استقبلت بكين يوم أمس 7 كانون الثاني/يناير 2018، وفداً أمريكياً على مستوى نواب الوزراء، لبدء مباحثات تجارية من شأنها وضع حل للتنافس الاقتصادي الفاعل بينهما، والذي يعكر صفو الأسواق الدولية.
وفيما صرحت وزارة الخارجية الصينية بأنها تسعى، فعلاً، للوصول إلى نتائج إيجابية وبناءة، قال الممثل التجاري الأمريكي، جيفري غيريش، إن الوفد ضم أيضاً نواب وزراء الزراعة والتجارة والطاقة والخزانة، بالإضافة إلى عدد من المسؤولين الكبار في تلك الوزارات وبيت الأبيض.
وفي معرض تفاصيل هذه المباحثات، يُتوقع أن تكون المباحثات شاملة لجميع السلع المُتبادلة بين البلدين. وتأتي هذه المباحثات في ضوء إظهار الطرفين “حسن نية” ظهرت للسطح باتفاق رئيسي البلدين، دونالد ترامب، وشي جين بينغ، على عقد هدنة مدتها 90 يوماً في الحرب التجارية.
واشتعل فتيل الحرب الاقتصادية بين البلدين بعد اتجاه ترامب نحو فرض تعريفات جمركية باهظة على الواردات الصينية للولايات المُتحدة. وهو ما ردت عليه الصين بفرض تعريفات جمركية مماثلة. الأمر الذي ردت عليه بكين برفع الرسوم على السلع الأمريكية بنسبة 25%.
يبدو أن الرئيس ترامب يبذل جهوداً حثيثةً للحفاظ على الموقع القيادي للولايات المتحدة على الساحة الدولية بما يشمل جميع الأصعد، وقد عكس ذلك من خلال رفع شعار “أمريكاً أولاً”
ويميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح بكين، حيث تجاوز فائضها التجاري 275 مليار دولار في تبادلاتها التجارية مع واشنطن عام 2017، علماً بأن إجمالي التبادل التجاري بين الطرفين وصل قرابة 600 مليار دولار في نهاية عام 2016. وتتركّز استثمارات الولايات المتحدة على الألمنيوم والصلب والإلكترونيات والملابس والآلات، بينما تستورد الصين فول الصويا وبعد المنتجات الزراعية الأخرى. من ناحية التبادل الاستثماري المباشرة الذي يُشير إلى الاستثمارات الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدمية الملموسة، وصلت الاستثمارات الصينية في الولايات املتحدة إلى 46 مليار دولار، بينما بلغت قيمة الاستثمارات الأمريكية في الصين 14 مليار دولار.
وفيما يتعلق بدوافع الرئيس ترامب وإدارته نحو إشعال فتيل الحرب التجارية مع الصين، يُشار إلى حزمة من الأسباب السياسية والاقتصادية. سياسياً، يبدو أن الرئيس ترامب يبذل جهوداً حثيثةً للحفاظ على الموقع القيادي للولايات المتحدة على الساحة الدولية بما يشمل جميع الأصعد، وقد عكس ذلك من خلال رفع شعار “أمريكاً أولاً”. وربما يحاول ترامب تكبيل قدرات الصين سياسياً وأمنياً من خلال البوابة الاقتصادية، لا سيما وأنه يتبنى منطق تعزيز توازن القوى عبر الحمائية الاقتصادية. فإدارة ترامب عرّفت الصين كدولة غريمة في استراتيجية الأمن القومي خاصتها، ربما لإطلاق الصين مشروعي “صُنع في الصين 2025 ” و”طريق واحد ـ حزام واحد”. ويقوم مشروع “طريق واحد ـ حزام واحد” تحديداً على بناء شبكات اقتصادية تجارية تمويلية تكسر الاحتكار الأمريكي للنفوذ التجاري على الساحة العالمية، من خلال توفير بديل للطرق التجارية الواقعة تحت هيمنة الولايات المتحدة، وإنهاء هيمنة الدولار الأمريكي عبر البنك وصندوق النقد الدوليين على مسارات التبادل التجاري والحركة التنموية العالمية، فضلاً عن دوره في فتح السوق الأوروبية على مصراعيها أمام السلع الصينية، مما يهدد السلع الأمريكية التي تعتمد على السوق الأوروبية بشكٍل كبير، ويُسهم في تأسيس علاقات تجارية وثيقة بين الطرفين تدفع بعض دول الاتحاد الأوروبي نحو المزيد من التنسيق السياسي والأمني مع الصين.
اقتصادياً، فمن الواضح جداً حجم الفائض التجاري لصالح بكين في الميزان التجاري بين البلدين، فذلك الفائض الذي يعني خروج عملة صعبة من المصارف الأمريكية لصالح المصارف الصينية، وهو ما لا يرغب فيه ترامب الذي يتبنى المنهجية الحمائية حيال الصناعة الأمريكية التي تُعاني التنافس من بضائع صينية أقل سعراً، ما يسبب انخفاض أسعارها، وبالتالي تراجع الحركة الصناعية وارتفاع معدلات البطالة.
