريين، وفق “أوبن سيكرتس”.
وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2020 تحديدًا، جذبت المجموعات الداعمة للرئيس جو بايدن دعمًا غير مسبوق من متبرعين مجهولين بلغ نحو 174 مليون دولار، وهذا المبلغ أكثر بـ 6 مرات من مساهمات وإنفاق الأموال المظلمة لدعم جهود إعادة انتخاب ترامب التي سجلت نحو 25 مليون دولار.
وبشكل عام، تجاوز إجمالي الأموال المظلمة مليار دولار في انتخابات عام 2020، شملت الإنفاق على الأنشطة المصاحبة للانتخابات والمؤتمرات والدعاية الانتخابية والإعلانات السياسية، وقد تصبح انتخابات عام 2024 رابع دورة انتخابية على التوالي يستفيد فيها الديمقراطيون من الأموال المظلمة أكثر من الجمهوريين.
وتتبعت “أوبن سيكرتس” منذ قرار المحكمة العليا في 2010 أكثر من 2.8 مليار دولار من الأموال المظلمة في سباقات انتخابية مختلفة، بينما يُعتقد أن الرقم الفعلي أعلى من ذلك بكثير، ويُتوقع ألا تكون انتخابات هذا العام استثناءً، وقد تحطم أرقامًا قياسية جديدة على صعيد الأموال الرسمية والمظلمة المنفقة.
أموال أكثر تعني فوز مؤكد؟
بدأت نائبة الرئيس كامالا هاريس بعد تسلمها الشعلة من جو بايدن بجمع أكبر قدر من التبرعات ليوم واحد في عام 2024، بمبلغ وصل إلى 46.7 مليون دولار خلال حملة جمع تبرعات شهدت انضمام متبرعين جدد بأموال صغيرة وفق مجموعة “أكت بلو” (ActBlue)، وهي منظمة غير ربحية مسؤولة عن جمع التبرعات عبر الإنترنت للمرشحين الديمقراطيين والمنظمات التقدمية.
وتقوم فلسفة “أكت بلو” على تمكين المانحين الصغار لدعم القضايا والمرشحين الذين يؤمنون بهم بسهولة، وتقول إنها جمعت أكثر من 2.9 مليار دولار للديمقراطيين والمنظمات التقدمية منذ تأسيسها في عام 2004، وكان شهر سبتمبر/ أيلول هو الشهر الأكبر في تاريخها.
UPDATE: As of 9pm ET, grassroots supporters have raised $46.7 million through ActBlue following Vice President Kamala Harris’ campaign launch. This has been the biggest fundraising day of the 2024 cycle. Small-dollar donors are fired up and ready to take on this election 🔥
— ActBlue (@actblue) July 22, 2024
ومن أبرز المرشحين والرؤساء الديمقراطيين الذين دعمتهم المنظمة جو بايدن وكامالا هاريس وباراك أوباما وهيلاري كلينتون، كما انخرطت المنظمة في دعم مرشحين تقدميين مثل بيرني ساندرز الذي استفاد بشكل كبير منها، وساهمت في دعم انتخابات الكونجرس والانتخابات المحلية والتشريعية.
ويبدو أن “أكت بلو” تتعامل في السنوات الأخيرة مع تبرعات سياسية أكثر من أي وقت مضى، فخلال الفترة بين يناير/ كانون الثاني 2017 وسبتمبر/ أيلول 2018، مر ما يقرب من 564 مليون دولار، أو حوالي 55% من جميع المساهمات من المانحين الأفراد للمرشحين الديمقراطيين للكونجرس، عبر المنصة، مقارنة بحوالي 19% في هذه المرحلة من انتخابات عام 2014، وفقًا لتحليل بيانات تمويل الحملات الانتخابية أجرته مؤسسة “فايف ثيرتي إيت” البحثية ومركز النزاهة العامة، وهي منظمة أمريكية إخبارية استقصائية غير ربحية.