تلعب الخلفية التجارية لشخصية ترامب التي تميل للاستفزاز المنافس، ومن ثم إلى المفاوضات التي تخدم طموحه، وتضطر الطرف الخصم لتقديم بعض التنازلات، دوراً في احتمال توصل الطرفين إلى صيغة توافقية.
وفي الإطار الاقتصادي أيضاً، تتبع الصين نهج دعم المُنتجات الصناعية عبر تقديم قروض بفوائد مُخفضة أو عبر خفض رسوم التصدير، ما يُسهم في إخفاض أسعارها، على العكس من النهج الاقتصادي الأمريكي الحكومي القائم على تطبيق قواعد الاقتصاد الحر غير المُطبقة لسياسات الدعم، مما يجعل المُستهلك الأمريكي يميل للسلع الصينية.
ولا ريب في أن لهذه الحرب آثار سلبية على الحركة التجارية العالمية، فالبلادن يتسنّمان قائمة الاقتصادية الأكبر على صعيد عالمي. ولعل أبرز مثال على التأثير السلبي للحرب بعد تبادل فرض التعريفات الجمركية، ارتفاع أسعار عدد من السلع الأمريكية على صعيد عالمي، ومن الأمثلة على ذلك ارتفاع أسعار مشروبات كوكا كولا.
وحول مدى إمكان نجاح المباحثات الفاعلة بين الطرفين، فيبدو أن سيناريو خروجها بنجاح نسبي هو السيناريو الأكثر رجوحاً. ويُعتمد في طرح هذا السيناريو على عدة عوامل ومؤشرات، يكاد أهمها إدراك الطرفين لأهمية التوافق في التبادل التجاري على وجه التحديد. إذ أن استمرارهما في تحدي بعضهما في ظل الحاجة المتبادلة، لا يُجدي نفعاً، ويضر بالمستثمرين والمُستهكلين، حيث أن أسعار السلع المُنتجة في كلا البلدين، سترتفع، وهو ما يؤدي إلى نقمة المواطنين. وتزداد عقلانية الطرفين في التوصل إلى صفقة، في ظل احتمال التأثير السلبي العام للحرب على الحركة التجارية العالمية، وبالتالي توجه الدول نحو إيجاد بديل للسلع الصينية والأمريكية على حدٍ سواء.
كما تلعب الخلفية التجارية لشخصية ترامب التي تميل للاستفزاز المنافس، ومن ثم إلى المفاوضات التي تخدم طموحه، وتضطر الطرف الخصم لتقديم بعض التنازلات، دوراً في احتمال توصل الطرفين إلى صيغة توافقية. عوضاً عن احتمال تدخل منظمة التجارة الدولية والبت في القضية على نحوٍ قد لا يسر الإدارة الأمريكية، كما تم في الدعوى الأخيرة التي رفعتها أنقرة ضد واشنطن، بعد رفع الأخيرة الرسوم المفروضة على الصُلب التركي بنحوٍ غير عادل مقارنة بالدول الأخرى.
أيضاً، لا يمكن إغفال أهمية الدور الدبلوماسي للصين في الأزمة الكورية. فالصين كانت الراعية و”المُيّسرة” لملف مفاوضات السلام بين واشنطن وبيونغ يانغ. ذلك الدور الذي تُعيره الإدارة الأمريكية الحالية أهمية جليلة، انطلاقاً من رغبتها الفعلية في الوصول إلى مُصالحة مع كوريا الشمالية، كي تتمكّن من تأسيس نفوذها الاقتصادي في منطقة بحر الصين الجنوبي بهدوء وبدون قلاقل.
تحاول الإدارة الأمريكية الحالية صياغة توازن قوى يضمن لها التفوق الاقتصادي في المقام الأول، ومن خلاله التفوق السياسي والأمني والعسكري
وربما يلعب الضعف الاقتصادي الحالي للصين جراء الركود العالمي النسبي في الاستهلاك، بعد ارتفاع سعر الدولار وفائدته مقابل العملات الأجنبية الأخرى، مما أدى إلى انخفاض القدرات الشرائية في أكثر من دولة، دوراً ملموساً في دفع الصين نحو إظهار ليونة خلال عملية المفاوضات.
في الختام، تحاول الإدارة الأمريكية الحالية صياغة توازن قوى يضمن لها التفوق الاقتصادي في المقام الأول، ومن خلاله التفوق السياسي والأمني والعسكري، حيث يرى رأس هذه الإدارة، دونالد ترامب، أن الاقتصاد القوي رأس مال كل مشروعٍ قوي. وتُدرك الصين أهمية الدور الأمريكي في الدورة الاقتصادية العالمية، لذا قد تجنح لاسترضاء شخص ترامب على وجه التحديد، من خلال منح الشركات الأمريكية فرصة رفع وارداتها إلى الصين، وتخفيف المنافسة مع السلع الأمريكية في بعض المناطق الجغرافية، وغيرها من الأدوات الأخرى.