وكشفت لجنة الانتخابات الفيدرالية أن مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس جمعت خلال 3 أشهر فقط (يوليو وأغسطس وسبتمبر) أكثر من مليار دولار، ما سمح لها بإنفاق مبالغ أكبر بكثير من حملة ترامب، وخلال شهر أغسطس/ آب وحده، وضعت حملة هاريس في جعبتها أكثر من 300 مليون دولار، متخطية رصيد منافسها الجمهوري بأكثر من الضعف.
مع تناثر المليارات هنا وهناك، يبدو أن رئاسيات 2024 ستخطف لقب الأغلى لتكون الأكثر تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة، حيث تتوقع التقديرات أن يتخطى الإنفاق فيها حاجز 20 مليار دولار، لكن هل هذه الميزة النقدية الهائلة التي تضع هاريس في موقع مريح من جمع التبرعات في السباق الرئاسي تعني أنها ستحسم الانتخابات لصالحها؟ الواقع أن دورات انتخابية متكررة دعمت مقولة مفادها أن “فن صناعة الرئيس الأمريكي يظفر به أصحاب الثروات”.
كذلك يقول تاريخ الانتخابات الأمريكية إن المرشح الأكثر إنفاقًا على حملته، والذي يجمع أموالاً أكثر، يفوز دائمًا بالسباق، وهذا يعني أن هوية ساكن البيت الأبيض رهنًا بحجم الأموال التي تصب في جعبته، وليست بجمع أكبر عدد من الأصوات عبر صناديق الاقتراع.
ومع ذلك، لا تخلو هذه القاعدة من الاستثناءات، ففي انتخابات عام 2016، التي شهدت تحولاً ملحوظًا في استراتيجيات الاستقطاب سرعان ما انعكست على الحملات الانتخابية، جمعت هيلاري كلينتون أموالاً أكثر بكثير من دونالد ترامب، وفي النهاية ألحق بها هزيمة ساحقة، وهذا يعني ببساطة أنه لا يشترط فوز المرشحين الحاصلين على تمويل ضخم لكن يمكن للمال أن يصنع أو يدمر حملات انتخابية.
ولا يبدو أن المال على أهميته يحرك السباق باتجاه هاريس في الأمتار الأخيرة، ففي فوضى الاستطلاعات، سيفوز ترامب بالانتخابات بهامش طفيف بالنسبة لصحيفتي “نيويورك تايمز” و”ذا هيل”، أما بالنسبة لصحيفة “واشنطن بوست”، فهاريس ستفوز أيضًا بهامش ضئيل، لذا فأي مساعدة في هذا الوقت سيتم تقديرها بشدة، خاصة أن الحملات الانتخابية أخذت وقتًا طويلاً، ما جعل التحدي هو كيفية الحفاظ على تفاعل الناخبين مع الحملة حتى موعد توجههم إلى صناديق الاقتراع.
وبحسب المؤرخ الأمريكي الآن ليختمان، الذي تنبأ بشكل دقيق بنتائج 9 من أصل 10 انتخابات رئاسية أخيرة، فإن المال السياسي له أثر كبير على اختيار الرئيس والتأثير بالعملية الديمقراطية، لكن ليس بالضرورة أن يحسم النتيجة بشكل قاطع، لأنه لو كان الأمر كذلك لترشح أغنى رجل بالعالم على منصب الرئيس، وضمن الفوز بكل سهولة.
في النهاية، تكشف استراتيجيات تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية عن تأثيرات عميقة تتجاوز مجرد التبرع لصناعة الرئيس القادم، إذ تمثل كل حملة رئاسية اختبارًا متجددًا لمبادئ الديمقراطية والهوية الوطنية التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تقتصر تلك الاستراتيجيات على تحديد مسار السياسة الداخلية فحسب، بل تتجاوزها إلى تحولات في السياسات العالمية.